Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Noocyada
هذا وقد نبيح لأنفسنا أن نستعير لغة ما وراء الطبيعة فنقول: إن القوة العصبية نوع من القوة ولها كما يقولون أشعة، ولعل تلك الأشعة تحدث في الخارج أثرا، ولعل هذا هو سر ما يشعر به الناس من هيبة ممزوجة باحترام وحب إذا هم اقتربوا من العظيم، وما ذلك الشعور - كما يقول أصحاب ما وراء الطبيعة - إلا نتيجة تأثير نفس العظيم في نفوس من حوله، وذلك شبيه بأثر المنوم في التنويم المغناطيسي. وقد كان عظماء الرجال جميعا متصفين بتلك الصفة، فلا نسمع عن عظيم إلا ونعرف أن المتقرب إليه كان يشعر بشيء من الشعور القوي نحوه.
وقد قال من اقترب من صلاح الدين مثل هذا، ومن ذلك ما حكاه عبد اللطيف البغدادي عنه إذ قال: «إن المتقرب منه لا يستطيع إلا أن يحس بحب له ممزوج بهيبة.»
8 (ج)
هذا عن تلك القوة المبهمة التي يمتاز بها الرجل العظيم، ولكنا نقدر بعد ذلك أن نتكلم كلاما أقل إبهاما؛ فإن من أكبر مميزات العظيم نظرته في الحياة إلى نفسه وإلى الناس.
إن الطفل ينظر إلى العالم نظرة سطحية فيرى كل ما فيها معقدا منفصلا عن غيره غير مفهوم، فإذا ما كبر أخذ يخترق السطح فيعرف طبائع الأشياء فيقل تعقدها في نظره، حتى إذا عرف العالم وخبره أمكنه أن يسند كل شيء إلى أصوله، وأن يرى الأمور بسيطة إلى حد أكبر مما كان يراه من قبل. وهكذا الناس فمنهم الأبله الذي يأخذ العالم كما هو ويظن كل شيء وحدة قائمة بذاتها فيخيل إليه أن العالم مركب معقد على غير نظام، ويليه من هو أكثر منه نباهة، حتى الذكي الفهم فإنه يرى العالم أبسط بكثير مما يراه الأقل فهما. فإذا ما بلغ الرجل إلى مستوى العظمة أمكنه أن يخترق الحجب السطحية وأن يتغلغل إلى الحقائق المجردة من التمويه والأعراض؛ ولهذا كان عظماء الرجال دائما ممتازين ببساطة التفكير وبساطة الخطط وبساطة النظرة إلى الحياة، فينظرون إلى أنفسهم وإلى الناس أنهم جميعا خلق متشابهون في كثير، ويختلف بعضهم عن بعض بحسب طباعهم لا بحسب الاصطلاح والوضع. وهكذا كان صلاح الدين بسيطا في كل شيء: في نظرته إلى الحياة، في تفكيره في سلوكه، في معاملاته، في حياته، في نظرته إلى نفسه وإلى الناس.
كان لا يظهر بأنه سيد الدولة الإسلامية، بل يقف أمام أمرائه الكبار وأحقر خدمه على السواء بصفته رجلا أمام رجال؛ لا يفرق بين أحد والآخر إلا بمقدار حظه من الرجولة، ولعله كان واثقا - أو كان واثقا بطبعه بغير تفكير - من أنه أقوى من كل من دونه من الرجال بغير حاجة إلى أن يرتكز على مساعدة أبهة الملك وهيبة السلطان. وكان أمراؤه مع ما يعطيهم من الحرية وما كان لهم في عصرهم ذاك من القوة والنفوذ، كانوا يتضاءلون أمامه ولا يجسر أحد أن يعصي إذا أمره، لا خوفا من قوته المادية ولكن طاعة لا بد منها لشخصه القوي.
فلم يكن يحرك على أمير جنودا، بل يكلمه الكلمة الوديعة ثم يتركه، فإذا هو خاضع ولو كان ممن لا يأسرهم الإحسان.
وإلى جانب هذا كان لا يرى فرقا كبيرا بينه وبين أقل خدمه، بل يتجاوز ويحكم بطبعه بغير تكلف؛ فقد رمى أحد الخدم آخر بحذاء فتجاوز حتى وصل إليه هو، فأدار وجهه للناحية الأخرى حتى لا يحرج ذلك الخادم. وكان إذا عرضت عليه القصص يزدحم الناس عليه حتى لقد يطئون طراحته وهو لا يتأثر.
9
وطلب في قضية خصما فجلس في مجلس القضاء ولم يتكبر مع أن الحق كان معه. وأراد مملوك مرة أن يوقع منه على ورقة فاعتذر له بالضجر وطلب إليه أن يؤجل ذلك، فألح فقال له: إن الدواة غير حاضرة، فأشار المملوك إلى دواة كانت على مسافة منه، فنظر صلاح الدين فوجدها، فمال ببساطة نحوها مرتكزا على يده حتى بلغها بمشقة، ثم وقع له بما شاء ولم ير في ذلك شيئا.
Bog aan la aqoon