Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Noocyada
حطام الدولة الرومانية الغربية التي استولى الهمج على أنحائها وكونوا فيها الدول الجديدة البدوية، وكانت الدولة الإسلامية القريبة من تلك الجبهة دولة الأندلس.
على أنه قد بدأت في أوروبا في القرن الثامن للميلاد حركة ترمي إلى توحيد الدول المسيحية وإعادة إنشاء دولة واحدة عظيمة شبيهة بدولة الروم الغربية القديمة.
وكان قوام تلك الدولة الجديدة شعب الفرنج تقوده أسرة من نسل البطل الفرنجي الكبير شارل مارتل صاحب الانتصار على العرب في وقعة «تور» سنة 732 بعد الميلاد، وهو الذي تعده أوروبا الغربية حاميا لها من سيل العرب الجارف الذي كان يهددها من الأندلس.
بلغت تلك الدولة شأوا كبيرا في أيام الملك شارلمان أو شارل الكبير حفيد شارل مارتل، ويمكن أن تعتبر دولته إعادة لسيرة الدولة الرومانية القديمة، مع فارق عظيم يجب ألا ينسى وهو أن تلك الدولة الجديدة كانت - في الواقع - دولة فرنجية؛ أي إن قوامها كان من الفرنج سلالة الهمج الذين اشتركوا في هدم الدولة الرومانية الغربية منذ ثلاثة قرون، فكانت دولة متسعة على رأسها حكومة واحدة ويحاول ملكها العظيم أن يجعلها شبيهة بالدولة الجليلة القديمة في نظامها، وإن كان لا يستطيع أن يعيد ذلك النور الذي انطفأ على يد أجداده الغزاة الأوائل.
فبعد قرون ثلاثة من سقوط رومة استقر العالم على حال جديدة، وأصبح فيه دول ثلاث أو أربع؛ ألا وهي دولة المسلمين، ودولة الفرنجة (الإمبراطورية الغربية)، والدولة الرومانية الشرقية.
نقول: دول ثلاث أو أربع؛ لأن دولة المسلمين في ذلك الوقت كانت - كما قدمنا - غير متحدة؛ فقد انفصلت بعض أطرافها فكانت دولا مستقلة أكبرها دولة الأندلس؛ ولهذا كانت دولة المسلمين في الواقع دولتين كبيرتين: دولة العباسيين المشارقة، ودولة المغاربة بني أمية بالأندلس. (2) علاقة الإسلام بأمم أوروبا منذ القرن التاسع
استقرت تلك الدول بعد ذلك الاضطراب الطويل الذي غير وجه العالم، وصارت لها فيما بينها علاقات وروابط، وتبدلت وجهة ما بينها من العلاقة إلى ما يكون عادة بين المتجاورين من علاقات معاملة ومنافسة ومنازعة، ولعل من أكبر ما يسترعي النظر في حروب المسلمين مع من جاورهم أن لفظ الجهاد كان لا يزال مستعملا؛ فلا نزال نسمع اسم ذلك (الجهاد) يعبر به المؤرخ الإسلامي عن حروب العباسيين أمثال هارون الرشيد والمعتصم مع الدولة الرومانية الشرقية، وكذلك يتردد ذلك الاسم - وهو الجهاد - في وصف حروب عبد الرحمن الأوسط مع جيرانه ملوك الفرنج وأمراء القوط بجبال الأندلس.
والحق أن ذلك اللفظ - وهو الجهاد - يجب أن يقصر على العصر الأول من غزوات المسلمين؛ أيام كان القصد الأول من الحروب بث الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض؛ فقد كان المسلمون إذ ذاك أصحاب مبدأ جديد وفكرة يريدون أن تسود العالم؛ فكان أول شيء في نظرهم إبلاغ الناس ما عندهم من الدعوة، والعمل على أخذهم بها ولو كلفهم ذلك مهجهم؛ فما كانوا يعبئون أيحاربون في صحاري قاحلة أم في وديان خصبة، ولا يبالون أنالهم بأس البرد أم حر القيظ في سبيل ما يدعون إليه. وكان العدو بعد الانتصار يصير صاحبا؛ له ما لهم وعليه ما عليهم إذا هو قبل دعوتهم.
وما كان لهؤلاء المجاهدين الأولين أن يفرقوا بين جنس وجنس أو بين لون من الناس ولون، بل إنهم كانوا يغلبون العدو وهم يرون أنهم يؤدون له أكبر خدمة بإبلاغه الدعوة وتمهيد السبيل أمامه إلى السعادة الأخروية. فكان شأنهم في ذلك شأن كل أصحاب الدعوات والمبادئ، ولكن لقد كان للجهاد عصره ثم انقضت الروح التي كانت تدفع إليه. ثم دخلت دولة الإسلام في دور حياة مدنية، وحلت في بلاد ذات مجد قديم، وسارت في مواطئ أقدام الأمم الغابرة، وأخذت بمدنياتها تدريجا، وتكونت فيها حكومات منظمة سلكت في معاملاتها مع جيرانها سلوك من تقدمها من الدول؛ فحلت العلاقات السياسية محل الحماسة إلى الدعوة الإسلامية؛ حتى لنجد هارون الرشيد - خليفة المسلمين - يراسل إمبراطور دولة الفرنج ويهاديه، ولعل ذلك كان التماسا لصداقته نكاية للدولة المتاخمة لدولته؛ نعني دولة الروم الشرقية، على حين نجد عبد الرحمن الأوسط بالأندلس يراسل إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ويهاديه؛ التماسا لصداقته ونكاية للدولة المتاخمة له وهي دولة الفرنجة. فهل إذا حارب الرشيد دولة الروم الشرقية أمكن أن نصف تلك الحرب بأنها جهاد من أجل فكرة دينية؟! وهل إذا حارب عبد الرحمن الأوسط دولة الفرنجة أمكن أن نعد ذلك جهادا بالمعنى الصحيح؛ ونعني به نشر دعوة الإسلام؟!
الحق أن الدول الإسلامية عندما تكونت واستقرت أصبحت في تعاملها مع من يجاورها من الدول دولة دنيوية لها علاقات ودية في جانب وعدائية في جانب آخر بحسب ما تقضي به مصلحتها، وأصبحت فكرة الجهاد المجرد غير حقيقية، وإنما أبقي اسم الجهاد مستعملا في وصف الحروب مع العالم المسيحي؛ سيرا على التقاليد الأولى وإعلاء من شأن الدولة بوضعها في مكان السائر على سنن أهل الدعوة الأوائل الأجلاء، وتبريرا للحرب واستنهاضا لهمة الناس؛ كي يبذلوا ما يرغب منهم بذله راضين شاكرين. أما من جهة المسيحيين فإنهم كانوا في حروبهم مع المسلمين إلى القرن العاشر لا يحاربون لأجل نشر مبدأ ديني، بل كانوا أصحاب بلاد يحاولون الدفاع عنها، وعلى ذلك لا يمكن أن تسمى حروبهم إلى ذلك الوقت حروبا دينية؛ إذ لم يكن لهم قصد من بث دعوة دينية. حقا لقد كان الفرنجة المسيحيون أحيانا يقومون بحروب دينية. ومثل تلك الحروب ما شنه شارل الكبير على ما جاور بلاده من سكسونيا الوثنية في أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع للميلاد، ولكن تلك الحروب كانت محلية قليلة الشأن، ويمكن أن نقول - بوجه الإجمال: إن العالم المسيحي قبل القرن الحادي عشر لم يعرف الحرب الدينية بالمعنى الصحيح، أو بقول آخر: لم يقم بحروب صليبية لبث دعوة المسيح في أنحاء الأرض بثا منظما في دائرة واسعة كما فعل العالم الإسلامي أيام الجهاد الأول، فإذا نحن جئنا بعد ذلك إلى القرن الحادي عشر ورأينا اسم الجهاد يتردد في أنحاء العالم الإسلامي من نهر دجلة في العراق إلى نهر دورو في الأندلس، وإلى جانب ذلك يتردد اسم الصليب على طول خط الحدود الفاصلة بين العالمين؛ العالم الإسلامي والعالم المسيحي. إذا رأينا هذا عرفنا أن هناك شيئا جديدا، وأن عاصفة قد ثارت فأعادت اسم الجهاد يهتف به من جانب المسلمين، وأثارت اسم الحرب الصليبية يهتف به من جانب المسيحيين، فما الذي أثار تلك العاصفة؟ (3) صريخ القسطنطينية
Bog aan la aqoon