Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Noocyada
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: مباحث تمهيدية لتاريخ صلاح الدين الأيوبي
الكتاب الثاني: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: مباحث تمهيدية لتاريخ صلاح الدين الأيوبي
الكتاب الثاني: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي
صلاح الدين الأيوبي وعصره
صلاح الدين الأيوبي وعصره
تأليف
محمد فريد أبو حديد
Bog aan la aqoon
مقدمة المؤلف
قد رأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تبدأ بسلسلة من المؤلفات في مختلف الموضوعات، وأسعدني الحظ أن اشتركت في تلك السلسلة بوضع كتاب في تاريخ «صلاح الدين الأيوبي وعصره».
وقد حاولت أن يكون قولي في ذلك الرجل العظيم جامعا ما كان له من الأعمال وما امتاز به من الصفات، مراعيا أن أجمع إلى دقة التاريخ بساطة الأسلوب، وألا أغلو في التفصيل غلوا يذهب بملامح الصورة التي قصدت إلى رسمها من صلاح الدين وعصره، ولم أقتصر في النظر على وجهة واحدة بل جمعت بين وجهتي نظر مؤرخي المسلمين ومؤرخي الفرنج؛ حتى لا يكون هناك ميل في الحكم إلا بمقدار ما تستوجبه عقيدتي التاريخية الخاصة؛ فلست أعتقد أن واجب المؤرخ السرد والحكاية، وإنما عليه واجب آخر هو المناقشة وإظهار ما يعن له من رأي.
وكان اختياري للكتابة عن حياة صلاح الدين؛ لأنه مؤسس دولة مصرية عظيمة يمكننا أن نعدها أولى الدول المصرية العظمى التي لا شبهة في مصريتها؛ فإن الدول التي سبقتها لم تكن دولا مصرية بحتة؛ وذلك أن دولة الطولونيين والإخشيديين لم تكن دولة بالمعنى الصحيح، بل كانت محاولات أولية، ولم تكن الدولة الفاطمية بمصر دولة وطنية بالمعنى التام؛ إذ جاء الفاطميون فاتحين بعد أن تأسست دولتهم في شمال أفريقيا، وحتى بعد أن أصبحت مصر مركزا لدولتهم كان المذهب الشيعي حائلا بينها وبين المصريين من أن يندمج بعضهم في بعض كل الاندماج ويكونوا حكومة وطنية صحيحة؛ فكانت دولة صلاح الدين بمصر أول الدول الوطنية العظمى التي جعلت لمصر مكانها العالي بين دول العالم في القرون الوسطى.
على أن لصلاح الدين مكانة فوق هذه؛ وذلك أنه كان البطل العظيم الذي أحرز الشرق على يديه النصر على الغرب في ذلك النضال الهائل الذي اهتز له جميع العالم، وهو النضال الديني المعروف بالحروب الصليبية، وقد كان صلاح الدين فوق كل هذا من أعظم الأفذاذ الذين ذكرهم التاريخ، وأن حياة العظماء أجدر أبواب التاريخ بالبحث؛ لما فيها من مواعظ وعبر، ولما يتخللها من مواقف جليلة.
وإنه ليسرني أكبر السرور أن اختارت اللجنة كتابي ليكون من رسائلها الأولى، وإني مدين لها في مراجعة الكتاب، وقد استفدت فائدة كبرى من ملاحظات لجنتها الفنية. وكذلك يجب علي أن أشكر إبراهيم أفندي جمعة الطالب بمدرسة المعلمين العليا؛ لقيامه برسم الخرائط التي وضعتها لإيضاح الموضوع.
ولا يفوتني أن أشكر حضرة الفاضل محمد أفندي نديم ملاحظ مطبعة دار الكتب المصرية على إظهار الكتاب بهذا النظام الجميل الذي يدل على ما حازه فن الطباعة على يديه من التقدم الباهر.
والله أسأل أن يسدد خطانا في سبيل خدمة العلم والقيام بواجبنا في هذا السبيل نحو الوطن.
محمد فريد أبو حديد
الكتاب الأول: مباحث تمهيدية لتاريخ صلاح الدين الأيوبي
Bog aan la aqoon
(1) دعوة الإسلام ونضاله مع الأمم
قام دين الإسلام في صحراء العرب، ثم نما وزاد حتى شمل كل الجزيرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعل ينشر جناحيه كي يظل بهما ما يليه من أمم الأرض من قبل المشرق والمغرب؛ فإن دخلوا تحته راضين كانوا إخوانا، وإن هم أبوا ذلك جاهدهم حتى يدخلهم في حوزة العقيدة والإيمان أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكان الإسلام يرضى بتلك الخطة الأخيرة عالما أنها الخطة العملية لإدخال الناس في حظيرته على طول الزمن إذا هم قاوموا الصدمة الأولى، علما منه بأن دفع الجزية والخضوع سيدفعان بعد حين إلى الدخول في الدين عندما تهدأ ثورة الإباء.
وقد وجد الإسلام من العرب عدة واستعدادا، فجعل سيلهم يتدفق على ما جاوره من البلاد؛ فاجتاح فارس وهبط على ما يليه من بلاد الروم حتى أقام دولة فتية لم يشهد مثلها التاريخ إلا قليلا، فبلغت في نحو تسعين سنة اتساعا لم تبلغه دولة الروم في قرون طويلة، وكان من أسباب انتصار هذه الدولة الفتية تلك الحماسة الدينية العجيبة التي لم يذكر مثلها التاريخ لشعب آخر من الشعوب، حماسة قائمة على عقيدة كالصخر، لا يدخل إليها شك ولا يضعف من سورتها ظلم، بل كانت عقيدة حرة ثابتة، فشهد العالم نوعا جديدا من أنواع الدولة يقوم على الجهاد في سبيل العقيدة الدينية، فلا تقوى دولة من دول الأرض على الوقوف في وجهها، وكان ذلك أول عهد جديد طلع على العالم المعروف.
وسارت دولة الإسلام بعد ذلك قدما في سبيلها، فهدأ تيار الفتح بعد حين، وجعلت أمورها تستقر، وأخذت تلتمس المدنية من وجوهها، فنقلت ما نقلت عن دول سبقتها مثل فارس ومصر، وأنشأت لنفسها فوق ذلك مدنية طريفة صبغتها بصبغتها، حتى إذا كانت أواخر القرن السابع بعد الميلاد (النصف الأخير من القرن الأول للهجرة) صارت دولة الإسلام (دولة بني أمية) هي دولة العالم الكبرى، وكان إلى جوارها في أوروبا دولة الروم الشرقية من قبل آسيا الصغرى.
وكانت أوروبا في هذا الوقت قد طرأ عليها تغير كبير من حوادث ذات بال وقعت بها منذ أواخر القرن الخامس للميلاد - قبل الهجرة بنحو قرن ونصف؛ وذلك أن دولة الروم العظيمة الغربية بلغت شيخوختها وضعفت وجعلت أمم من المتوحشين تغير عليها من سهوب الشرق المجاورة لبحر قزوين وما إليه، فما زالت تلك القبائل الهمجية تصدعها حتى تصدعت وتفككت وسقطت، وآلت رومة العظيمة عاصمة العالم إلى يد الفاتحين من قبائل القوط، ومن ذلك الوقت ضاع أمر دولة الروم الغربية، وتقسمت أرضها بين المغيرين، فأخذت قبائل الفرنج (الفرنك) بلاد غالة (فرنسا الحالية)، وهبط «الواندال» ثم قبائل القوط الغربية في إسبانيا حيث ظل حكمهم أكثر من قرنين، إلى أن أتى العرب فقاموا على أنقاض دولتهم هناك، ثم استقرت دولة القوط الشرقية في إيطاليا، وبذلك صارت مدنية الدولة الرومانية إلى تلك الأيدي الخشنة، فما لبثت أن ذهب رواؤها وأصبحت أثرا بعد عين.
على أن العالم الغربي قد كسب شيئا وإن فقد مدنية الرومان؛ وذلك أن الشعب الروماني القديم كان قد بلغ مرتبة الشيخوخة والضعف وكان لا بد له من الفناء في نضال البقاء، فلما غلبت عليه تلك القبائل المتوحشة واختلطت به دخلت في دين المسيح وأدخلت على شيخوخة الشعب الروماني فتوتها وخشونتها وبداوتها، فدخل دم الشباب من هذه القبائل إلى الشعب القديم، وعادت إليه قوة حيوية كبرى، وبقيت المدنية القديمة محلا للتقديس ولو أنها كانت غير مفهومة ولا مدركة، وكان الدين المسيحي الذي اشترك فيه الشعبان: القديم والحديث علاقة متينة زالت بواسطتها الفوارق تدريجا، حتى إذا ما أتى القرن الثامن بعد الميلاد (القرن الثاني للهجرة) كانت عوامل الاختلاط قد أتت بنتائجها وأصبح الشعب القديم غير ظاهر وحده، بل صار الناس خليطا من الشعب القديم والشعوب الهمجية، وبدأت كل جهة تمتاز عن الأخرى لهجة وعادات وطبائع بحسب السنة الطبيعية لاختلاف البيئات ولهجات القبائل المختلفة، وبذلك وضع أساس أمم أوروبا الجديدة.
عظمت بعد ذلك دولة العرب في مدة العباسيين حتى صارت أعظم دولة في العالم مجدا ومدنية وقوة، ولكن انفصلت عنها أجزاء قامت منها دول فتية أخرى؛ أكبرها دولة الأمويين بالأندلس يحكمها أبناء عبد الرحمن الأموي، الذي هرب من العباسيين إلى الغرب وعبر البحر وكون دولة مستقلة في شبه جزيرة الأندلس ينافس بها أعداء أسرته العباسيين، وعلى هذا كان للعالم المسيحي في القرن الثامن للميلاد جبهتان يتقابل فيهما بدول الإسلام:
الجبهة الأولى:
الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها في القسطنطينية، وهي تتاخم دولة العباسيين عند آسيا الصغرى.
والجبهة الأخرى:
Bog aan la aqoon
حطام الدولة الرومانية الغربية التي استولى الهمج على أنحائها وكونوا فيها الدول الجديدة البدوية، وكانت الدولة الإسلامية القريبة من تلك الجبهة دولة الأندلس.
على أنه قد بدأت في أوروبا في القرن الثامن للميلاد حركة ترمي إلى توحيد الدول المسيحية وإعادة إنشاء دولة واحدة عظيمة شبيهة بدولة الروم الغربية القديمة.
وكان قوام تلك الدولة الجديدة شعب الفرنج تقوده أسرة من نسل البطل الفرنجي الكبير شارل مارتل صاحب الانتصار على العرب في وقعة «تور» سنة 732 بعد الميلاد، وهو الذي تعده أوروبا الغربية حاميا لها من سيل العرب الجارف الذي كان يهددها من الأندلس.
بلغت تلك الدولة شأوا كبيرا في أيام الملك شارلمان أو شارل الكبير حفيد شارل مارتل، ويمكن أن تعتبر دولته إعادة لسيرة الدولة الرومانية القديمة، مع فارق عظيم يجب ألا ينسى وهو أن تلك الدولة الجديدة كانت - في الواقع - دولة فرنجية؛ أي إن قوامها كان من الفرنج سلالة الهمج الذين اشتركوا في هدم الدولة الرومانية الغربية منذ ثلاثة قرون، فكانت دولة متسعة على رأسها حكومة واحدة ويحاول ملكها العظيم أن يجعلها شبيهة بالدولة الجليلة القديمة في نظامها، وإن كان لا يستطيع أن يعيد ذلك النور الذي انطفأ على يد أجداده الغزاة الأوائل.
فبعد قرون ثلاثة من سقوط رومة استقر العالم على حال جديدة، وأصبح فيه دول ثلاث أو أربع؛ ألا وهي دولة المسلمين، ودولة الفرنجة (الإمبراطورية الغربية)، والدولة الرومانية الشرقية.
نقول: دول ثلاث أو أربع؛ لأن دولة المسلمين في ذلك الوقت كانت - كما قدمنا - غير متحدة؛ فقد انفصلت بعض أطرافها فكانت دولا مستقلة أكبرها دولة الأندلس؛ ولهذا كانت دولة المسلمين في الواقع دولتين كبيرتين: دولة العباسيين المشارقة، ودولة المغاربة بني أمية بالأندلس. (2) علاقة الإسلام بأمم أوروبا منذ القرن التاسع
استقرت تلك الدول بعد ذلك الاضطراب الطويل الذي غير وجه العالم، وصارت لها فيما بينها علاقات وروابط، وتبدلت وجهة ما بينها من العلاقة إلى ما يكون عادة بين المتجاورين من علاقات معاملة ومنافسة ومنازعة، ولعل من أكبر ما يسترعي النظر في حروب المسلمين مع من جاورهم أن لفظ الجهاد كان لا يزال مستعملا؛ فلا نزال نسمع اسم ذلك (الجهاد) يعبر به المؤرخ الإسلامي عن حروب العباسيين أمثال هارون الرشيد والمعتصم مع الدولة الرومانية الشرقية، وكذلك يتردد ذلك الاسم - وهو الجهاد - في وصف حروب عبد الرحمن الأوسط مع جيرانه ملوك الفرنج وأمراء القوط بجبال الأندلس.
والحق أن ذلك اللفظ - وهو الجهاد - يجب أن يقصر على العصر الأول من غزوات المسلمين؛ أيام كان القصد الأول من الحروب بث الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض؛ فقد كان المسلمون إذ ذاك أصحاب مبدأ جديد وفكرة يريدون أن تسود العالم؛ فكان أول شيء في نظرهم إبلاغ الناس ما عندهم من الدعوة، والعمل على أخذهم بها ولو كلفهم ذلك مهجهم؛ فما كانوا يعبئون أيحاربون في صحاري قاحلة أم في وديان خصبة، ولا يبالون أنالهم بأس البرد أم حر القيظ في سبيل ما يدعون إليه. وكان العدو بعد الانتصار يصير صاحبا؛ له ما لهم وعليه ما عليهم إذا هو قبل دعوتهم.
وما كان لهؤلاء المجاهدين الأولين أن يفرقوا بين جنس وجنس أو بين لون من الناس ولون، بل إنهم كانوا يغلبون العدو وهم يرون أنهم يؤدون له أكبر خدمة بإبلاغه الدعوة وتمهيد السبيل أمامه إلى السعادة الأخروية. فكان شأنهم في ذلك شأن كل أصحاب الدعوات والمبادئ، ولكن لقد كان للجهاد عصره ثم انقضت الروح التي كانت تدفع إليه. ثم دخلت دولة الإسلام في دور حياة مدنية، وحلت في بلاد ذات مجد قديم، وسارت في مواطئ أقدام الأمم الغابرة، وأخذت بمدنياتها تدريجا، وتكونت فيها حكومات منظمة سلكت في معاملاتها مع جيرانها سلوك من تقدمها من الدول؛ فحلت العلاقات السياسية محل الحماسة إلى الدعوة الإسلامية؛ حتى لنجد هارون الرشيد - خليفة المسلمين - يراسل إمبراطور دولة الفرنج ويهاديه، ولعل ذلك كان التماسا لصداقته نكاية للدولة المتاخمة لدولته؛ نعني دولة الروم الشرقية، على حين نجد عبد الرحمن الأوسط بالأندلس يراسل إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ويهاديه؛ التماسا لصداقته ونكاية للدولة المتاخمة له وهي دولة الفرنجة. فهل إذا حارب الرشيد دولة الروم الشرقية أمكن أن نصف تلك الحرب بأنها جهاد من أجل فكرة دينية؟! وهل إذا حارب عبد الرحمن الأوسط دولة الفرنجة أمكن أن نعد ذلك جهادا بالمعنى الصحيح؛ ونعني به نشر دعوة الإسلام؟!
الحق أن الدول الإسلامية عندما تكونت واستقرت أصبحت في تعاملها مع من يجاورها من الدول دولة دنيوية لها علاقات ودية في جانب وعدائية في جانب آخر بحسب ما تقضي به مصلحتها، وأصبحت فكرة الجهاد المجرد غير حقيقية، وإنما أبقي اسم الجهاد مستعملا في وصف الحروب مع العالم المسيحي؛ سيرا على التقاليد الأولى وإعلاء من شأن الدولة بوضعها في مكان السائر على سنن أهل الدعوة الأوائل الأجلاء، وتبريرا للحرب واستنهاضا لهمة الناس؛ كي يبذلوا ما يرغب منهم بذله راضين شاكرين. أما من جهة المسيحيين فإنهم كانوا في حروبهم مع المسلمين إلى القرن العاشر لا يحاربون لأجل نشر مبدأ ديني، بل كانوا أصحاب بلاد يحاولون الدفاع عنها، وعلى ذلك لا يمكن أن تسمى حروبهم إلى ذلك الوقت حروبا دينية؛ إذ لم يكن لهم قصد من بث دعوة دينية. حقا لقد كان الفرنجة المسيحيون أحيانا يقومون بحروب دينية. ومثل تلك الحروب ما شنه شارل الكبير على ما جاور بلاده من سكسونيا الوثنية في أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع للميلاد، ولكن تلك الحروب كانت محلية قليلة الشأن، ويمكن أن نقول - بوجه الإجمال: إن العالم المسيحي قبل القرن الحادي عشر لم يعرف الحرب الدينية بالمعنى الصحيح، أو بقول آخر: لم يقم بحروب صليبية لبث دعوة المسيح في أنحاء الأرض بثا منظما في دائرة واسعة كما فعل العالم الإسلامي أيام الجهاد الأول، فإذا نحن جئنا بعد ذلك إلى القرن الحادي عشر ورأينا اسم الجهاد يتردد في أنحاء العالم الإسلامي من نهر دجلة في العراق إلى نهر دورو في الأندلس، وإلى جانب ذلك يتردد اسم الصليب على طول خط الحدود الفاصلة بين العالمين؛ العالم الإسلامي والعالم المسيحي. إذا رأينا هذا عرفنا أن هناك شيئا جديدا، وأن عاصفة قد ثارت فأعادت اسم الجهاد يهتف به من جانب المسلمين، وأثارت اسم الحرب الصليبية يهتف به من جانب المسيحيين، فما الذي أثار تلك العاصفة؟ (3) صريخ القسطنطينية
Bog aan la aqoon
في أواخر القرن الحادي عشر وجه إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية دعوة إلى البابا؛ ليدعو أمم الغرب من فرنجة وألمان وإنجليز إلى نصرة الصليب وتخليص بيت المقدس من أعدائه المسلمين، فوجه البابا دعوته إلى أوروبا فسارت في الشعوب كما تسير النيران في الهشيم، وقامت أوروبا كرجل واحد إلى الغرض الذي دعا إليه البابا؛ فكانت حروب دموية بين الشرق والغرب استمرت ثائرة مدة قرن، ثم خبا لهيبها تدريجا بعد ذلك ولو لم تنطفئ ناره جملة، فما الذي جعل إمبراطور القسطنطينية يرسل تلك الدعوة؟ وما الذي جعل البابا يقبلها رغم الحفيظة التي كانت في قلبه على الكنيسة الشرقية؟ وما الذي جعل أوروبا تجيب دعوة البابا بهذه الحماسة العجيبة التي بدت منها؟
لقد كان بين القسطنطينية ورومة - منذ قرون - منافسة ومشاحنة،
1
وها نحن نجد القسطنطينية تتناسى تلك الإحن القديمة، وها نحن نرى أوروبا تدوس تلك المنافسة تحت أقدامها وسنابك خيولها، ويتصافح المسيحيون من الشرق والغرب ويتحالفون على الإسلام.
لقد كان الخلاف الذي بين شقي العالم المسيحي خلافا يكاد يمس أساس العقيدة، فكان المسيحيون في الشرق يعتبرون المذهب الغربي خرافة، على حين كان الخليفة القديس بطرس في رومة (البابا) ينظر إلى الشرق أنه منشق عنه خارج عليه، ولكم كان بين الاثنين مواقف عاصفة وتراشق بالألقاب، بل لقد كان بينهما تنافس حربي. ومثل ذلك أن بوهمند «بيمند» بن روبير جيكار الملك النرماندي على جنوب إيطاليا وصقلية عبر البحر الأدرياتي وجعل يغزو أرض الدولة الشرقية بتحريض سيده البابا صاحب ولائه.
ولكن تلك الفروق وتلك المنازعات لم تقف أمام التيار الجارف الذي اجتاح أوروبا فنسيت كل العداوات القديمة، وسويت الحزون، وتعانق أبناء المذهبين، حتى إن بوهمند - ذلك الأمير الذي غزا أرض الدولة الرومانية الشرقية - صار أحد القواد الكبار الذين ذهبوا إلى القسطنطينية لنصرة كلمة المسيح.
أما هذا الانقلاب الذي طرأ على سياسة الدولة الشرقية وجعلها تطلب مساعدة البابا فيمكن كشفه من تتبع علاقة تلك الدولة بالدول الإسلامية إجمالا منذ القرن الثامن للميلاد؛ فقد كانت الدولة العباسية في القرن الثامن للميلاد في عنفوانها، فسلبت جارتها الرومانية كثيرا من أملاكها، فلما انشغل العباسيون في مشاغلهم الداخلية أمكن دولة الروم أن تبقى ثابتة الحدود عند شرق آسيا الصغرى، ثم مضت قوة الدولة العباسية وذهب أمثال المهدي والرشيد والمأمون، وتلا ذلك استبداد جنود الأتراك بالخلافة العباسية؛ فأخذت الدولة تضعف في نضالها الخارجي ، وزادها ضعفا أن انفصل عنها كثير من البلاد التي بدأت تستقل كالأغالبة والأدارسة في أفريقية، وأخيرا جاءت الضربة القاسية وهي استبداد بني بويه الشيعيين بأمر الخلافة، فأصبحوا وزراء في الاسم ولكنهم كانوا المسيطرين على الأمر كله، وكان الخليفة أحيانا يحاول أن يثبت لنفسه أمرا فكان يحدث من وراء ذلك تشاحن وتنازع بينه وبين الوزير، فاضطربت أمور الدولة الإسلامية وتفرقت كلمتها وانفجر جثمانها، فصار أجزاء متناثرة من إمارات في فارس وخراسان وأخرى في الشام وسواها في مصر. وهكذا وجدت الدولة الرومانية دونها فرصة سانحة فانتهزتها، وأثار أباطرتها حربا طاحنة لا سيما أيام نقفور «نيقفراس فوكاس» و«حنازيمس» «جون سيميسز» بين عامي 960-975 بعد ميلاد المسيح، فلم يستطع أمراء الحمدانيين - الذين كانوا على حدود دولة الروم - أن يثبتوا في ذلك النضال، بل أخذتهم كتائب الدولة الرومانية بما لا قبل لهم له، ثم فتحت سواحل الشام وعبرت جنود الروم نهر الفرات، وكانت على طريق بغداد، وذعر الخليفة المطيع حتى لقد باع عليه الأمير البويهي أثاث قصره ليستعد بثمنه للحرب، ولكن لحسن حظ دولة الإسلام رجعت عند ذلك جيوش الروم وانقضت تلك الموجة ولم تحطمها. كان هذا في القرن العاشر، ثم طلع القرن الحادي عشر بحظ غير هذا، وكان الأمر ككفتي ميزان إذا رجحت كفة شالت الأخرى.
في القرن الحادي عشر استولى على بغداد قوم من الترك، وهم السلاجقة، وكان أميرهم طغرل بك رجلا من أهل السنة شجاعا غير مأخوذ بالألقاب كما كان ملوك البويهيين؛ فحفظ على الخليفة جلاله وهيبته ظاهرا، وأخذ في يده أمر الدنيا يتحكم فيها بسيفه وإرادته فعلا. وباستيلاء السلاجقة على بغداد سنة 1055 بعد الميلاد/447 للهجرة دخلت الدولة الإسلامية في دور غير ذلك الدور الذي مر بها في أواخر القرن العاشر.
فقد استعادت على يدهم قوة شبابها، أو إن لم يكن ذلك فقد عاد جيشها - على الأقل - إلى سيرة الفتح والانتصار الذي نسيته الدولة في آخر أيام بني بويه، وقد توالى على أمر الدولة العباسية ملوك ثلاثة عظام من السلاجقة وهم: طغرل بك وألب أرسلان وملك شاه ما بين سنتي: 1055 و1092م/447-485 هجرية. وكانوا في سياستهم الداخلية مع الخلافة قانعين بالسلطان الدنيوي الفعلي تاركين كل مظاهر الرياسة والسيادة الاسمية للخلفاء من البيت المبجل الذي له المكانة السامية في قلوب المسلمين وهو بيت بني العباس.
وأما في سياستهم الخارجية مع من جاورهم - ولا سيما دولة الروم الشرقية - فقد كانوا لا يقنعون بسوى السيطرة والغلبة، فبدأت جيوشهم من جبال طوروس وأرضروم، وما زالت تنحدر إلى الغرب في وديان آسيا الصغرى وهضابها، وهناك شهدت مدينة قيصرية جيوشهم الغالبة، ثم خضعت بلاد أرمينية والقوقاز بعد دفاع لم تستطع الثبات عليه، ثم كانت بعد ذلك موقعة «ملاذ كرد» بين أرضروم و«وان» سنة 1072، وكان هناك الانتصار الذي لا يزال يذكر للسلطان ألب أرسلان، وأخذ الإمبراطور الشرقي «رومانوس» أسيرا وهو جريح بعد دفاع بطل مستميت، وقد سار ملك شاه بن ألب أرسلان على سنة أبيه بعد مقتله، وزاد على الحرب مع الروم حروبا أخرى مع ما يليه من البلاد، وكان من بينها بلاد الشام التي كانت لا تزال فيها بقية من حكم الفواطم. وما كان عام 1090م حتى كان ملك شاه يطأ بحدوده الشرقية أكتاف الصين ويدوس بحدوده الغربية عواصم الفواطم والرومان من قبل الشام وآسيا الصغرى، وتكونت دولة للسلاجقة في أحشاء هضبة الأناضول، وأملى ملك شاه إرادته على من يليه، وكان من بين من يرتجفون من خوفه الإمبراطور ألكسيوس إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية.
Bog aan la aqoon
وكانت تلك الحروب - ولا شك - حروبا لا يقصد بها سوى مد السلطان والغلبة؛ فإن السلاجقة كانوا قوما محاربين أتوا من أواسط آسيا، فما زالوا يحاربون بعد ذلك من أجل فتح سائر ما يليهم من الأقاليم، وكانت تلك الأقاليم التي تليهم في أيدي الرومان على الأكثر، ولو أنها كانت في أيدي سواهم لحاربوهم ولو كانوا من أمراء المسلمين.
خريطة حدود دولة ملك شاه.
وقد سببت تلك الحروب - كما تسبب الحروب في كل عصر - عداوة بين الجانبين المتحاربين، فحدثت حوادث لا يخلو من مثلها وقت مضطرب مثل ذاك الوقت ، وما كانت تلك العداوة وما نشأ عنها من الحوادث لتأخذ صورة خاصة في التاريخ لولا ما وقع بعدها من الحوادث الجليلة التي هزت العالم أجمع.
بينما كان ألكسيوس يفكر في طريق يخرجه من حرج موقفه أمام ملك شاه إذا بالموت عدا على عدوه المخيف وتمزقت بموته دولة السلاجقة التي بناها ثلاثة من ملوكهم العظام، وهناك تنفس الإمبراطور، وكان رجلا من رجال الدهاء والاحتيال؛ فرأى أن ينتهز فرصة انثلام ذلك الهيكل العظيم الذي إلى شرق بلاده فيحطمه ليأمن غائلته، فأرسل إلى فتية في أوروبا معودين الحرب؛ كي يأتوا ليعيدوا له ما فقدته دولته، متناسيا ما كان بين الغرب والشرق في العالم المسيحي من منافسة وخلاف، وكانت الظروف مساعدة له فرأى أن يلبس الحقائق لباسا يجعله يستفيد منها.
فصور المسلمين أنهم قوم أتوا إلى بلاده لا يقصدون إلا حربا دينية يهدمون بها ديانة المسيح، وعزا ما ارتكبه الجنود السلاجقة من الاعتداء على المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى إلى رغبة كمينة في نفوسهم في أذى النصارى، وساعد على إذاعة أمثال هذه المزاعم جماعة من المتحمسين أمثال بطرس الراهب الذي ثارت نفسه عندما رأى قبر المسيح في يد السلاجقة الظافرين وهم حديثو العهد بظفرهم. وهكذا سمعت أوروبا نغمة لم تطرق أذنها من قبل: دعوة إلى نصرة المسيح على المعتدين المسلمين، وما هو إلا أن صرخ ألكسيوس حتى أجيبت الدعوة بثورة هزت أرجاء العالم؛ فلقد أرسل إلى البابا «أربانوس الثاني» - وهو في مجلس ديني في «كليرمون» سنة 1095 - يدعوه إلى نصرة المسيح واسترداد بيت المقدس من السلاجقة، فما انفض ذلك المجلس حتى نادى البابا نداءه التاريخي الذي دوى في أنحاء أوروبا. وانطلق المتحمسون في أنحاء البلاد يصورون الإسلام ظالما عاتيا مغيرا، ولم تكن حكاياتهم خالية من الحقيقة، ولكنها - كما قدمنا - كانت حوادث طبيعية في عصر ثارت فيه ثائرة الحروب بين متنافسين قديمين. على أنه لم يكن أحد ليمحص تلك الحجج التي أوردها أمثال بطرس الراهب؛ فثارت العاصفة هوجاء تخبط خبط عشواء. (4) لماذا لبت أوروبا الدعوة؟
إذا كان ألكسيوس قد تناسى ما كان بين دولته وبين الغربيين، فأعجب من ذلك أن يأتي الغرب إلى مساعدته بتلك الحماسة العظيمة؛ فالحق أن أوروبا في هذا الوقت كانت مستعدة أعظم استعداد لإيقاد النيران، وكان البابا والكنيسة هما الطريقان الوحيدان إلى إثارة تلك النيران، وقد عرف ألكسيوس أن يلمس المكان الذي فيه سر الانفجار.
كان الدين في القرن الحادي عشر سيد أوروبا، وكان رجال الدين - وعلى رأسهم البابا في ذلك القرن - أصحاب عواطف أهل أوروبا، وكان في أوروبا في ذلك الوقت رجال يحبون الحرب ويعيشون له ولا يسعهم إلا تلبية الداعي إليه، ولا سيما إذا كان لنصرة الدين، وذلك كله يرجع إلى أسباب لا بد من بيانها موجزة في الفقرتين الآتيتين:
الانقلاب في نظام أوروبا
حدث انقلاب عظيم في نظام الدولة الفرنجية في أواخر القرن التاسع للميلاد؛ وذلك أن شارل الكبير كان قد أقام دولة عظمى تشمل أكثر بلاد الدولة الرومانية القديمة، ثم خلع البابا عليه لقب الأباطرة، وأصبح لقبه إمبراطور الدولة الرومانية الغربية، وقد حاول شارل أن يجعل دولته على نظام شبيه بنظام الدولة الرومانية القديمة، وأكبر ما يرمي إليه جعلها دولة واحدة وأن يكون هو على رأسها ومركزها، ولقد كان تحته طائفة من الحكام والرؤساء ولكنه عمل على أن يكونوا عمالا له مؤتمرين بأمر الحكومة المركزية، ثم سار ابنه «لويس التقي» على مثل ذلك بما استطاع، لكنه لم يكن كأبيه دراية وكياسة وقوة، فما هو إلا أن مات لويس حتى تقسمت الدولة الرومانية الغربية إلى أقسام ثلاثة بين أولاده، وبدأت بذلك أول حلقة من سلسلة تقسم لبث يحطم تلك الدولة إلى آخر القرن التاسع للميلاد.
وقد كانت أوروبا في ذلك القرن التاسع مهددة بأخطار جسيمة من تجدد إغارات القبائل المتوحشة وأكبرها عند ذلك قبائل النرمانديين والمجريين، زيادة على ما كان يصيبها من غزو العرب في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا برا وبحرا، وقد كان لهذه الغزوات أثر بعيد المدى.
Bog aan la aqoon
كان النرمانديون يغيرون على الدولة الرومانية في خفاف السفن من مصبات الأنهار؛ لأنهم كانوا قوما من بلاد الشمال وشواطئ البحار، لهم جراءة على المحيط ودراية بتسيير السفن، وكانت إغاراتهم للسلب والتدمير، ولا تستطيع دولة الرومان الغربية أن تدفعهم عن نفسها؛ إذ لم يكن فيها مدن حصينة ولا كتائب سريعة، وكان المجريون في إغاراتهم فرسانا يجتاحون البلاد ثم يعودون بعد أن يسلبوا ما شاءوا ولا تردهم حصون ولا أسوار، ولم يكن دونهم عند الفرنج كتائب ذات دراية بحركات الفرسان؛ ولهذا استقر رأي أمراء الدولة الرومانية الغربية على أن يعنوا بأمرين لا غنى للدولة عنهما إذا شاءت حماية نفسها من أعدائها؛ وذانك هما: بناء الحصون الكثيرة والأسوار على المدائن من جهة، ومن جهة أخرى تكوين كتائب للفرسان معودة الكر والفر على أسلوب سريع؛ كي يستطيعوا دفع عادية المغيرين السريعين، وبذلك وجد أمراء الدولة أنفسهم - بعد حين - ولهم حصون وأسوار تحميها كتائب من الفرسان مدربة خاضعة، فكان لكل منهم بذلك دائرة خاصة به عليه حمايتها وله بطبيعة الأمر إدارتها، فنما نظام جديد عرف فيما بعد في القرن العاشر وما يليه بنظام الإقطاع.
أحدث نظام الإقطاع نقضا في أساس الحكومة القديمة التي كانت في أوروبا منذ أيام الدولة الرومانية الأولى؛ وذلك أن الحكومة المركزية أصبحت صورة لا حقيقة، وأصبح الأمراء هم أصحاب الحكم في جميع الأنحاء، وصارت العلاقة الجديدة بين طبقات المجتمع قائمة على أساس السلطة والسيادة؛ يعني أنه أصبح بين الأمراء من جانب وبين الحكومة المركزية من جانب آخر عقد يتعهد فيه كلا الجانبين تعهدات يقوم بأدائها نظير حقوق يكتسبها، وكانت أكبر واجبات الأمراء الاشتراك في حروب الدولة بأنفسهم وفرسانهم، وإمداد الحكومة المركزية بشيء من الأموال، وكانت أكبر حقوقهم أن يكونوا حكاما يخضع لهم من دونهم من الأمراء ويدفعون لهم الضرائب، ويشتركون فيما يكلفهم به صاحب ولائهم من الأعمال، وكان كبار الأمراء متعاقدين مع صغارهم على شروط شبيهة بتلك. وهكذا كان هؤلاء مع من يليهم، فكان نظام الإقطاع أشبه شيء بالهرم: رأسه الحكومة المركزية وقاعدته صغار الأمراء والفرسان ثم الشعب، وكان الشعب العام مرتبطا بواجبات نحو الأمير الذي يحكم بلاده فيدفع الأموال إليه ويخضع لقضائه، ويهب له مقدارا معينا من العمل في أرضه في نظير حماية الأمير له من اعتداء الغير وصد غارات المتوحشين عنه.
على هذا تقسمت أوروبا إلى أقسام صغيرة من الإقطاعات، وكانت الحكومات المركزية - في الواقع - لا علاقة لها بالأفراد، بل كانت علاقتها بكبار الأمراء تارة على سلم وتارة على حرب.
مضى القرن العاشر وفي أوروبا دول ثلاث كبرى، كل منها مقسم بحسب ذلك النظام الإقطاعي، وتلك هي ألمانيا ويحكمها حكام من أمرائها بعد انقراض أسرة الفرنجة من نسل شارلمان، وكانت دولتهم مكونة من ألمانيا وإيطاليا واسمها الدولة الرومانية المقدسة، ثم فرنسا ثم إنجلترة.
ولم تكن تلك الدول دولا بالمعنى الحقيقي؛ إذ كان الحكام السياسيون لا يتعدى حكمهم إقطاعاتهم، وكثيرا ما كان الأمير إذا لم يجد ميدانا للحرب يصد فيه غارات الأجانب أو المتوحشين يغير على من يليه من جيرانه؛ ولهذا كانت أوروبا في ذلك الوقت وما بعده مجالا لحروب لا عد لها ولا حصر بين الأمراء وبعض، ولم تخل الحكومات المركزية من مناوأة أمرائها، بل كانت تدخل في ميادين حروبهم مؤلبة جماعة على أخرى تنتصر تارة وتنهزم أخرى.
وهكذا عاد نظام الإقطاع على أوروبا بمنافع وأضرار؛ فقد رد عنها غارات المجر والنرمان وأضرابهم، ولكنه نزع أمنها واطمئنانها في الداخل وجعلها بؤرة حروب دائمة.
في ذلك الوقت أتت دعوة الدولة الشرقية، فما كان أسرع أمراء أوروبا وفرسانها إلى إجابة ملتمسين هناك ميدانا جديدا للحروب.
روح العصر في أوروبا
صورة محارب في القرون الوسطى (عن كتاب ستانلي لين بول).
كان عهد الإقطاع بطبيعة ظروفه عهد الفروسية وما يتبع هذه الصفة من مميزات؛ فكان الأمير - بحكم تعاقده - حاميا لمن في كنفه يرى نفسه سيدهم المسئول عن سلامتهم ولو كلفه ذلك بذل نفسه، وقد جرت العادة مدة طوال السنين على تقاليد صارت على مضي الزمن مبادئ يجب على الشريف أن يسير على مقتضاها، فكان من مجموع ذلك قانون به تفاصيل ما يحل للشريف أن يعمل وما يحرم عليه، وكانت تلك المبادئ ترمي إلى حماية الضعفاء ونصرة الدين وإجلال الجمال والوداعة وسوى ذلك من صفات الحسن الذي يتجلى في المرأة، فكانت الشجاعة أولى صفات الشريف لا تقوم عنها صفة أخرى، وكان استخدام السيف من أول ما يجب عليه إتقانه إلى جانب المهارة في ركوب الخيل وأمل الرماية بالقوس والسهام فكانت مما يترك للمحاربين في المحل الأدنى.
Bog aan la aqoon
وقد شهد القرن العاشر تغيرا جديرا بالذكر في عقول أوروبا؛ إذ قد مضت أظلم القرون مع القرن التاسع، وبدأت حياة جديدة تدب إلى النفوس ولو أنها لم تكن تلك الحياة الفياضة التي تمشت في العروق منذ القرن الثالث عشر، وقد بدأ دبيب تلك الحياة يظهر بشيء من الجلاء في القرن الحادي عشر، وكانت أولى علاماتها تلوح هنا وهناك إما في بلاط ملك وإما في حنايا دير.
بدأت الأمم الفتية تتطلع إلى الماضي وترى أنفسها حفدة الرومان أصحاب المدنية القديمة، فجعلت تلتمس العلم من بقايا مخلفاتها، ووجدت معلمين لها من رجال الدين الذين كانوا لا يزالون يحتفظون ببعض علم القدماء، فانصبغت تلك النهضة الصغيرة بصبغة رجال الدين، ولما تفتحت العقول أول تفتح للمعارف وجدت الميدان الذي فتح دونها مصبوغا بصبغة الدين، فكانت حماستها - الشبيهة بحماسة الطفولة - تدفعها إلى الاهتمام بكل ما يمس الدين، حتى لقد ظهر أثر هذا في آداب العصر الذي يتكون من قصص العهد القديم والحديث ممثلة في قالب روائي، وكان الممثلون في الغالب من القسوس.
ولعل ذلك العصر كان قصارى ما وصلت إليه الكنيسة من التسلط على قلوب الناس، ولما يحرفهم عن عقيدتهم شيء من زيغ العلم أو شك الفلسفة، حتى لكان أكبر عقاب يقع على الفرد حرمانه من الكنيسة وإخراجه من دائرة الإيمان والمؤمنين، وهو عقاب أذل أكبر رأس في العالم إذ ذاك وهو الإمبراطور نفسه، وكان ذلك الحرمان إذا وقع على إقليم تعطلت شعائر الدين فيه فلم يجد الناس من يأخذ اعتراف الميت ولا من يقرأ عليه الصلوات التي توصله إلى الآخرة، وكان مثل ذلك العقاب كافيا لإرغام أكثر الأمراء عنادا وإذلال أحدهم شوكة، وكانت الكنيسة إذا فرضت على الناس فرضا يكفرون به عن ذنوبهم لم يسعهم إلا الإذعان، فيصوم الفرد أو يضرب أو يذل نفسه بالسؤال أو يشهر به ويخرج من بلده في زي النادم «قبعة خاصة وعصا طويلة وأقدام عارية» فيذهب إلى بيت المقدس أو إلى رومة ليمحو ذنوبه.
وقد كانت الكنيسة عاملا من العوامل الفعالة طول القرون الوسطى،
2
وزاد نفوذها في العصر الإقطاعي؛ إذ كانت هي المحكمة في منازعات المتنازعين؛ ترأب الصدوع وتداوي الجروح وتجعل للناس قواعد لحرامهم وحلالهم في الحرب؛ تحاول بذلك تخفيف ويلاتها. وكانت سلطتها لا تقف عند حد إقطاعي ولا دولة معينة، بل تشمل جميع أتباع المسيح المؤمنين بها في وقت لم يكن هناك مركز سياسي قوي؛ لانفراد كل أمير بإقطاعته مستقلا بأمره، وعلى ذلك كان سلطان الكنيسة هو السلطان العام الوحيد الذي يشمل جميع أنحاء أوروبا.
وقد اتفق في أواخر القرن الحادي عشر حدوث نضال كبير بين الإمبراطورية (السلطة الدنيوية) وبين الكنيسة (السلطة الدينية) وكانت نتيجة ذلك النضال انتصارا باهرا للبابا، وذهب الإمبراطور العظيم - وهو إذ ذاك «هنري الرابع» - إلى البابا «جريجوار السابع» في قرية «كانوسا» بإيطاليا، وهناك وقف حاكم الدنيا أياما ثلاثة عند باب رئيس الكنيسة عاري الرأس حافي الأقدام يطلب العفو والصلح.
وعقب ذلك بسنين قليلة كان البابا «أربانوس» في مجمع من رجال الكنيسة في «كلرمون»، فأتاه صريخ إمبراطور الدولة الشرقية يدعوه للمساعدة في حرب المسلمين، فما انفض ذلك المجلس سنة 1095م حتى كان البابا قد أعلن حربا لنصرة المسيح والصليب على المسلمين واستنقاذ بيت المقدس منهم، فأية صيحة تكون صيحة البابا في مثل هذا العصر؟ لقد كانت صيحة ترددت كالرعد القاصف وسارع إلى تلبيتها شعب مؤمن مطيع على رأسه طائفة من الأمراء الذين لهم دراية بالحروب وبهم غيرة على الدين ورغبة في نصرته. (5) انتصار الصليبيين
صورة خيالية لفتح أنطاكية.
بدأت الحرب الصليبية فذهبت جموع بعد جموع في سنة 1096م/489 هجرية، ولكنها لم تتم شيئا، ثم تبعتها جموع أخرى في سنة 1097م بقيادة أربعة من كبار أمراء أوروبا وهم: «جودفري» حاكم بولوني، و«ريمون» كونت كولوشه، و«بالدوين» أخو «جودفري»، و«بوهمند» ابن «روبير جيكار» النرماندي حاكم جنوب إيطاليا وصقلية. وكان يساعدهم آخرون من الأشراف والفرسان، فلما بلغت الحملة القسطنطينية استوثق الإمبراطور ألكسيوس من حلفائه أنهم يردون إليه ما سلبه الإسلام من بلاده، ثم سمح لهم أن يجتازوا بأرضه، فساروا وعبروا المضائق وهزموا المسلمين في الأناضول، وكانوا أشتاتا بعد ذهاب ملوكهم الكبار، وكان أكبر انتصار للصليبيين عند «دوريليوم» أو «إسكيشير» في غرب آسيا الصغرى، ثم ما زال النصر لهم إلى أن أتموا السير وبلغوا الشام، وأقاموا دولا أربعة اقتطعوها من أرض الإسلام وهي «الرها» و«أنطاكية» و«طرابلس» و«بيت المقدس»، وجعلوا الملك في يد حاكم بيت المقدس وهو «جودفري»، وقنع الباقون من الأمراء بالولاء له حسب النظام الإقطاعي في أوروبا، وجعلوا نظام الحكم في تلك البلاد على الأسلوب الإقطاعي، وتم ما أرادته أوروبا، وردت موجة الفتح الإسلامي عن أسوار القسطنطينية بتلك الضربة الشديدة، ولن تعود الدول الإسلامية إلى محاولة فتحها من جديد إلا بعد أن تفيق منها، وذلك بعد نيف وثلاثة قرون على يد الأتراك العثمانيين. (6) العالم الإسلامي يستجمع قوته للدفاع
Bog aan la aqoon
خريطة الإمارات الصليبية.
كان العالم الإسلامي في ذلك العصر؛ أي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، يشمل أقساما ثلاثة كبرى ولكل منها فروع وأجزاء؛ ففي طرفه الغربي كانت دولة الأندلس، وقد عبرت إليها جموع المرابطين من أفريقيا فهزمت المسيحيين الأندلسيين وأعادت إليها شيئا يشبه ما كانت عليه من القوة أيام دولة بني أمية، وبعد المرابطين يأتي إليها الموحدون من أفريقيا فيرفعون علمها إلى أواخر القرن الثاني عشر، ثم تتحطم تلك الدولة حتى لا يبقى منها إلا غرناطة لتشهد تاريخ القرون التالية.
وكان في أفريقيا الشمالية من الغرب دول يرتبط تاريخها بتاريخ دولتي المرابطين والموحدين. وأما في الشرق فكانت دولة العبيديين أو الفاطميين، وقد بقيت هناك إلى أواخر القرن الثاني عشر حتى قضى عليها البطل الكبير يوسف بن أيوب صلاح الدين كما سيأتي، وكان في شرق هذه البلاد رقعة الدولة العباسية مقسمة بين أمراء السلاجقة بعضهم من نسل ملك شاه وبعضهم من نسل قواده ورجاله، وكان للخلافة على هؤلاء سيادة اسمية لا تكاد تعدو السكة (النقود) والخطبة في المساجد، ولم تكن بين دول الإسلام رابطة متينة، بل إن اثنتين منهما كانت على خلاف ومنافسة بل على عداء، وهاتان هما: الدولة العباسية والدولة الفاطمية؛ فإن الأولى كانت دولة سنية والأخيرة كانت شيعية، ولكل من الدولتين خليفة يرى نفسه أحق بأن يدعى له على المنابر جميعها، فكان من الطبيعي أن العالم الإسلامي عندما صدمته الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر لم يكن متماسكا بل كان مقسما إلى دول متنافسة، ولم تكن الدولة العباسية في ذاتها دولة بالمعنى الصحيح، بل كانت مقسمة إلى إمارات كل منها مستقل بأمره، لا تربط بينها إلا جامعة اسمية لا حقيقة لها، وكانت الدولة العباسية هي التي قابلت الصدمة فلم تقو على احتمالها ثابتة بل تصدعت وتداعت، وخيل للناس أن قد هوت وضاع أمرها ولم تجد لها نصيرا، لا من داخلها؛ إذ كانت كلمتها مفرقة، ولا من خارجها؛ إذ كان الفواطم أقرب إلى الشماتة بها، وكان أهل أفريقيا والأندلس في شغل بأمرهم عن أن يمدوا مساعدة لأحد آخر، وزد على ذلك بعد الشقة وقلة الارتباط، ولكن ذلك التصدع لم يكن ظاهرا؛ فإن الدولة الإسلامية مالت أمام الموجة القوية ولم تكن هزيمتها انكسارا، بل إن العقيدة لم تتزعزع في وقت من أوقات تلك المحنة، ولم يكن في الناس شك من أمرهم، بل ظل في نفوسهم إيمان صادق أن مآل تلك الموجة التي أتت من وراء البحر إلى الضعف، وأنه لا بد من الانتصار عليها وردها من حيث جاءت بعد حين، وقد ظهرت هذه العقيدة في كثير من الوجوه، فما كادت الأمة تفيق من الصدمة الأولى حتى أخذ رجالها يعملون على إظهار تلك العقيدة الكامنة، وكان أول من أظهرها أتابك عماد الدين زنكي صاحب الموصل
3
إذ استولى على إمارة الرها في عام 1144م/539ه بعد أن هزم الصليبيين.
فزعت أوروبا عند ذلك وجردت الكتائب لاسترداد ما فقده الصليب، ولكن الذي ينعم النظر في تلك الحرب الثانية لا يسعه إلا أن يلاحظ أن الحماسة الدينية قد خبت قليلا في قلوب أهل أوروبا. وقد عجزت كتائب المسيحيين عن استرداد الرها مع اشتراك اثنين من كبار الملوك المسيحيين في الحرب وهما: الإمبراطور كنراد الثالث عاهل الدولة الرومانية المقدسة، ولويس السابع ملك فرنسا، وقد استمرت الدولة الإسلامية على محاولتها الأولى تسعى للخلاص من الأغراب الذين أخذوا بعض بلادها إلى أن ظهر رجل الجهاد الأكبر وهو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، فجعل حياته لإظهار عقيدة الأمة الإسلامية في النصر ظهورا واضحا.
4
وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد رجال هذا الأمير العظيم وسيفا من سيوفه، وليس بعجيب في التاريخ أن ينشأ رجل تابعا لعظيم ثم يعلو شأنه ويظهر أمره حتى يغطي ذكره على ذكر سيده ويصبح المجد والعظمة للتابع دون المتبوع. (7) الدول الإسلامية بالشام والجزيرة ومصر
الشام والجزيرة
قتل عماد الدين زنكي وهو في ميدان الحرب، وبعد مقتله تقسمت دولته بين ابنيه: وأولهما سيف الدين غازي الذي استولى على الشرق وجعل مقره الموصل، وثانيهما نور الدين محمود الذي استولى على الغرب وجعل مقره حلب. على أن نور الدين هو الذي سار على سنة أبيه، وقد عاش مدة أطول من أخيه؛ ولهذا تمكن من بسط سلطانه على البلاد التي ورثها أبوه الشهيد عماد الدين، واستولى على غيرها مما فتحه من أملاك المسلمين المستقلين أمثال دمشق وبعلبك، ومما فتحه من أملاك المسيحيين بعد أن فشلوا في حملتهم الثانية التي اشترك فيها كنراد الثالث إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة ولويس السابع ملك فرنسا.
Bog aan la aqoon
خريطة دولة نور الدين وما جاورها.
وقد كانت سياسة نور الدين في فتح البلاد التي بيد أمراء من المسلمين: أن يقنع بدخول الإقليم في دائرة دولته، لا يريد من وراء ذلك زيادة في الملك والثروة، بل كان كل قصده أن يجعل تحت سلطته دولة قوية يستطيع أن يصدم بها الصليبيين صدمة قوية تصدع أركان دولتهم، فإنه قد جعل قصد حياته الجهاد وإخراج المسيحيين من بلاد الشام، وكان قوي الإيمان بما هو فيه من عمل ينظر إلى حروبه نظرة شبيهة بنظرة المسلمين السابقين في أول الإسلام إلى حروبهم مع أعدائهم، ولا أدل على ذلك من أن أخا له فقد عينا له في موقعة إذ أصابه فيها سهم، فقال له معزيا: «لو كشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى.» فكان ذلك الرجل المجاهد لا يتطلع إلا إلى جمع الدولة الإسلامية تحت يده لتكون له قوة على الجهاد؛ فكان إذا فتح حصنا إسلاميا سلك أحد مسلكين: فإما أقر عليها حاكمه الأول إذا اطمأن إليه وعرف أنه يقدر على الدفاع عنه والبقاء إلى جانبه، وإما أن يقطع ذلك الحاكم أرضا بدلا عن حصنه ويضمه إلى بلاده. وقد كان إذا أعطى بدلا أجزل في عطائه كيما يرضي المحروم؛ وأمثلة هذا كثيرة؛ منها أنه عندما استولى على قلعة «جعبر» - وهي حصن منيع على الشاطئ الشرقي للفرات الأعلى - أعطى صاحبها شهاب الدين العقيلي إقطاعا عظيما بدلها قرب «حلب» ومقدارا من المال (نحو عشرين ألف دينار)، وما كان في تلك القلعة من غنى ينتظره أو مال يحصله إلا أنها موقع حربي ينفعه في غرضه. ويمكن أن نصف دولة نور الدين بأنها كانت دولة إقطاعية على نسق الإقطاع في أوروبا؛ فقد كان العصر عصر إقطاع في الشرق والغرب على السواء، وكان هو رئيس تلك الدولة الأعلى، وتحت أمره عدد كبير من الأمراء، كل في جهته يحكم مستقلا على أن يكون هو وجنوده في حروبه. ومما يسترعي النظر في تلك الدولة كثرة القلاع الحصينة والقصور المنيعة المبعثرة في السهل وعلى قمم الجبال؛ ولعل الأسباب التي دعت إلى بناء تلك القلاع في الغرب في أوروبا هي نفسها التي دعت إلى بناء مثلها في الشرق الإسلامي؛ فقد كانت الحكومات المركزية في ذلك الوقت مزعزعة، وكانت الإغارات كثيرة لا حصر لها ؛ بين ترك يغيرون من الشرق، ومسيحيين يغيرون من الغرب، وفرق دينية (كالشيعة الإسماعيلية)
5
تهبط بين حين وحين كالعاصفة المخربة؛ ولهذا كانت حاجة الشرق إلى القلاع والفرسان مثل حاجة الغرب على السواء، ونشأ من هذه الحاجة نظام إقطاعي كما نشأ في أوروبا لنفس الأسباب.
مصر
أما في مصر فكانت دولة أخرى تخالف ما في الشام والجزيرة في وجوه كثيرة؛ فقد كانت دولة الفواطم - وهم شيعة علويون - لهم خليفة غير خليفة السنيين وحكومة مستقلة موحدة، ومدنية تالدة خلفها مؤسسو الدولة منذ قرنين.
وكانت مصر في القرن الثاني عشر ميدانا لحوادث عظيمة كان لها أثر كبير في مصير العالم الإسلامي؛ كان شعب مصر الهادئ المنصرف إلى أعماله تاركا الحكم إلى حكامه الذين استولوا على البلاد عنوة منذ أيام المعز لدين الله في أواخر القرن العاشر للميلاد، وكان المصريون من أهل السنة، ولكنهم خضعوا لتلك الدولة الشيعية وانصرفوا إلى أعمالهم لا يهتمون بشيء من أمر الدولة؛ إذ كانت الحكومة - على وجه الإجمال - لا تتداخل كثيرا في عقائدهم.
وقد حدث على مر الأيام شيء عظيم من التفاهم بين الحاكم والمحكوم، حتى كادت الشيعية المصرية تكون سنية إلا في بعض المظاهر والرسوم، ولكن هدوء تلك البلاد لم يبق كما كان، بل حدث تغير في القرن الثاني عشر عندما ذهبت أجيال الخلفاء العظام من الفواطم ووقع الأمر إلى سلسلة متأخرة من خلفاء لا حول لهم ولا قوة، فصار الحكم إلى قواد الجيش والوزراء من عز منهم غلب واستولى على الخليفة. وكان الخليفة في العادة يختار طفلا من البيت الفاطمي، فكان بعضهم لا يعدو سن الرابعة؛ كالفائز بنصر الله الذي حكم بين سنتي 1154-1160م من الميلاد/549-555ه، وجاء بعده العاضد لدين الله وكان في التاسعة من عمره عندما صار خليفة بمصر.
في أثناء ذلك العصر كان نور الدين قد هزم الفرنج ووحد دولة عظيمة في الشام والجزيرة، وكان من بين الوزراء بمصر من طمع أن يجعل صلة بين دولة نور الدين وبين مصر، وذلك هو الرجل العاقل الصالح ابن رزيك ، لولا أن اختلاف المذهب الديني كان حائلا لا يمكن تجاوزه.
وكان الصليبيون يعرفون أن مصر بلاد غنية وأنها أسهل فتحا من قلاع الشام وليس بها أمثال نور الدين وجنوده، وكانوا يتطلعون إلى أن يقيموا ضعفهم بضمها إلى ملكهم، ولولا خشية نور الدين أن يهوي على بلادهم في أثناء محاولتهم ذلك الفتح، لبدءوا به منذ أخفقوا في الاستيلاء على دمشق واسترجاع الرها في حربهم الثانية في منتصف القرن الثاني عشر.
Bog aan la aqoon
ولقد جرت بمصر حوادث وأراد القائمون بها الانتفاع بالموقف السياسي الذي حولهم، فكانت النتيجة الطبيعية تنافسا بين الدولتين المجاورتين على أيهما تدخل تلك البلاد وتسود فيها، وتانك الدولتان هما: دولة نور الدين ودولة الصليبيين.
ساد على مصر في سنة 1164م/561ه رجل من العرب اسمه شاور، واستبد بأمرها بعد أن قتل العادل رزيك ابن الصالح رزيك الوزير الكبير، وقد نازعه في الأمر أمير عربي آخر من قبيلة لخم من بلاد الصعيد واسمه ضرغام، وكان آخر النضال بين الزعيمين أن هرب شاور يلتمس مساعدة من الخارج على خصمه؛ فذهب إلى نور الدين وعرض عليه شروطا مغرية إذا هو أعانه على استرجاع أمره بمصر، وكان نور الدين يتطلع إلى التدخل في تلك البلاد، فسنحت له تلك الفرصة، وكانت شروط شاور أن يعطي لنور الدين نفقات الحملة وثلث إيراد مصر جزية سنوية. وقد ساعدت الظروف على أن يسرع نور الدين بإجابة شاور إلى ما سأل؛ لأن ضرغام منذ أحس بسعي شاور أخذ هو من جانبه طريقا آخر يزعم فيه سلامته، فأرسل يستعين بالدولة الأخرى - دولة الفرنج بالشام، فلم يتردد نور الدين بعد ذلك بل أرسل جيشا مع شاور وجعل عليه مقدم جيشه أسد الدين شيركوه بن شادي، وجعل معه الشاب الممتاز يوسف ابن أخيه أيوب بن شادي.
الكتاب الثاني: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي
(1) منشؤه وشبابه
يحيط جو من الإبهام حول نشأة يوسف بن أيوب ونسبه؛ وذلك شأن كل رجل ينبغ من صفوف العامة فيبلغ أقصى ذرى العظمة، وقد حاول بعض من كتبوا عنه أن ينسبوه إلى أسرة عريقة وعرق شريف، ولا يسع الإنسان إلا أن يبتسم عندما يرى أمثال هؤلاء المتحمسين من الكتاب يوصلون نسبه إلى معد بن عدنان بل إلى آدم - عليه السلام.
على أنه لا يغض من قدره أننا لا نستطيع أن نتعدى في نسبته الجد الأول؛ فهو يوسف بن أيوب بن شادي، وليس بعد شادي من الأسماء ما نقدر على التثبت منه.
صورة صلاح الدين الأيوبي (خيالية).
كان أبوه وأهله من قرية «دوين» في شرق أذربيجان، وهم من بطن «الروادية» من قبيلة «الهذانية»، وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد. ويظهر أن جده شادي نزح بولديه - أيوب «نجم الدين» وشيركوه «أسد الدين» - إلى بغداد، ثم نزل بتكريت حيث مات شادي، وقد نشأ الأخوان بعد ذلك والتحقا في خدمة متولي الشحنة بالعراق «مجاهد الدين بهروز» الذي كان متوليا من قبل السلطان مسعود بن غياث الدين محمد بن ملك شاه السلجوقي. ثم انتقل نجم الدين أيوب إلى خدمة عماد الدين زنكي صاحب الموصل أول أبطال دول الأسلال الجديدة، وصار حافظ قلعة بعلبك أو «دزدارها»، فلما قتل زنكي انتقل نجم الدين إلى خدمة صاحب دمشق، والتحق أسد الدين أخوه بخدمة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وهو إذ ذاك صاحب حلب؛ ورثها حظه من دولة أبيه بعد موته، وكان له أخ ورث نصيبه الموصل وما يليها وهو سيف الدين غازي بن زنكي، وفي أثناء تلك الحوادث ولد لنجم الدين ولد سماه يوسف، ولعل ولادته كانت في ليلة خروج أبيه من تكريت إلى خدمة عماد الدين زنكي، وذلك حوالي 1138 للميلاد/532ه، وقد نشأ في كنف أبيه بدمشق، وظل أبوه هناك إلى أن أوغل نور الدين بفتوحه إلى الجنوب واستولى على دمشق فانضم إلى خدمته، وكان إذ ذاك يوسف قد ترعرع وصار فتى في السادسة عشرة من عمره، فدخل في خدمة نور الدين مع أبيه وعمه، وكانت مخايل النجابة ظاهرة عليه، فكان نور الدين يؤثره ويقربه، ويلوح أن الفتى كان حاد الذكاء له عقل ناقد ، فأدرك ما في طبع سيده من كرم وعلو وشهامة، وجعل يأخذ نفسه بما أعجبه من صفاته.
على أننا لا ننكر أننا لسنا نقدر أن نعرف عن شباب صلاح الدين شيئا كثيرا، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان أحد صغار الملحقين بالجيش، فلم يكن دونه مجال للعمل والظهور إلى جانب الكبار من قواد الجيش وشجعانه، وكان جيش نور الدين في هذا الوقت يحوي جماعة كبيرة من المبرزين الشجعان، وليس يذكر لنا صلاح الدين شيئا عن شبابه إلا أنه كان يترحم عليه ويحن إليه، وذلك أمر طبيعي لكل كبير السن إذا نظر إلى الشيب وعجزه. وأما غير ذلك فلا نسمع السلطان فيما بعد يذكر عن أعماله شيئا في وقت صغره، ويمكن أن نعزو هذا إلى حسن بصره وتواضعه؛ فأكبر الظن أنه يأبى أن يذكر لنفسه شيئا في وقت كان فيه صغيرا بين كبار يجلهم ويعرف لهم فضلهم، وأول ما يذكره التاريخ عن شباب يوسف بن أيوب وقت اشتراكه في الحملة على مصر مع عمه أسد الدين شيركوه.
ولا نملك النفس عن ذكر حقيقة نراها قد تساعد على أن تظهر إلينا صورة ذلك الرجل قريبة من الوضوح؛ وذلك أنه قد كان في شبابه يسيم سرح اللهو حيث يسيم أمثاله من الفتيان؛ فإنه تاب عن الخمر وغير ذلك من اللهو - وهو في مصر - بعد أن حمل عبء الوزارة وصار من رجال الأمر، فخلع عنه ما لا يليق به في مكانته الجديدة، وهل من الغريب ألا يكون الشباب معصوما؟! وهل ينقص من الرجل أنه كان يتذوق اللهو حلوا في جهله وسورة شبابه فإذا هو شعر بالواجب وثقله رمى عن نفسه لهوها وفرغ إلى واجبه يتذوق حلاوة القيام به بنفس الهزة التي كان يشعر بها في لهوه؟! على أنه بقي إلى آخر حياته محتفظا بالميل إلى لذات أخرى لا عار من أن يلذها الرجل؛ فقد كان منذ شبابه مغرما بالصيد: صيد الظباء في الصحراء ، وسماع الأدب الطريف في المجالس الحافلة بالأصدقاء أو بالعلماء وأهل الفضل.
Bog aan la aqoon
وكان أول عهده بالعمل الجدي خروجه إلى مصر في صحبة عمه أسد الدين شيركوه في سنة 1164 للميلاد/559ه وسنه نحو ست وعشرين سنة. (2) الحملات إلى مصر
ذهبت الحملة الأولى إلى مصر لمساعدة شاور في أبريل سنة 1164م/559ه، وهزم الجنود الأتراك الذين مع شيركوه جيش ضرغام عند بلبيس، وسارت الجنود المنصورة إلى القاهرة، وهناك وجد ضرغام نفسه مخذولا وليس حوله من يثق به أو يركن إليه، وتخلى عنه الخليفة الذي كان لا يثبت في جانب وزير مقهور، وله في ذلك العذر؛ إذ لقد كان الوزراء أيام قدرتهم لا يرعون له حقا بل يجعلونه أشبه شيء بالأسير في قصره، وكانت آخرة ضرغام على يد شعب القاهرة؛ إذ ثار به فاحتز رأسه قرب مشهد السيدة نفيسة، وتم النصر لشاور منافسه.
على أن شاور بعد ذلك رأى الأمر قد تم كما أحب، فلم تعد به حاجة إلى حلفائه: شيركوه ومن معه، وكان قد احتاط لنفسه فجعل جيش شيركوه خارج القاهرة قرب النيل، ولم يتحرك إلى الوفاء بما كان قد تعهد به لنور الدين؛ فبدأت مشادة بينه وبين حلفائه السابقين أدت إلى أن أنفذ شيركوه ابن أخيه صلاح الدين إلى بلبيس كي ينزعها لتكون هي وإقليم الشرقية في يده رهنا، فأرسل شاور إلى «أمري» ملك بيت المقدس «أملريك» يطلب مساعدته على جيش نور الدين، وكان «أمري» لا يستطيع أن يرفض ذلك الطلب؛ إذ كان يتطلع إلى امتلاك مصر، لا يمنعه إلا خوف نور الدين، فلما بلغته دعوة شاور ضمن أن يكون المصريون إلى جانبه فأقدم. وهكذا كان شاور يلعب بالنار التي ستحرقه.
بقي الجيشان الأجنبيان يتطاحنان قرب بلبيس، وكان نور الدين في أثناء ذلك يهوي بجنوده على أملاك الصليبيين بالشام؛ ففتح قلعة «حارم» إلى غرب «حلب» وبهذا صارت أنطاكية مهددة بإغاراته، ثم جد في حصار حصن «بانياس» بقرب دمشق، فكان على «أملريك» أن يعود قبل أن يتسع الخرق، وكان شيركوه لا يعلم بذلك الانتصار الذي أحرزه نور الدين، وكانت جيوشه تحارب على قلة من المئونة ولم يكن له عند بلبيس حلفاء يساعدونه ولا حصن يمتنع فيه؛ ولهذا سره أن يفاتحه الفرنج بالصلح على أن يخرج هو وهم جميعا من مصر، وكان منظر خروج جيش شيركوه من بلبيس في أكتوبر سنة 1164م/559ه أشبه شيء بالنصر؛ وذلك أن الجيش سار عن بلبيس وجاء في آخره أسد الدين شيركوه يحمل في يده لتا من حديد يحمي ساقتهم، ووقف حول الجيش جمع من مسلمي مصر ومن الفرنج ينظرون إليه وهو يخرج عن البلاد، فقال له أحد الفرنج: «أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصرية والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك حتى لا تبقى لك بقية؟» فأجاب شيركوه: «يا ليتهم فعلوا حتى كنت ترى ما أفعل؛ كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالا، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين فلا يبقي منهم أحدا.»
في مثل هذه الحال وفي مثل ذلك الجو المعنوي بدأ صلاح الدين أول جولة جدية له في غمار الحياة العملية.
مضى بعد ذلك أكثر من عامين كان فيهما شاور سيد الدولة بمصر، وكان شيركوه في أثنائهما يردد أمله في العودة إلى مصر لامتلاكها، وكان يحرض نور الدين بكل وسائل التحريض وهو يعلم أن أقرب الحجج إلى نفسه أن مصر تساعده على جهاده مع أعدائه الفرنج، وكان يسهل فتحها قائلا: «إنها دولة بغير رجال.» ولكن يجب ألا ننسى أن ثروة مصر أيضا كانت من أكبر حجج شيركوه أمام نفسه وأمام سيده، وكان الخليفة العباسي عندما علم بما يقصده شيركوه يساعد على غزو مصر بتحريضه ودعواته؛ فإن بيت بني العباس لم ينس أن بيت فاطمة في مصر كان منافسا خطيرا وأن الشيعة العلوية بدعة يجب أن تزول فلا يبقى على الأرض إلا السنة وأتباعها.
وقد كان نور الدين يتردد في إنفاذ تلك الحملة التي يحرضه شيركوه على إرسالها، ولكنه علم أن الصليبيين على نية غزو مصر فجعله ذلك يعزم، وما كان أقل جيشه عددا؛ فقد كان نصف عدد أول فرقة أنفذها عمر بن الخطاب إلى مصر؛ إذ كانوا لا يزيدون على ألفي رجل على الأصح، ولو أن الفرنج يبالغون في عدد ذلك الجيش. على أنهم كانوا ألفين من فرسان أبطال، وكان صلاح الدين مع عمه هذه المرة أيضا.
سارت الكتيبة في أوائل سنة 1167م/562ه إلى شرق النيل عند أطفيح وعبرت إلى البر الغربي من هناك، فأقبل «أمري» بجيش كبير من الشام فانضم إلى جيش شاور، وكان عدد جنوده من الفرنج والمصريين معا أكثر بكثير من عدد جيش شيركوه، ولو أن الفرنج يدعون أنهم لم يكونوا في كثرة.
بعد حين كان الجيشان أحدهما عند الفسطاط، وهو جيش مصر وحلفائها الفرنج، والآخر، وهو جيش الأتراك (شيركوه)، عند الجيزة في البر الغربي، ومضت فترة انتظار كان فيها الصليبيون يستوثقون لأنفسهم بمعاهدة أمضاها الخليفة العاضد بنفسه، وحلف عليها على أن يعطي الفرنج مائتي ألف دينار معجلة ومثلها مؤجلة ثمنا لمساعدتهم.
1
Bog aan la aqoon
بعد ذلك عبر جيش الفرنج والمصريين إلى الغرب على غرة من شيركوه، فاضطر هذا أن يتقهقر إلى الجنوب حتى بلغ «البابين» في جنوب المنيا، وهناك على حافة السهل الغربية من قبل الصحراء وقف شيركوه بأصحابه واستعد للحرب رغم نصح بعض قواده ألا يفعل، وبدأت الموقعة العظيمة في 18 أبريل سنة 1167م، وكانت خطة شيركوه أن يجعل صلاح الدين في القلب، فيظن أعداؤه أنه هو شيركوه الذي في القلب حسب العادة المتبعة؛ إذ كان القلب عادة يوضع تحت قيادة رئيس الجيش، وتوقع شيركوه بذلك أن يكون القلب أول ما يتعرض لهجوم العدو. وأما هو فقد اختار جماعة من أبطاله المجربين وجعل منهم الجناح الأيمن، وأمر صلاح الدين إذا هو هوجم أن يتقهقر في نظام ولا يثبت ثبوتا جديا حتى يغتر الفرنج ويتبعوه وهكذا كان ما توقع؛ فإن كتلة جيش مصر والفرنج صدمت القلب صدمة قوية فتقهقر صلاح الدين بنظام وثبات، فتبعه الفرنج، وعند ذلك هبط شيركوه بالجناح الأيمن على جيش المصريين فحطمه حتى إذا ما عاد الفرنج من تتبع القلب وجدوا حلفاءهم منهزمين فاتبعوهم منهزمين كذلك. على أن شيركوه لم يتبع أعداءه؛ ولعل ذلك راجع إلى قلة عدد جيشه، فآثر أن يذهب إلى الإسكندرية، وقد تمكن من أخذها بمساعدة أهلها، وترك بها صلاح الدين بنصف الجيش، وعاد هو إلى الصعيد يجبي أمواله.
صورة لموقعة البابين.
وهناك في الإسكندرية ظهر غناء صلاح الدين وتكشفت مواهبه في الحرب وكيدها، وبدا منه ذلك الثبات وذلك السلطان على النفوس وتلك القوة التي ميزت خلقه في حياته المقبلة.
عاد المصريون والفرنج - بعد أن جمعوا أمرهم وأصلحوا ما أفسدته الهزيمة - إلى الإسكندرية فحاصروها من جهة البر، على حين كان أسطول الصليبيين يهاجم المدينة من جهة البحر، وقد استمر الحصار نحو شهرين ونصف شهر ونفدت الأقوات، ولم يكن بالناس من اطمئنان على تلك الحال من الحصار، وكان صلاح الدين في قلة من الجنود لا يستطيع غير أن يبث ما في نفسه من ثبات في قلوب من في المدينة من تجار وصناع وعامة؛ فكان حينا يعدهم بقدوم شيركوه بالزاد والثروة، وحينا يخيفهم إيقاع الإفرنج وقسوتهم، وحينا يرغبهم بالصبر والثبات في سبيل نصر الدين على أعداء ملة محمد، وكان في الوقت نفسه ينفذ الرسل إلى عمه يشكو إليه ما هو فيه من مشقة وعناء من أعدائه وأصحابه على السواء، وأخيرا جاءت البشرى بقدوم أسد الدين من الصعيد إلى القاهرة وحصاره لها. وعند ذلك رأى «أمري» أن النصر غير ممكن فاتفق مع شيركوه على أن تخلى الإسكندرية وأن يخرج الجيشان جميعا من مصر، وأن يأخذ شيركوه كل ما استولى عليه من الأموال ويزيد عليه خمسين ألف دينار. وهكذا انتهى دور الحرب الثاني على بقاء مصر خالصة لشاور، ولعله تبسم إذ ذاك وفرك يديه مهنئا نفسه عندما رأى نجاح لعبه بالقوتين العظيمتين؛ قوة الصليبيين وقوة الأتراك، وبقائه سالما بين تنافسهما، ولكن مثل هذا السلاح - سلاح الخداع والحيلة - قد يرتد على من يستعمله فيقتله، ولا شك أن صلاح الدين حمل لشاور في تلك المرة كثيرا من الكره ممزوجا بالاحتقار إذ أدرك حقيقته.
لم يقم الفرنج بما تعهدوا به؛ فأبقوا منهم حراسا على أبواب القاهرة، وضربوا على مصر جزية نحو مائة ألف دينار كل عام، وكانوا يطمعون في أكثر من هذا؛ أي إنهم كانوا لا يرضون بأقل من ملك مصر بعد أن عرفوا من ضعفها أكثر مما عرفه شيركوه.
وقد عادت جيوشهم بعد نحو عام من معاهدتهم لغزو مصر، وكان عزمهم هذه المرة عزم من لا يريد هوادة، غير أن شاور أظهر من المقاومة ما لم يكن منتظرا منه؛ فأحرق الفسطاط حتى لا تكون غنيمة لأعدائه الذين كانوا حلفاءه بالأمس، ومنذ ذاك الوقت ذهبت أول عاصمة إسلامية لمصر ولم يرجع إليها بعد ذلك شيء من روائها القديم؛ إذ ظلت النيران تأكلها أكثر من خمسين يوما.
وكان جماعة من المصريين - الذين حول الخليفة العاضد والذين كانوا أعداء شاور - يراسلون نور الدين لكي يأتي لمساعدة مصر على أعدائها، وكان نور الدين يميل إلى التدخل بطبيعة الأمر، فما هو إلا أن أرسل إليه العاضد يستنجد به حتى أخذ يعد جيشا لغزو مصر، وكانت الشروط التي وعد بها العاضد شروطا لا تبررها إلا الضرورة القصوى التي كانت بها مصر؛ فقد وعد نور الدين بثلث أرض مصر وإبقاء جيش احتلال مع شيركوه فيها، وأن يقطع الجنود أرضا خارجة عن ثلث البلاد الموعود به لنور الدين.
أما شاور فإنه لم ينس أن يلجأ إلى الحيلة منذ رأى نفسه بين عدوين لا حظ له مع أيهما، فأحب أن يعمل على صرف الفرنج عن البلاد بالمال، فجعل يفاوضهم حتى اتفق معهم على ألف ألف دينار يعطيها لهم ليرحلوا عنه، وعجل لهم منها مائة ألف، ولكنه لم يستطع أن يحمل إليهم سائر المال.
وبينما هو كذلك إزاء أعدائه الفرنج كان نور الدين وشيركوه يسرعان في الاستعداد حتى أتماه، وسار جيش من ستة آلاف بينهم كثيرون من الأمراء النابهين وفيهم صلاح الدين الذي سار مع الجيش على كره بعد إلحاح عمه وتكرر طلب نور الدين، ويظهر أن صلاح الدين كان غير راض عن الاشتراك في غزو هذه المرة؛ لما شهده في الحرب الماضية من الشدة لا سيما في الإسكندرية، ولكنه على أي حال، سار مع الجيش. وكان الجميع في مصر في أوائل يناير سنة 1169م/564ه، وكان «أمري» ملك الفرنج عند وصول جيش نور الدين واقفا يستنجز شاور وعده في المال المتفق عليه، فلما أتى جيش نور الدين ورأى «أمري» موقفه الحرج وهو بين شاور من جهة والجيش الإسلامي المغير من جهة أخرى لم يستطع البقاء، فعاد إلى الشام بغير أن يصطدم بالجيش القادم، وبقي شيركوه وحده بمصر، وكان الخليفة العاضد ظاهر الفرح به، فأكرمه وخلع عليه. وأما شاور فلم يكن راضيا عن وجود ذلك الجيش القوي على كثب منه، غير أنه بلع غيظه العظيم، ولم يظهر شيئا منه خوفا وعجزا، وجعل يماطل في إنفاذ الشروط التي اتفق عليها العاضد ونور الدين، وجعل يظهر اللين لكي يخلص من عبء ذلك التعهد الثقيل، وكان يريد أن يستميل شيركوه بالملق والمداهنة، بل لعله كان يفكر في أن يوقع به لولا مقاومة ابنه لذلك الرأي.
رأى شيركوه مماطلته، ويلوح أنه كان يميل إلى التساهل قليلا، ولكن كان هناك من يكره ذلك الرجل المخادع ويحتقره ويستشف الخيانة من وراء لين ظاهره؛ وذلك هو صلاح الدين. ففاتح عمه في القبض على ذلك الثعبان فلم يرض شيركوه، فعزم هو على أن يأخذ الأمر في يده. وفي ذات يوم خرج شاور على عادته إلى معسكر الجيش التركي خارج القاهرة فلم يجد شيركوه. وقيل له: إنه خرج لزيارة قبر الإمام الشافعي، فرأى شاور أن يذهب إليه هناك، وفي أثناء سيره قرب منه صلاح الدين ومعه عز الدين جورديك - أحد أمراء الجند - وقبضا عليه فأنزلاه إلى الأرض وقيداه، وانهزم أصحابه عنه ووضع في خيمة وحده، وما هو إلا أن بلغ نبأ القبض عليه لخليفته العاضد حتى أرسل يلح في طلب رأسه، فأطيع أمر الخليفة. وهكذا ذهب رجل كان يلعب بأمر مصر نيفا وست سنين، وانتهى كل مكره الذي كان يدل به بدخول جيش نور الدين واستيلائه على البلاد.
Bog aan la aqoon
وقد كان من الممكن أن نمر على هذا الموقف مرورا سريعا، فليس به ما يستحق أن نقف عنده لعبرة أو مناقشة، ولكن حرصنا على إظهار حقيقة نفس صلاح الدين كما هي يجعلنا نسائل النفس: هل هناك في عمله بشأن شاور ما يؤخذ عليه؟ لقد قبض على الرجل وقيده حتى جاء أمر الخليفة العاضد بقتله، ولعله كان ذا يد في إنفاذ أمر العاضد، أو لعله - على الأقل - حبذ ذلك الأمر وسر له.
ألم يكن ذلك غدرا من صلاح الدين في أوله وقسوة في آخره؟ إنا لا نستطيع أن ننسى شخص شاور إذا أردنا مناقشة هذا الرأي؛ فقد كان صلاح الدين يحمل في نفسه عنه رأيا سيئا منذ الحملتين الأولى والثانية؛ إذ عرف لين ملمسه وخبث نيته وضعف نفسه الذي يغطي عليه بمكره، وقد انكشف له جشعه الذي كان يحاول إقناعه مضحيا بالدماء الغزيرة من أصحابه ومنافسيه على السواء، فهل عجيب مع ذلك أن يكره صلاح الدين مثل هذا الرجل ويسعى في تطهير مصر منه؟ أليس من الطبيعي أن تخزه تلك البسمات التي كان يراها على وجهه المخادع وهو يعلم ما انطوى تحتها؟ وإذا هو رأى مماطلته ومداهنته أليس من المتوقع أن تثور نفسه الحرة الصريحة التي غذاها هواء الجبال والصحراء ولم تعرف إلا الحقيقة الجاهمة في ميادين الموت التي كان يخوضها؟ وإذا هو سمع الإشاعات عن نية ذلك الرجل الغدر بعمه أسد الدين، أما كان واجبه أن يتخذ الحيطة منه وهو من يعرف عنه الخبث والغدر؟ حقا لقد احتقر شيركوه أن يؤاخذ شاور بما يشاع عنه، وتكبر أن يأبه بالخطر الذي كان يهدده من ناحيته، فكان في ذلك مثله مثل من يرى الحية تريد أن تنهشه فلا يرضى لها إلا عقب نعله يدفع به عن نفسه أمامها، ولكن شجاعة شيركوه وكبره شيء وعدالة موقف صلاح الدين شيء آخر؛ فقد أخذته الحفيظة فعزم على أن يوقف ذلك المرائي عند حده، فأسره مع جماعة من إخوانه ولكنه لم يقتله، فإذا كان قتله ذنبا فالذنب إذن على الخليفة العاضد الذي ألح في قتله وأمر به غير مرة . على أن صلاح الدين لو قتله لما كان آثما ولا معتديا؛ فإن شاور رجل قل أن تجد في التاريخ من استحق القتل مثله، ولا من يكون قاتله أشد رضاء عن نفسه وأسلم من تأنيب الضمير والندم؛ فهو رجل أثار حربا من أجل الوزارة بمصر، وبعد أن نصره جيش قتل من قتل من رجاله وأبطاله رجع يغدر به ويستنصر عليه بعدوه. وقد كان من الممكن أن يرضى الإنسان عن خطة شاور لو أنه اتخذ لنفسه جانبا وسار مخلصا فيه إلى غايته، ولكنه كان مثل اللاعب فوق الحبل يميل تارة ههنا وتارة ههنا يحاول أن يحفظ نفسه فوق مكانه الدقيق، فإذا نحن أردنا الحكم عليه وعلى خطته كان لا بد لنا أن نقر له بالمهارة في الانتفاع بمن حوله ومقدرته على التقلب مع الظروف والأحوال، ولكن ذلك كل ما يمكننا أن نقوله معه؛ فقد كان مثلا للسوء في تعامله وتعهده ونيته، ولقد كان صلاح الدين - باشتراكه في أسره - آلة من آلات العدالة الإلهية.
وقد اختار الخليفة العاضد - بعد قتل شاور - أسد الدين شيركوه ليكون وزيرا محله، وبالغ في إكرامه وخلع عليه وسماه الملك المنصور، وجعله قائد قواده وأمير جيوشه، غير أن الأجل لم يمهله ليتمتع بفقاعة مجد الدنيا أكثر من شهرين وخمسة أيام، وقد كان جديرا بمصر وملكها؛ لأنه في الواقع أكبر من دفع على غزوها وإليه أكبر الفضل في فتحها. وقد قيل: مات من الخناق من وراء تخمة؛ إذ كان كثير الأكل، وهو أقرب الآراء إلى التصديق. وقيل: مات من حلة مسمومة، وما أحرانا أن نلحق ذلك القول الأخير بأمثاله في أقاصيص الشرق، فما زال الخيال الشرقي ميالا إلى أن يحيط أبطاله بالأسرار والخفايا.
وعند موت شيركوه كان في الجيش جماعة من كبار الأمراء، وكان المتوقع أن يختار أحدهم وزيرا بعد شيركوه؛ فما كان من الممكن أن يتجاهل الخليفة العاضد وجود ذلك الجيش المحتل في بلاده. وكانت المظاهر كلها تدل على أن خليفة مصر ورجاله يحبون الإبقاء على مساعدة جيش نور الدين خوفا من تدخل الصليبيين؛ فقد كانوا يرون أنه إذا كان لا بد من احتلال أجنبي فليكن ذلك الجيش من المسلمين؛ ولهذا كان المنتظر أن يختار العاضد وزيرا له من كبار أمراء الجيش النوري، ولكن حدث ما لم يكن منتظرا؛ فإن السياسة المصرية إذ ذاك كانت لا تنسى أن تلجأ إلى الدهاء في مقابلة المصاعب الكثيرة التي كانت غير قادرة على حلها في ميدان الصراحة والقوة؛ ولهذا عمد الخليفة العاضد إلى حيلة يحسبها تضمن له مساعدة جيش نور الدين مع أمن شره واتقاء استبداده، فجرى على عادة المصريين في تفضيل الأصاغر لكي يكونوا أسهل قيادا، فتخطى الأمراء الكبار في الجيش واختار للوزارة ذلك الشاب الذي كان مظنة اللين والسهولة وهو صلاح الدين؛ فقد رأى الخليفة فيه ما ظنه ضعفا واستكانة؛ لما كان عليه من الحياء والاعتزال وقلة التظاهر، ولو كان الخليفة ورجاله أنفذ نظرا وأعمق فكرا لعرفوا أن تلك المظاهر إنما تخفي نفسا كبيرة تواقة؛ إذ إنه لم يكن سوى ذلك الجندي الذي أبلى بلاءه في موقعة البابين، وذلك القائد القادر الذي دافع عن الإسكندرية دفاعه المجيد مع حداثة سنه وشدة الظروف التي حوله. على أن الأمور جرت بقدر، وكان خطأ الخليفة العاضد ورجاله من حسن حظ مصر والإسلام، فأصبح صلاح الدين وزيرا لمصر وأميرا لجيوشها. (3) وزارة صلاح الدين
لم تكن بصلاح الدين رغبة في الوزارة؛ فقد كان يرى حرج موقفه فيها، ويعلم أنه لا بد يلقى فيها متاعب ومصاعب، فدونه أمور سياسة الدولة، وأي دولة! إنها مصر التي يتطاحن عليها جماعة من المستوزرين من الداخل يريدون السلطة، وجماعة من الصليبيين من الخارج لا يدعونها سالمة، وكان كذلك يستشف كراهة الأمراء الكبار لتوليته، ولم تكن نفسه من تلك النفوس الجشعة التي إذا لوح لها بالمجد طارت إليه طائشة، بل لعله كان يرى من نفسه غنى عن ذلك المجد بما يشعر به في نفسه من عظمة.
ولهذا نعلم أنه تردد كثيرا حتى رضي - بعد لأي - أن يكون عند اختيار الخليفة، فذهب إلى القصر وخلعت عليه الوزارة «من جبة وعمامة وغيرهما» ولقب بالملك الناصر.
ولسنا نجد غرابة في أنه قبل الوزارة بعد امتناع؛ فإنه فكر في نفسه وفي من حوله فلم يشعر بما يجعله يظن في غيره قوة ليست عنده، ورأى أمورا معوجة طمع أن يكون له فضل إصلاحها، ولعل آمالا أشرقت في نفسه عندما رأى صغر نفوس رجال الدولة التي أمامه، فأقدم وهو يشعر بثقل الأمانة وصعوبة المرتقى.
كان اختياره مغضبا لكبار الأمراء كما توقع؛ فلم يأبهوا به واعتزلوه، حتى سعى بينه وبينهم رجل من رجال الدين والسيف معا؛ وهو البطل الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، فأقنعهم بأن يظلوا على الولاء له، حتى قبلوا جميعا إلا جماعة؛ أكبرهم عين الدولة الياروقي؛ فإنه خالف وعاد مع جماعته إلى الشام. وبقي صلاح الدين بمصر ليقابل أمورها واحدا فواحدا، ولسنا نسمع بعد ذلك عن خلاف بينه وبين الأمراء الذين رضوا بالخضوع له، فلم يظن أحد منهم أنه خضع لغير شريف، أو أذل في ذلك الخضوع، وقد رضي نور الدين عن ذلك الاختيار وفرح به، وصار يرسل إليه في مخاطباته: «إلى الأمير الأسفهسلار»؛ وذلك لقب معناه «الأمير الحاكم» كان يطلق في ذلك الوقت على كبار القواد.
ولكن إذا كان صلاح الدين قد أمن جانب من معه من الأمراء فإنه لم يأمن جانب الياروقي ومن معه في الشام وهم يرقبون منافسهم الفتى عن بعد.
غير صلاح الدين من نفسه بعد أن صارت له الوزارة، فامتنع عن اللهو والخمر واستشعر الجد في كل أعماله، وأخذ جوهره يظهر صافيا خالصا، وكان من أكبر الصفات التي ظهرت فيه كرمه في البذل لمن معه وتعففه عن أن ينال لنفسه شيئا.
Bog aan la aqoon
ولعله شعر أنه محتاج إلى أمناء أوفياء لا يداخله شك في أمرهم، فأرسل يطلب من نور الدين أن يبعث إليه أباه وإخوته، فأرسلهم إليه بعد أن استوثق منهم أن يطيعوه، ولم يدر نور الدين أن ذلك الفتى الناشئ لم يكن في حاجة إلى ذلك الاستيثاق؛ فقد كان له من عظمة نفسه ما يجعل من معه يخضع له راضيا. وهكذا كان، فلم تمض على وزارته سنة وأشهر حتى كان كل من معه من الأمراء والأهل خاضعا محبا لسيادته في آن واحد.
ولعله من المفيد أن نقول: إن سنه وقت أن تولى الوزارة لم تكن بأزيد من واحد وثلاثين عاما.
وكانت الأمور التي شغلته منذ تولى الحكم بعضها في الداخل وبعضها من الخارج، وكان الداخل أول ما استوجب منه العمل؛ وذلك أنه بعد وزارته بأربعة شهور شعر رجال القصر أنهم بإزاء رجل ذي بأس وليس كما ظنوه ضعيفا، فأخذوا يدسون له، وكان رئيسهم خصيا أسود (مؤتمن الدولة)، فبدءوا يراسلون الفرنج سائرين على سنة شاور، فعلم صلاح الدين بالأمر وكتمه حتى رأى فرصة في مؤتمر الدولة فقبض عليه وقتله، فتعصب له الجند السودان حراس القصر وثاروا بصلاح الدين، ولكنه كان مستعدا فأوقع بهم بين القصرين ولم ينج منهم إلا القليل الشريد، ومنذ ذلك الحين جعل على القصر خصيا أبيض من رجاله وهو بهاء الدين «قراقوش».
لم يمض زمن طويل بعد تلك الثورة حتى واجهته أخطار من وراء البحر، فجاءت أساطيل الدولة الرومانية الشرقية والفرنج لحصار دمياط في عدة كبيرة؛ إذ بلغت سفنهم نيفا ومائتين، ولعلهم حسبوا أن خلو مصر من شيركوه يجعلها سهلة الفتح، فأظهر صلاح الدين أنه يقدر على كثير في غير جلبة، فأرسل العسكر والذخيرة إلى دمياط بالنيل ومكنها بذلك من مقاومة هجمات المغيرين العنيفة، وأرسل في الوقت عينه إلى نور الدين يذكر له الحال ويطلب منه المعونة، ثم لم يتوان في الأمر فذهب في جيش دمياط ليشغل المحاصرين عن فتح المدينة، وقد أسعفه نور الدين كعادته إذا جد الجد، فأرسل إليه البعوث أرسالا يتلو بعضها بعضا، ثم أهوى هو في الشام إلى بلاد الفرنج فنهب فيها وخرب، فاضطر المهاجمون الصليبيون أن يرفعوا حصار دمياط ويعودوا إلى الشام ليحموه من هجمات نور الدين بعد خمسين يوما من الحصار. وكانت سياسة صلاح الدين الداخلية عاملا من عوامل الاطمئنان والوفاق في مصر؛ حتى إن الخليفة العاضد لم يضق به كما كان يضيق بمن سبقه من الوزراء، ولم يفرح بهجوم الصليبيين هذه المرة ولم يستعن بهم، بل أرسل إلى صلاح الدين كثيرا من المال والذخيرة، حتى لقد قدر صلاح الدين نفسه ما أرسله العاضد إليه بمقدار مليون من الدنانير المصرية؛ نذكر ذلك تشريفا لآخر خلفاء الفاطميين في مصر. (4) انقراض الدولة العلوية الفاطمية بمصر
بقيت الدولة الفاطمية بمصر نحو قرنين وهي تحاول بسط سلطانها على ما جاورها من البلاد، وكان امتداد ملكها إنقاصا من سلطان دولة العباسيين.
وظلت الدولتان متنافستين تعلو كفة العباسية مرة وكفة الفاطمية مرة، إلى أن جاءت الدولة السلجوقية - كما سبق القول - وكانت الدولة الفاطمية قد اضمحل أمرها منذ أن مضى أوائلها العظام.
على أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه البت: هل كان لوجود هذه الدولة العلوية في مصر قرنين أثر في عقائد أهلها؟ فإن كل الظواهر تدل على أنه لم تكن هناك رسوم دينية خاصة تخالف أساس ما اعتاد أهل السنة في عباداتهم ومعاملاتهم؛ فإنه إن كان ثمة شيء من ذلك فهو من الزخرف والزينة والأبهة في رسوم الدين، ولم يكن على ما يظهر اختلاف في أساس العقيدة؛ فلم يكن خلفاء دولة الفاطميين من غلاة الشيعة، ولم تكن لهم تلك العقائد الغريبة السرية التي تميز الشيعة في الأقاليم الأخرى. أما الزخرف الذي ذكرناه في رسم الدين بمصر فلم ينكره أحد، وقديما كانت مصر تميل إلى الزخارف في رسوم الدين، وليس بأس من ذلك ما دام لا يمس العقيدة، ولعل طبيعة أرض مصر الوادعة وطبيعة أهلها الميالين إلى المرح والبسطة والسهولة الذين يقدرون الجمال ويحبونه؛ لعل كل ذلك حبب إلى نفوسهم ما كان للدولة من تكلف في الدين وأبهة وزينة في الحفلات. وأما العبادات والمعاملات بحسب القانون الديني فإننا لا نجد ما يدل على أن دولة الفاطميين قد أحدثت فيهما تغييرا يذكر.
ولم يكن بالمصريين كره للدولة الفاطمية. على أنه لم يكن بهم كذلك ميل إلى التضحية بشيء في سبيلها كما هي عادة الدولة إذا كان حكمها في يد طائفة معينة دون جمهور الشعب. وكان الشعب المصري يرى في كثير من الأحيان - لا سيما في الأيام الأخيرة - ظلما وضعفا من جانب الدولة، ولكنه كان دائما يميز بين الوزارة صاحبة القوة فيحقد عليها وبين الخلافة صاحبة الأمر الأعلى ويعلم أنها لا حول لها ولا قوة؛ ولهذا كان يعطف عليها؛ فعندما أبصر الشعب صلاح الدين على الوزارة ورأى كرمه في البذل وتصرفه في الدفاع وقوته في الحرب أعجب به وأحبه والتف حوله. وكان صلاح الدين منذ أخذ الوزارة في يده يسعى لتوطيد أمره بأن يجعل الشعب يثق به ويلتف حوله، ولكنه آثر ألا يصدمه بتغيير فجائي، فبدأ ينشئ المدارس السنية على مذهب الإمام الشافعي، وعارض سيده نور الدين في أمر القضاء على الحكم الشيعي من أول الأمر؛ إذ كان نور الدين يحب أن يبدأ بإزالة الخلافة الفاطمية عند أول دخول جيشه مصر، فراجعه صلاح الدين مظهرا ما قد ينتج عن مثل هذا الانقلاب الفجائي.
إلا أن إلحاح نور الدين في قطع الخطبة العلوية بمصر جعله يفكر كيف يعمل، فاستشار أصحابه فانقسموا في الرأي بين محبذ ومنكر، واتفق بعد ذلك أن مرض العاضد واحتجب في قصره فرأى الوزير الفرصة ممكنة، فجرب قطع الخطبة من أحد المساجد، وقام بالخطبة للخليفة العباسي رجل أعجمي يعرف «بالأمير العالم» فلم يحدث استنكار من جانب الناس، فأمر صلاح الدين الخطباء جميعا أن يقطعوا خطبة العاضد ففعلوا، وتم الانقلاب بدون حدوث شيء. وقد أول جماعة تردد صلاح الدين بأنه كان يرغب في بقاء الخطبة للعاضد خوفا من نور الدين. ولا حاجة بنا إلى الوقوف هنا لرد هذا الزعم؛ إذ لا نجد حجة هذه الجماعة جديرة بالتفنيد؛ فإن الحكمة السياسية وحدها كانت تقضي عليه بسلوك ما سلك من طريق التريث.
أرسلت البشائر إلى نور الدين وبغداد وازينت عاصمة الخلافة العباسية، وأرسلت الخلع من الخليفة العباسي إلى نور الدين وصلاح الدين، وأصبح في الشرق كله خليفة واحد من بني العباس لا ينازعه أحد ينتمي إلى ذلك البيت الجليل: بيت بني هاشم.
Bog aan la aqoon
وقد حدث أن العاضد في أثناء مرضه أرسل يستدعي صلاح الدين، فخاف صلاح الدين أن يلبي، وظنها خدعة ومؤامرة على عادة المصريين، ولكنه عرف - فيما بعد - أن العاضد كان مخلصا في طلبه فندم على ذلك؛ إذ كان لا يرى من ذلك الشاب الخليفة إلا كل ما يرضيه من حب ومساعدة وإخلاص، وقد كان من حسن حظ العاضد أنه لم يعرف ما حدث من الانقلاب؛ فقد توفي من مرضه في سبتمبر سنة 1171م/567ه، ولم يعلمه أحد بأن الخلافة نزعت عنه بعد أن لبثت أكثر من قرنين ونصف قرن في بيته منذ كان في شمال أفريقية قبل هبوطه مصر.
وهنا فلنسكت عما كان في قصر الخليفة من تحف ثمينة وآثار قيمة وكتب نفيسة وآلاف العبيد والإماء والثروة الطائلة، ولنكتف بأن نقول: إن صلاح الدين لم يرزأ من كل ذلك شيئا لنفسه، بل ذهب كله لرجال الجيش والأمراء الذين معه، حتى القصر نفسه، وبقي الوزير العظيم مقيما حيث كان في خشونة من العيش وسذاجة من الحياة تقرب من حياة الزاهد. (5) الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
نحن مضطرون أن نقف قليلا نناقش تهمة يوجهها كثير من المؤرخين إلى صلاح الدين؛ وهي أنه منذ شعر بثبات مكانه بمصر أثار وحشة بينه وبين سيده، وعزم على الخروج عليه ومحاربته إذا دعا الأمر، وما كان للإنسان أن يتهم حتى يكون عنده الدليل القاطع، واتهام صلاح الدين بالخروج على نور الدين وإثارة الوحشة بينه وبين سيده - الذي يجله والذي كان له عليه فضل التربية والعناية والتشجيع - اتهام خطير يجب على من يسوقه أن يكون من أشد الناس احتراسا في قوله؛ ولهذا نؤثر أن نذكر تهم المؤرخين ثم نرى مقدار قوتها على ضوء المنطق ودلالة التاريخ، وهذه هي التهم التي تساق: (1)
بعد القضاء على الدولة الفاطمية سار صلاح الدين سنة 1171م/567ه راغبا في حرب الفرنج، فحاصر حصن الشوبك بفلسطين على مسيرة يوم من الكرك، فعلم نور الدين بذلك الحرب، فرغب في مساعدة صلاح الدين، فسار من دمشق نحوه، وكان صلاح الدين قد أوشك أن يأخذ الحصن من الفرنج، فلما علم بمسير نور الدين تركه ورجع إلى مصر، وكتب إلى نور الدين يعتذر له باختلال الأمور في مصر، فلم يقبل نور الدين ذلك الاعتذار وعزم على المسير إلى مصر وإخراج ذلك المتمرد عنها، فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه وخاله ومعهم سائر الأمراء واستشارهم، فقال قائل: نمتنع عليه ونحاربه، فقام نجم الدين أيوب أبو صلاح الدين وقال قولا معناه أنه لا يوافق وأنه أول من يطيع نور الدين ويعصي ابنه إذا خرج عليه. وانفض المجلس على نصيحة أيوب أن يرسل صلاح الدين إلى نور الدين يستميله ويطلب عفوه ويذعن له ويظهر الخضوع، ثم لما خلا أيوب بابنه قال له: «ما كان ينبغي أن تصنع ما صنعت؛ فإن الأخبار لا شك تبلغ نور الدين»، ثم قال له: «ألا فاعلم أننا لا نسلم البلاد له، ولو أراد قصبة من قصب السكر لحاربناه عليها.» (2)
بناء على المفاوضة بين صلاح الدين ونور الدين استقر الأمر أخيرا على أن يقصد الاثنان حصن الكرك ويحاربا هناك معا، فلما كانت السنة التالية (أوائل سنة 1173) ذهب صلاح الدين وحصر الحصن، فلما بلغه مجيء نور الدين رجع ورفع الحصار وعاد إلى مصر، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري يعتذر لنور الدين بأنه ترك أباه على مصر فمرض، وأنه يخشى أن يموت فتخرج البلاد من أيديهم، وأرسل مع الفقيه من الهدايا والتحف ما يجل عن الوصف، فلم يقتنع نور الدين بذلك الاعتذار واستوحش باطنا ولكنه لم يظهر شيئا من تأثره. (3)
ما بين غزوة الشوبك سنة 1171م/567ه، وغزوة الكرك في أوائل سنة 1173م/569ه قد أرسل صلاح الدين أخاه الأكبر شمس الدولة توران شاه ليفتح النوبة؛ لكي تكون لهم موئلا يلجئون إليه إذا أجلاهم نور الدين عن مصر ، ولكن تلك الحملة لم تنجح؛ لأنها وجدت البلاد صحراء لا تغني. (4)
بعد غزوة الكرك في سنة 1173م/569ه لما رأى صلاح الدين أن النوبة لا تغني أحب فتح ملجأ آخر، فأرسل يستأذن نور الدين في فتح اليمن «فأذن له نور الدين»، فذهب أخوه شمس الدين توران شاه إليها وفتحها ونظم أحوالها وأصلح شئونها، واستقام أمر الأيوبيين بها نحو خمسين سنة.
هكذا يصور كثير من المؤرخين موقف صلاح الدين بإزاء سيده، وحقا إن في الحوادث التي يذكرونها كثيرا من الحقيقة، ولكن تأويلهم - في ظننا - تأويل لا تبرره الظروف ولا يقبله العقل، وما كان لنا أن نكذب تأويلهم لولا أننا نرى أن الأدلة كلها تشير إلى أن ذلك التأويل صادر عن الخيال لا عن الحقيقة، فهناك الأدلة المادية التي تظهر تأويلا غير هذا، وهناك ما نعلمه من صلاح الدين وخلقه ما ينفي أن الأمر كان كذلك.
هنا أمر يستوقف النظر: وهو أن المؤرخين الذين يذكرون تلك الأمور يتفقون في إيرادها، وفي كثير من الأحيان تتفق ألفاظهم مع اختلاف في الإيجاز والإطناب، وهذا ما يجعلنا نظن أن مصدر القصة واحد أخذ عنه الجميع، ولا يبعد أن يكون ذلك المصدر من جانب الشام أو جانب من كان مع نور الدين من الأمراء الحاقدين على صلاح الدين أمثال الياروقي. أما نحن فنرى لكل تلك الحوادث تفسيرا آخر نعتقد أنه أكثر اتفاقا مع الأحوال والأشخاص. (1) فرجوع صلاح الدين عن الشوبك سنة 1171م وعن الكرك سنة 1173م كان أمرا طبيعيا، ولولا تلك القصة التي يذكرونها عن اجتماعاته بأمرائه وما يعزونه إليهم من الأقوال لما كان هناك ما يستغرب في عمل صلاح الدين؛ فالشوبك والكرك حصنان من أمنع الحصون في فلسطين، وكان فتحهما من أكبر الفتوح التي تغنى بها الإسلام - فيما بعد - بعد جهود عظيمة ومحاولات متكررة أخفقت مرارا، وكان يحميها جماعة من المحاربين المستبسلين الذين يقاومون حتى لا يكون دونهم ما يقاومون به من مال أو دم، وكان صلاح الدين في سنة 1171م خارجا من إحداث انقلاب بمصر وإزالة دولة لها في البلاد أصل ثابت من قرنين، وكان لها أتباع وأنصار يفكرون في الدفاع وإرجاع الأمر إلى ما كان عليه، ولا سيما أنه كان إذ ذاك حديث عهد بثورة السودانيين، ولا يأمن أن يترك مصر إلا قليلا؛ ففي سنة 1171م عندما حصر الشوبك رأى أن الحصن لن يسلم إلا بعد أمد قد يطول، وأن نور الدين قد يشترك في الحرب فيجعلها واسعة الدائرة فينتقل من ميدان إلى آخر، وهو الرجل الذي يحب الجهاد ويجعل حياته له، فآثر الرجوع وأرجأ فتح ذلك الحصن إلى وقت آخر، ولو كان يخشى الاقتراب من نور الدين، فما كان الذي دعاه أن يفكر مبتدئا في غزو فلسطين؟ أما كان يؤثر من أول الأمر إبقاء الصليبيين بينه وبين من يخافه؟ (2) وأما في سنة 1173م فقد كان صلاح الدين يشم خطرا في الجو لا تفوته حركة من حركات صديقه وعدوه على السواء، فلما دعاه نور إلى حصار الكرك لم يستطع أن يمتنع حتى لا يسيء سيده به الظن، فذهب إلى هناك في شوال، وكان هو السابق، وظل على الحصار وحده مدة شهرين، ثم أقبل نور الدين بعد ذلك متأخرا في ذي الحجة.
ورأى صلاح الدين أثناء ذلك امتناع الحصن عليه، ولعل نور الدين لو كان اشترك معه من أول الأمر لكان الحصن قد سلم أو لكان على الأقل هناك تساو في المجهود يبعث نور الدين على الاكتفاء وترك الحرب إلى حين، فتأخر نور الدين كان معناه أن غياب صلاح الدين عن مصر سيستمر إلى مدة أطول، ولا سيما وأن جيش نور الدين كان لا يزال جديد الهمة وهو يعرف أن نور الدين إذا بدأ الحرب فلن ينتهي منه إلا بعد أن يبلي بلاء ويعذر، ولعله ينتقل من ميدان إلى آخر، ولن يستطيع صلاح الدين أن يترك الحرب إذا هو بدأ فيه إلى جانبه؛ لئلا يكون ذلك تخذيلا، فآثر أن يتبع - من أول الأمر - ما تمليه الرجولة ويوجبه الحذر، فأرسل في أدب معتذرا وأظهر خضوعه بما أرسل من هدايا، وأنفذ رسوله رجلا يعرف ما كان عليه من صفات ولا يطعن أحد في إخلاصه؛ وهو الفقيه عيسى الهكاري، وكان رجلا شجاعا دينا، فلو وجد شيئا على صلاح الدين من الخيانة لسيده لكان يفضي بذلك إلى نور الدين؛ إذ كان يعتقد أنه المجاهد في سبيل الله المخلص في غزواته القائم في عبادته الزاهد في دنياه، ولم يكن نور الدين في قلوب الناس - ولا سيما الفقهاء - بأقل مما كان صلاح الدين، بل إن الناس جميعا كانوا أميل إلى الخضوع له واتباعه مما كانوا يميلون إلى الفتى الناشئ، ولكن الفقيه لم يذكر إلا كل خير، ولم نسمع عن نور الدين أنه قال إلا جوابا مرضيا.
Bog aan la aqoon
ولكن كان حول نور الدين جماعة من أمثال الياروقي الذين كانوا يرون صلاح الدين قد سلبهم ملك مصر، ولا بد أن هؤلاء كانوا يحاولون ما استطاعوا أن يظهروا لنور الدين سوء نية منافسهم لعله يحقد عليه ويخلعه، فيكون ذلك انتقاما لهم منه، فجعلوا يفسرون حركات صلاح الدين بما شاءت لهم نفوسهم المغضبة.
ولا يبعد أبدا - بل نرى - أن تفسير حركات صلاح الدين بعدم رغبته في مقابلة نور الدين من وحي هؤلاء وإشاعاتهم.
أما قصة المجلس الذي جمعه صلاح الدين بعد رجوعه عن الشوبك فإنها تشبه القصص التي نسمعها في المؤلفات الخيالية، حتى إنها لتورد الألفاظ التي قالها أيوب لابنه في خلوة وهو ينصحه ألا يقول شيئا في العلن إلا الخضوع لنور الدين، ويؤكد له في نفس الوقت أنه لو أراد نور الدين قصبة من مصر لحاربه عليها، وأن نجم الدين الحريص ليكون ممن ينصح بشيء ويخالفه، ويعلم وهو محتاج إلى التعلم لو كان أسمع أحدا ما قاله لابنه إذ ذاك في خلوته؛ وإلا أفليس من المضحك أن يعرف مؤرخ ما قاله نجم الدين لابنه في خلوة ولا يعرف ذلك نور الدين نفسه؟!
على أن هناك ما يفيد أن سيرة ذلك المجلس وما وقع فيه لم تكن إلا خيالا؛ فإن ابن شداد - وهو القاضي بهاء الدين - مؤلف سيرة صلاح الدين وصاحبه في مسيره وحروبه لم يذكر شيئا عن ذلك المجلس، ولم يذكر والد صلاح الدين ولا نصيحته، ولكنه نقل إلينا وهو مصدق فيما يقول سمعته قال: سمعت صلاح الدين نفسه يقول: «كان بلغنا أن نور الدين يقصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشق عصاه ونلقى عسكره بمصاف نرده إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيء من ذلك.»
فالحقيقة هي إذن أن نور الدين تغير على صلاح الدين وأساء الظن به؛ لأنه حمل على أن يؤول حركاته وأعماله بغير ما قصده، وعزم على السير إليه وصلاح الدين صابر لا ينوي مقاومة ولا يظهر إلا الخضوع ولا يبطن إلا الإخلاص. (3)، (4) وأبلغ من كل ذلك ذكر فتح النوبة والقول بأن ذلك كان مقصودا به فتح أرض تكون ملجأ من نور الدين، والواقع أن تلك الحملة لم تكن إلا لتطهير جنوب مصر من بقايا الحرس السوداني الذي كان لا يزال منه بقية ثائرة بالصعيد حتى تكون مصر كلها مطمئنة له من البحر إلى أقصى حدودها الجنوبية. وأما فتح اليمن فمن الغريب أن يستأذن صلاح الدين نور الدين لو كان عنده نية المخالفة، ومن الغريب أن نور الدين يأذن له بإرسال الجيش إلى هناك لو كان حقيقة يعتقد أن ذلك الرجل يخون.
فالواقع الذي نراه هو أن سوء ظن نور الدين لم يبدأ منذ سنة 1171م، بل إنه قد بدأ يتجسم له من بعد موقعة الكرك، وبعد السماح بحملة اليمن سنة 1173م، وأن ذلك الظن لم يتجسم إلا من سعي أعداء صلاح الدين ومنافسيه، وأن صلاح الدين ظل إلى نهاية الأمر لا يتأثر بما يشاع عن تغير نور الدين عليه. وأما أبوه نجم الدين - رحمه الله - فلم يكن له من أمر ذلك المجلس المزعوم شيء، بل نعتقد أنه عندما مات بمصر - أثناء المدة التي كان فيها صلاح الدين عند الكرك أو عائدا منها سنة 1173م - كان لا يفكر تفكيرا جديا في أن هناك سوء ظن بين ابنه وبين سيده. (6) ثورة المصريين
لعل صلاح الدين لم يكن في حياته كلها في خطر أعظم مما كان فيه في سنة 1173م/599ه وسنة 1174م/570ه؛ فإن عوامل كثيرة اجتمعت على عداوته، ولما لم تجد فرصة تمكنها منه علنا في ميادين النضال عمدت إلى الدسائس والمؤامرات، فكان في مصر حزب موال للشيعة العلوية أصحاب الخلافة المنقرضة، كان في جيش صلاح الدين جماعة من الجند لم ينالوا ما يرضيهم فكرهوا حكمه، وكان بقية من الجند السودانيين الذين يكرهون صلاح الدين لا يزالون بمصر، وكان هناك الإسماعيلية الفدائيون الذين كانوا يميلون إلى الفتك بمن قضى على دولة علوية مذهبها الديني مثل مذهبهم، وكان صلاح الدين صاحب ذكاء متوقد وحذر لا تفوته فائتة، فأدرك أن بالجو أمورا تنذر بالخطر؛ ولهذا لم يأمن أن يبقى خارج مصر طويلا فرأيناه يعود من الكرك سنة 1173م قبل أن يتم فتحها، ولم ينتظر لكي يشترك في الحرب مع نور الدين كما مر، وقد حسب أعداؤه أن الفرصة سانحة لبعد جزء كبير من الجيش في حرب اليمن سنة 1173-1174م فأحكموا أمرهم ودبروا الوثوب به. ولا يسعنا إلا أن نبصر ما ارتكبه صلاح الدين من الخطأ بتسيير حملة في ذلك الوقت مع توقعه الخطر، ولا نجد مبررا لإنفاذ تلك الحملة إلى ذلك القطر البعيد إلا رغبته في أن يملك طرف البحر الأحمر من الجنوب كما ملك ثغر أيلة على رأسه من الشمال؛ ليمنع الخطر الذي كان في ذلك الوقت يهدد البلاد المقدسة من ناحية المسيحيين؛ إذ كانوا يفكرون في حشد أساطيل عظيمة في ذلك البحر لغرض الإغارة على الحجاز وقبر النبي. ولكن لحسن حظه علم بأمر المؤامرة قبل أن تنفذ خطتهم، وذلك بسعي زين العابدين علي بن نجا الواعظ، فقبض على رؤساء المتآمرين فصلبهم بعد أن حاكمهم وأقروا، وبذلك قضى على النار قبل أن تشب، ولكنه إذا كان قد قضى على رأس الحية فقد خلف ذنبها، وسيجد - فيما بعد - صعوبة في تحطيم ذلك الذنب كما سيأتي.
وكان أكبر من صلبهم من رؤساء المؤامرة عمارة اليمني الشاعر، وهو الذي حسن إلى شمس الدولة أخي صلاح الدين فتح اليمن، وكان يباهي بأنه هو الذي أفسح السبيل للمتآمرين بأن حمل شمس الدولة على الإقدام على حملة اليمن، وبذلك أبعد جزءا كبيرا من الجيش عن مصر، وكان لعمارة أشعار في الفاطميين منها:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن أقصرت في عذلي
Bog aan la aqoon
بالله زر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما والله لا التحمت
فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل
وقد أظهر صلاح الدين - كعادته - حكمة عظيمة في أنواع العقاب؛ فإنه بعد أن صلب القادة الكبار اكتفى بأن نفى من اشترك في المؤامرة من أجناد مصر إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة الفاطميين. وأما الذين نافقوا عليه من جنده فلم يتعرض لهم ولم يعلمهم أنه علم باشتراكهم وآثر أن يستميلهم بإزالة ما يشكون منه، وحدث ذلك كله في أبريل سنة 1174م/رمضان سنة 569ه.
ولكن الفرنج لم يعلموا أن المؤامرة قد كشفت وقضي عليها؛ ولهذا جاءوا من البحر إلى الإسكندرية في يوليو سنة 1174م/ذي الحجة سنة 569ه يحسبون أنهم سيضربون جبهة صلاح الدين يصدعونها على حين يخرج أحلافهم الخونة من خلفه فيجهزون عليه، ولكن خاب ما أملوا. (7) وفاة نور الدين
بعد القضاء على تلك المؤامرة بنحو شهر ونصف أتى إلى صلاح الدين نعي نور الدين العظيم، وإنا لا نستطيع إلا أن نذكر بالإعجاب ذلك البطل «نور الدين» الذي جعل كل حياته وقفا على الدفاع أمام قوم أغاروا على بلاد ليست لهم وأتوا ما أتوا من المظالم في شعب يرى نفسه حاميا له وملزما بالدفاع عنه. وقد كانت حياته سلسلة حروب لا بأس من أن نسميها جهادا. وقد كان نجاحه فيما قصد إليه نجاحا كبيرا؛ فكون دولة عظيمة ورد تيار الانتصار نهائيا من جانب الصليبيين فأصبح في جانب دولة الإسلام، وكان يدعى له على منابر مصر والشام إلى الموصل واليمن . على أن دولته كانت على النظام الإقطاعي؛ يحكم كل إقليم منها حاكم شبه مستقل يدين له بالدعوة ويرسل إليه العسكر والمال كلما لزم له حرب. وكان نور الدين في خلقه مثلا من الأمثلة العليا في الزهد في غير مرارة، والتدين في غير تعصب، والعدالة في غير تشدد. وكان هو نفسه في مقدمة المحاربين لا يتأخر، بل يحارب بنفسه غير خائف أن يصاب، ولا يطيع من ينصحه بالاحتراس؛ ولا أدل على روحه من أن نورد ما قاله مرة وقد نصحه ناصح أن يدع الحرب خوف أن يصاب فيكون في إصابته هلاك المسلمين، فقال: «ومن محمود حتى يقال له هذا؟ إن من قبلي من حفظ البلاد والإسلام؛ وذلك هو الله.»
ولا ندري كيف كان وقع نبأ موته على صلاح الدين، وأكبر ظننا أنه أساءه أيما إساءة وأحزنه أعظم حزن.
2
على أننا لا نقدر أن نتناسى أن موته أخرج صلاح الدين من خطر عظيم؛ وذلك أن الخلاف الذي دب بينه وبينه بعد سنة 1173م كان لا بد يصل إلى حد بعيد لو بقي نور الدين حيا، ومن يدري هل كان صلاح الدين يحتفظ إلى آخر الأمر بما سار عليه إلى ذلك الوقت من الحفاظ والاعتدال؟ (8) بدء العصر الثاني من حياة صلاح الدين
Bog aan la aqoon
بعد أن مات نور الدين تركت الدولة الإسلامية الكبرى لابنه الملك الصالح إسماعيل وهو صبي يبلغ من العمر نحو إحدى عشرة سنة، وجعل مقامه بدمشق، وحلف له الأمراء الكبار، وضربت النقود باسمه في كل جهة من أول مصر إلى أطراف الشام. وكان في البلاد الشامية والجزيرة عواصم ثلاث أخذت القيادة في حوادث تلك الأيام؛ وهي دمشق وحلب والموصل، وكان أول صوت أذن بالاضطراب في دولة نور الدين آتيا من نحو الموصل؛ إذ إن سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين (أي ابن عم الملك الصالح) أسرع إلى الاستقلال بما يليه من البلاد وأعلن نفسه أميرا على الجزيرة، وكان حوله من أمرائه من يحسن له أن يذهب إلى الشام ويستولي عليها؛ فليس بها من مانع، ولكنه آثر أن يقنع بالجزيرة، وبقيت الشام في أيدي الملك الصالح أو بقول أدق: بقيت في أيدي الأمراء الذين استولوا على الملك الصالح تحت اسم الوصاية عليه وتولي تربيته، فكان الأمر في الواقع في يد شمس الدين محمد بن عبد الملك المشهور بابن المقدم بدمشق، وشمس الدين علي ابن الداية؛ وهو أكبر الأمراء النورية، وكان في حلب. وقد شهد الفرنج ما أصاب دولة نور الدين من الصدع بعد موته؛ فإن مصر صارت مستقلة ولو أن صلاح الدين كان خاضعا في الظاهر للملك الصالح داعيا باسمه على منابره، وكانت الجزيرة في يد سيف الدين غازي، وحلب في يد شمس الدين ابن الداية، ودمشق والملك الصالح بها في يد شمس الدين محمد ابن المقدم، وكان بين هؤلاء جميعا تنافس على أيهم يسود، وكل منهم ينظر إلى الآخر مترقبا حذرا أن يثب به إذا هو لقي منه غرة. فانتهز الفرنج الفرصة وألقوا بفرسانهم إلى دمشق وما جاورها، ولم يستطع شمس الدين ابن المقدم أن يقاوم هجماتهم، أو لعله كان يستطيع ولكنه آثر أن يذل لهم زعما منه؛ لأن الأمراء في الموصل وحلب وصلاح الدين في مصر إذا رأوه منشغلا في حرب الفرنج ينتهزون فرصة انشغاله فيهبطون على ما في يده فيسلبون طعمته. وهكذا يضمحل أمر الدول إذا هوى في أيدي قوم لا يتطلعون إلى أبعد من أنوفهم ولا يدركون إلا ما تقدره نفوسهم الصغيرة.
فصالح شمس الدولة ابن المقدم الفرنج على مال يعطيه لهم وأسرى يطلقهم ممن كانوا عند المسلمين منذ حروب نور الدين.
وأعقب ذلك بالشام تنافس شديد بين أمير حلب وأمير دمشق على أيهما يستولي على الملك الصالح، وأدى ذلك إلى أخذ الملك الصالح إلى حلب ثم إلى مفاوضة مع سيف الدين صاحب الموصل أن يأتي إلى الشام لكي ينجي دولة نور الدين من سفه أمرائه المتنافسين، ولكن سيف الدين أبى أن يتدخل في ذلك، فارتدت المفاوضة إلى جهة مصر، وبلغت الدعوة صلاح الدين ليأتي إلى الشام، وكان قد فرغ من إصلاح أمر مصر وتثبيت قواعد دولته فيها، فلبى الدعوة وسار نحو دمشق، وبذلك بدأ أول خطوة في سبيل التدخل في أمر حكام الأنحاء الأخرى من الدولة الإسلامية، ولن ينتهي السير به في ذلك السبيل دون توحيد جميع الدولة في يده فتكون قوة واحدة للجهاد كما كانت في يد نور الدين، وقد وقع ذلك ما بين سنتي 1174-1186م. (9) الإفرنج أمام الإسكندرية
كان موت نور الدين - كما قدمنا - مؤذنا بسعي الفرنج من جديد لكي يستردوا ما أخذه منهم ذلك الملك العظيم، فثاروا بالشام وذهبوا إلى قرب دمشق، وكان أبناء نور الدين ووزراؤهم على غير ما عهد الفرنج من أبيهم العظيم، وكذلك ظن الفرنج الذين اشتركوا في التآمر على صلاح الدين - كما أسلفنا - أنهم يستطيعون عند ذلك أن يضربوا ضربتهم لتكون قاتلة. فاجتمع لهم سفن كثيرة من الشام وصقلية بلغت عدتها نحو 282 سفينة، وجاءوا إلى الإسكندرية ونصبوا المجانيق والدبابات عليها في يوليو سنة 1174م، ولكن شتان بين ما لقيهم به صلاح الدين من العدة وبين ما لقيهم به وزير الملك الصالح بدمشق؛ فقد كان أهل مصر واثقين بقائدهم وحاكمهم؛ ولهذا أبدى أهل الإسكندرية من الشجاعة ما أدهش المهاجمين، ثم وصلتهم نجدات العسكر فزادهم ذلك صبرا في الحرب، ثم بلغ الأمر إلى صلاح الدين فأسرع بجيش إلى الإسكندرية وبالغ في الاحتياط، فأرسل جيشا آخر إلى دمياط، فلما عرف المدافعون مسيره إليهم دبت فيهم حماسة عظيمة وأبلوا بلاء حسنا، فهزم الفرنج وغرقت لهم سفن كثيرة وفشلت حملتهم فشلا تاما. ولسنا ندري ماذا كان يحدث لو وقع الهجوم من أربعة شهور قبل أن يقضي صلاح الدين على رءوس المتآمرين في داخل البلاد؟ (10) استتباب الأمر لصلاح الدين في مصر
دخل صلاح الدين مصر أول مرة مع عمه سنة 1164م، ودخلها آخر مرة مع عمه أيضا سنة 1169م، ثم أقام بها وزيرا للعاضد إلى سنة 1171م، ومن ذلك الوقت صار فيها شبه ملك مستقل خاضع لنور الدين على الأسلوب الإقطاعي، وقابل مشاكل مصر العديدة منتصرا في كل موقف بغير أن يحدث زعجة أو يثير ضجة، بل لقد وقف - وهو وزير - بين نور الدين السني المجاهد وبين العاضد الفاطمي، واستطاع بكياسته وحسن اختياره أن يحفظ توازنه ويسير الأمور سيرا ناعما، فلم يحقد عليه العاضد بل ظل على تقديره والإخلاص إليه حتى مات، وليس أدل على ذلك من طلبه رؤيته وهو في أشد حال من مرضه قبل وفاته. وكذلك لم يجد نور الدين في سلوكه ما يجعله يندم على إقرار أمره والموافقة على تقديمه أمام الجلة من كبار أمرائه. ثم أصبح - بعد موت العاضد - ملكا على مصر فعلا مع بقائه على الخضوع لنور الدين، وبدأ يشترك في أمور الدولة الإسلامية العامة في حين ضبطه لمصر في داخلها وخارجها، فإذا قلنا: إن سياسته كانت تامة النجاح لم يكن في ذلك شيء من المبالغة؛ إذ ما أتى آخر عام 1174م حتى كان قد أسس دولة فتية على رأسها جيش واثق برئيسه وتدعمها سياسة اقتصادية حكيمة ملأت خزائن الدولة بغير أن تنسى الإصلاح والتعمير، وإذا كان لرأي الشعب في تلك العصور قيمة فقد أدرك الشعب المصري أن فوقه رجلا ولا كالرجال، بل هو القائد الفذ والمصلح الذي لم يعهد مثله؛ فهدأت أحوال مصر وسارت في سبيل الاطمئنان الذي سيعدها لاستقبال عصرها المجيد أيام دولة بني أيوب ومن جاء بعدهم من السلاطين المماليك، فلا نسمع بعد بثورة إلا كان القضاء عليها أمرا لا يحتاج لأكثر من أيام كثورة قامت بها البقية القليلة من أعداء دولة صلاح الدين وكانت في الصعيد بقيادة رجل يعرف بالكنز، فلم تلبث أن قضي عليها قضاء يدل على أن أساس الدولة قد صار راسيا متينا.
باب زويلة (مثل من بناء سور القاهرة).
ولم ينس صلاح الدين أن يجعل لمصر حصنا كما كان لبلاد الشام حصون، ولم يرض عن سور القاهرة ولا عن حصنها فصعد في الجبل واختار أقرب رأس منه مشرف على القاهرة، وفكر في أن يبني عليها قلعة، ولا نقدر إلا أن نرى في عزمه هذا أثرا من آثار العصر وروحه؛ فإن المحاربين عند ذلك كانوا لا يثقون إلا في القلاع سواء في ذلك الفرنج والمسلمون، وكان الشرق من الشام إلى فارس لا يرى العز والمنعة إلا في القلاع في تلك العصور المضطربة، وكانت مصر بلادا سهلة؛ فمن ملك ناصية الجبل المطل على عاصمتها استطاع أن يمتنع على المغير الأجنبي إذا غزا أرباض القاهرة، وكذلك يستطيع من يملكها أن يظهر لكل ذي عينين في تلك العاصمة أن هناك قوة كبيرة ماثلة أمامه يقبض عليها رأس الدولة ويقدر أن يقذف بها على من يخالفه.
ولكن مشاكل الدولة الإسلامية بعد موت نور الدين دعت صلاح الدين إلى أن يترك مصر وأمورها إلى حين؛ ولهذا لم يبدأ بناء القلعة والسور الذي عزم على إقامته بينها وبين والقاهرة، بل أجل ذلك حتى يقابل الأخطار التي كانت تهدد دولة نور الدين؛ فأسرع إلى الثغرة ليسدها؛ لأنه شعر أنه وارث العبء بعد وفاة العميد الأول (نور الدين)، وأن عليه واجبا كبيرا: وهو جمع الأزمة في قبضة واحدة ليتم عمل السابقين في جهاد أعداء الدولة الإسلامية. (11) حروب الشام الأولى
كانت رحلة صلاح الدين الأولى أشبه شيء برحلة زيارة؛ إذ إنه لم يعد عدة الحرب ولم يظهر بمظهر الفاتح، وإنما ذهب إجابة لدعوة توجهت إليه، ووجد في البلاد التي دعته استعدادا للانضمام تحت لوائه وسرورا بالاتحاد مع دولته المصرية العظيمة.
سار في نحو سبعمائة فارس في أواخر عام 1174م/570ه حتى بلغ دمشق، ولم يجد حربا لا من أصحاب البلاد المسلمين ولا من المسيحيين الذين على جانب طريقه، فخرج إليه أهل دمشق وعسكرها ورحبوا به، وأعلن أنه إنما جاء في خدمة الملك الصالح ونصرته، وسلمت له القلعة بدمشق، وحدث الانقلاب بغير سفك دماء، ثم سار إلى الشمال نحو حمص وحماة وهو يردد إعلان أمره، وأنه إنما جاء في سبيل نصرة الملك الصالح ليمنع عنه جوار ابن عمه سيف الدين غازي من جهة، واستبداد أمرائه من جهة أخرى، واعتداء الفرنج على بلاده من جهة ثالثة ، وقد قاومته قلعة حمص حينا إلى ما بعد حصار حلب ثم سلمت إليه. ولكن انضم إليه صديقه القديم «جورديك» وكان حاكما على قلعة حماة وسارا معا إلى حلب، وكان الأمراء الذين مع الملك الصالح يفزعون من أن يستولي صلاح الدين على حلب خوفا من أن يكون الملك الصالح في يده دونهم، فقاوموا وجعلوا الملك يستثير حمية أهل حلب للدفاع عنه حتى ساعدوه مستبسلين وخرجوا إلى حرب صلاح الدين، وقد بذل أمراء حلب في ذلك الوقت همة في الدفاع عن أنفسهم لم يكن صلاح الدين يتوقع مثلها منهم؛ فقد كان الأمر أمر حياة أو موت لهم؛ ولهذا أرسلوا باسم الملك الصالح يستنجدون بمن يتوقعون منهم المساعدة؛ لا يبالون بشيء إلا بأن يخلصوا من خطر صلاح الدين؛ فأرسلوا إلى الفرنج يطلبون مساعدتهم، وكان كبيرهم «الكونت ريمون» - حاكم طرابلس - ويسميه العرب القمص ريمند، وكان إذ ذاك أكبر أمراء ملك الفرنج المجذوم «بلدوين الرابع»، وكذلك أرسلوا إلى سنان مقدم طائفة الباطنية الفدائيين الإسماعيلية لكي يرسلوا فتاكهم يغتالون الرجل المخيف الذي قد يعجزون هم وحلفاؤهم عن مقاومته صراحة في ميدان النضال الشريف، وأرسلوا إلى جهة ثالثة غير مؤملين منها مساعدة - وهي الموصل - حيث كان سيف الدين غازي.
Bog aan la aqoon
فكان صلاح الدين يحاصر المدينة ويقابل دفاع أهلها الشجعان، في حين كان القمص ريمند يتحرك عليه ليأتي إليه من الجنوب فيقطع عليه خط الاتصال مع قاعدة ملكه، وفي الوقت نفسه أرسل رئيس الإسماعيلية جماعة من رجاله فوثبوا بصلاح الدين ولكنهم لم يقدروا أن يصلوا إليه. فرأى صلاح الدين أن قوته أقل من مقابلة كل هذه المقاومة التي ما كان يتوقعها، وخشي من حركة الفرنج في جنوبه فرفع الحصار عن حلب وعاد إلى حمص ليقابل الفرنج، ولكنهم عادوا ولم يخاطروا بمحاربته عندما رأوه يتحرك ضدهم. وأما هو فاغتنم الفرصة لكي لا يجعل من ورائه قلعة تهدد ظهره فاستولى على قلعة حمص التي كانت إلى ذلك الحين تقاوم، واستولى كذلك على بعلبك ثم عاد إلى حلب بعد أن جمع من مصر إمدادا لجيشه، وأعد العدة للنضال والحرب الذي لم يكن في نيته أول الأمر.
وقد كانت العداوة التي أظهرها أمراء الملك الصالح ومقاومتهم تلك التي استعانوا فيها بالفرنج والإسماعيلية ونزولهم إلى وسائل يأباها النضال الشرعي؛ لقد كان ذلك سببا في أن يقطع صلاح الدين اسم الملك الصالح وأن يعلن في خطبته استقلاله منذ سنة 1175م، وقد خلع عليه الخليفة العباسي ولقبه سلطانا وأصبح له مكان شرعي فوق قوته الفعلية، فلما عاد إلى حلب كما تقدم وجد جنود سيف الدين غازي قد وصلت؛ لأن ذلك الأمير قد تغلب عليه الخوف من صلاح الدين، فبعد أن كان حذرا لا يريد التدخل في أمور الشام رأى أن يساعد الملك الصالح حتى لا يدع ملك صلاح الدين يقوى ويصبح خطرا على استقلاله في الجزيرة، فقابل صلاح الدين جنود الموصل عند «قرون حماة» فهزمهم، ثم عاد إلى حلب فحاصرها حتى اشتد الأمر على من بها، ففاوضوه في الصلح على أن يبقي كل من الجانبين ما في يده من البلاد، وبهذا أصبح ملك صلاح الدين ممتدا من مصر إلى حماة، وجعل ينظم دولته الجديدة فولى على إقطاعها أمراء من أهله وممن يثق بهم.
غير أن الصلح بين الجانبين لم يدم طويلا، وكان نقضه على يد سيف الدين غازي صاحب الموصل؛ إذ عاد بعد عام إلى حلب، وكان صلاح الدين مطمئنا إلى المعاهدة التي أبرمها معه في العام الماضي فأرسل جنوده إلى مصر، وكانت تلك غرة منه لو عرف أعداؤه أن ينتهزوها، ولكنهم - لحسن حظه - تباطئوا، ولعل ذكر النصر الماضي الذي أحرزه صلاح الدين هو سبب ذلك التباطؤ الذي نشأ عن مبالغة أعدائه في الحذر منه؛ فوجد صلاح الدين زمنا كافيا لجمع الجنود والسير إلى أعدائه والراحة بعد جهود السير السريع، وكان لقاء جيش سيف الدين قرب حلب عند «تل السلطان»، وهناك كان اسم صلاح الدين وعدم ثقة جنود سيف الدين بقوادهم سببين داعيين إلى الانهزام بغير مصاف، وهرب سيف الدين عائدا في خوف إلى الموصل تاركا جيشه تحت أخيه عز الدين. وتبع صلاح الدين المنهزمين إلى حلب وبعث بعوثه إلى الحصون المجاورة مثل منبج وأعزاز ففتحهما، وحدث له في حصار أعزاز حادث يستحق أن يذكر؛ وذلك أن فتاكي الإسماعيلية عادوا مرة أخرى إلى الوثوب به، حتى إن أحدهم وصل إليه بيده وضربه في رأسه بسكين ولولا المغفر لقتله، فأمسك صلاح الدين بيده ولكنه لم يقدر على منعه من الضرب، فكان يضربه في عنقه ضربات ضعيفة لم تؤثر فيه؛ إذ كان عليه الكزاغند يحميه، واستمر الفاتك يحاول التخلص من قبضته ويضربه حتى أدركه بعض أمرائه فقتلوا ذلك الفتاك، فهجم آخر عليه، ثم ثالث، فقتلا دونه ونجا صلاح الدين نجاة عجيبة، ولكنه مع ذاك بقي على حصار قلعة أعزاز حتى فتحها، فأصبحت حلب معزولة وسط أملاكه، ورأى من بها ضعف موقفهم ففاوضوا في الصلح مرة أخرى. ومن العجيب أن صلاح الدين مع انتصاره ومع ما شهده من دناءة أعدائه في التجائهم إلى النذالة في الكيد له ونقضهم العهد معه، نقول: من العجيب أنه قبل مفاوضتهم ولم يشتط عليهم في الشرط، بل ترك لهم حلب ونزل عن أعزاز إكراما لابنة صغيرة لسيده نور الدين، وكانوا أخرجوها إليه فطلبت تلك القلعة التي كاد يهلك في أثناء فتحها، فأجابها إلى ذلك وأضاف هدايا ذات قيمة مراعاة لذكرى أبيها، واتفق الجميع في آخر يوليو سنة 1176م على أن يكونوا يدا واحدة على من ينقض العهد.
ولنترك هذا التصرف بغير تعليق لعله ينبئ بشيء مما كان عليه صلاح الدين، أو لعل فيه ردا بليغا على من يتهمه بقلة الوفاء. (12) موقف صلاح الدين أمام أسرة نور الدين محمود
لا يضير الرجل العظيم أن يذكر له عيب، ومتى كان الإنسان كاملا؟! وهكذا أمر صلاح الدين؛ فليس يضيره أن يقول قائل: قد كان به نقص ولو كان ذلك النقص خلقيا؛ فكثيرا ما يعمد رجال الدولة - ولا سيما رجال السيف - إلى وسائل تأباها الأخلاق ولكن تبررها الحاجة العملية، فيمر عليها التاريخ متساهلا كأنما يهز رأسه مستسلما لطبيعة الأشياء، ولكنا مع ذلك لا نرى من يطعن على صلاح الدين في موقفه أمام أسرة نور الدين ويتهمه بقلة الوفاء والجحود؛ فإنا نرى الوقائع كلها تدل دلالة لا شك فيها على أن صلاح الدين كان دائما يؤثر أن يخسر شيئا من الدنيا في سبيل الأخلاق والقلب، وما كان هو ممن يتخطون الفضائل في سبيل شيء من الأشياء ولو كان مما يكبر في الأعين. حقا لقد سار صلاح الدين إلى الشام واستولى على دمشق ثم وقف بعد ذلك وحارب جنودا اسمها جنود الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين. وهكذا يقول بعض القائلين: لقد كان صلاح الدين رجل طمع في الدنيا فضحى من أجلها بما كان يجب أن يرعى من ذمة في بيت له عليه فضل النعمة والتربية.
لسنا ندري ماذا كان هؤلاء يريدون؟ استولى الملك الصالح اسما، وتنافس على اسمه أمراء أيهم يسود فيستعمل رقية ذلك الاسم في النفوذ إلى غرضه؟ وكان من وراء ذلك التنافس أن أصبحت الدولة الإسلامية واهنة محطمة تمد يدا سفلى إلى أعدائها الفرنج بعد أن كانت تملي عليهم إرادتها أيام نور الدين. وقد كان صلاح الدين شريكا في إقامة تلك الدولة العظيمة، وشهد من نصرها ما كان يجعله يدرك مرارة الموقف الجديد من الخذلان، ثم رأى الأمراء المتنافسين وهم يتهافتون على أشياء لا يقيم هو لها وزنا، وما كان نور الدين العظيم ليرضى عن ابنه ومن استولوا عليه لو أنه شهد ما صنعوا؛ ولهذا نرى أن صلاح الدين كان يخطئ أفحش خطأ لو هو رضي بما وقع ولم يحرك يدا لمنع الصرح المجيد من أن يهوي إلى الأرض محطما.
وكان من حسن حظ دول الإسلام أنه اتبع ما أملاه عليه قلبه العظيم، ولم يخش تهمة يتهمه بها جانب من الجوانب ما دام هو يحس من نفسه شرف ما هو صانع وخلاص نيته في القصد إلى المصلحة. (13) فترة السلام
إذا قلنا: إن صلاح الدين أقبل منذ 1176م/572ه على فترة سلام دام نحو ست سنين إلى سنة 1181م/577ه فليس معنى هذا أنه لم يحارب طول تلك المدة؛ إذ إنه لم يخل عام من حياته من حرب منذ دخل ميدان العمل. وقد كان عصره عصر كفاح مستمر وعصر اضطراب وثوران في داخل النفوس، واضطراب وثوران في العالم الخارجي، وقد كان هو نفسه نتيجة ذلك الاضطراب إلى حد عظيم. وإذن فمعنى أن هذه الفترة كانت فترة سلام ينصرف إلى علاقاته بالدول الإسلامية؛ فإنه يظهر في هذه السنين الست بمظهر المصلح الداخلي الذي يريد أن يقيم دولته على قواعد ثابتة من القوة الحقيقية: قوة الثروة والقانون؛ فكان يتردد بين مصر والشام؛ يصلح من أمر مصر بحسب ما تقتضيه حاجاتها الزراعية، ويحاول أن يحصنها تحصينا يمنع إقليمها السهل أن يكون طعمة للمغيرين، ولم ينس أن طبيعتها تستلزم حكومة موحدة قوية المركز فقلل من الأقطاع فيها، وجعل أمراء الأقطاع الذين فيها لا استقلال لهم ولا تصرف إلى جانب الحكومة المركزية، وجعل يقيم فيها المدارس والمستشفيات وأمثالها من مستلزمات المدنية المستقرة، على حين كان يصلح من أمر بلاد الشام بحسب ما يقتضيه موقعها؛ إذ كان ذلك القطر جبهة الإسلام وميدان النضال بينه وبين القوة المسيحية المغيرة، فكان من الطبيعي له أن تغلب عليه الصفة الحربية، فأقطع بلاده لأمرائه وجعلهم أشباه مستقلين تحت زعامته لا يطمع منهم في أكثر من أن يتبعوه إلى الحرب ويظلوا معه حتى يعطيهم الدستور فيعودوا إلى بلادهم، وكان في كثير من الأحوال يداري هؤلاء الأمراء ويقنع منهم بأن يخضعوا راغبين تحاشيا لكثرة الاحتكاك معهم، وهم قوم قد جرأتهم كثرة الحروب وضراهم النضال المستمر، فلم يكن نضالهم بالهين ولا شوكتهم باللينة.
ولعل انصراف صلاح الدين إلى إصلاح دولته قد جعل جيرانه المسيحيين يشعرون بخفة وطأة الدولة الإسلامية، أو لعل ظروف أوروبا ووجود حركة جديدة بها ترمي إلى تعزيز كلمة المسيح في الشام وتجديد قوة الصليبيين التي حطمها نور الدين، أو لعل كلا السببين عملا معا على أن يتجرأ الصليبيون ويغيروا على ما يليهم من البلاد الإسلامية التي أخذت منهم في مدة السنين الماضية؛ ولهذا تجد أن صلاح الدين في هذه السنوات الست لم يكن في سلام تام، ولكن أكثر الحروب التي خاضها كانت مع المسيحيين، ولم يكن هو البادئ بها بل كان في أغلبها مدافعا.
على أنه كان بين حين وحين يدخل في نضال هين مع بعض الأمراء المسلمين إما لخروج أمير من أمراء أقطاعه عليه وإما لتمنع جار عن أداء واجب تعهد به .
Bog aan la aqoon