Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Noocyada
وهكذا سلمت المدينة للفرنج في 12 يوليو سنة 1191م/17 جمادى الآخرة سنة 587ه بين حزن الجنود الواقفة في الخارج وألم السلطان الذي كان أشد الناس شعورا بتلك الصدمة، وتهليل الفرنج لما نالوا من نصر بعد عامين قضوهما في حرب مهلكة عند أسوار تلك المدينة. (26) عدم إنفاذ المعاهدة وقتل المسلمين بعكا
كان ميعاد بذل المال فداء الأسرى شهرين، فبعد أن سلمت المدينة كان هناك جانبان كل منهما يشك في نية الآخر؛ فالفرنج - وقد أخذهم زهو النصر - لا يريدون أن يسلموا شيئا من أسراهم حتى يتأكدوا من المال، والمسلمون وقد وخزهم الانهزام يريدون ألا يزيدوا عدوهم قوة بالمال المشروط إلا إذا تأكدوا من أنهم يطلقون الأسرى المسلمين. وهكذا بدأ الصليبيون بالاحتياط فحبسوا المسلمين الذين في عكا ممن يجب فداؤهم.
وأما المسلمون فبدءوا في تحصيل المال، وعرضوا أخيرا أن يسلموا منه النصف بشرط أن يضمن الداوية (فرسان المعبد أو التمبل) إطلاق الأسرى عند تمام دفع المال؛ لأنهم كانوا أهل دين ومحافظة على العهد يعرفهم المسلمون بذلك، فأبى الداوية أن يضمنوا، وقال الفرنج: إنهم يصرون على دفع المال كله، ولهم بعد وصوله أن يطلقوا من شاءوا ويحفظوا من شاءوا، فشك صلاح الدين في نيتهم وأنهم يريدون وصول المال ليتقووا به، ثم يطلقوا الفقراء والصغار ويحتفظوا بالأمراء والأغنياء؛ ليصيبوا من وراء ذلك غنما جديدا يتقوون به؛ ولهذا أبى أن يسلم المال الذي جمعه.
ثم استمر القتال بين الفريقين بعد أخذ الفرنج عكا، وما كان أشد دهشة المسلمين عندما رأوا بعد القتال جثث أسرى عكا وقد قتلهم الفرنج، وكان عددهم نحو ثلاثة آلاف رجل، وذلك في أغسطس سنة 1191م، ولم يبق من الأسرى إلا الأمراء والأغنياء، وعلى ذلك لم يرسل السلطان المال ولا الأسرى الفرنج ولا الصليب.
وإنا لا نقدر أن نشدد النكير في اللوم على الفرنج على ما أتوه؛ فلا نستطيع أن ننسب ذلك إلى التعصب والكره والحقد كما يذهب جماعة من المؤرخين، بل نرى ذلك نتيجة لسوء في التفاهم بين الجانبين في وقت كانت العداوة ثائرة والنفوس متألمة بعد قتال عنيف استمر سنتين عند أسوار المدينة، وكان ذلك النصر بعد الهزائم المتكررة دافعا بطبيعة الأمر إلى ارتكاب ذلك الشطط.
على أننا لا نتمالك الإعجاب بصلاح الدين واعتداله وحكمه لنفسه إذ أرجع أسرى الفرنج إلى دمشق سالمين مع شدة غضبه وحنقه على من نقضوا العهد ولم يأخذهم بجريرة إخوانهم. (27) الحرب الأولى بعد أخذ عكا
قد كان لأخذ عكا أثر أدبي كبير فوق ما كان له من أثر مادي في تقوية الفرنج وتخذيل المسلمين؛ فإن الصليبيين ساروا بعد أخذها منتصرين، وخشي المسلمون بأسهم فكانوا يفرون في أكثر مواقف اللقاء، ولولا ثبات صلاح الدين نفسه وأخيه العادل وبعض كبار الأمراء لكان الخطب أعظم، وكان قائد الفرنج - بعد أخذ عكا - في أكثر الوقت ريكارد؛ وذلك لأن فيليب ملك فرنسا عاد إلى بلاده عقيب أخذ تلك المدينة، ولعل من أسباب عودته ما كان بينه وبين ريكارد من الخلاف والمنافسة.
سار ريكارد إلى الجنوب على رأس الجيوش الصليبية قاصدا أخذ بلاد الساحل، ثم إذا اطمأن له ذلك نفذ إلى الداخل ليستولي على بيت المقدس.
وسار صلاح الدين وأمراؤه بإزائهم، ولكن المسلمين كانوا يسبقون إلى الجنوب مسرعين على حين كان الفرنج يتريثون في سيرهم إما لانتظار المدد من وراء البحر وإما للخوف من الكمائن. ولم يحدث قتال يستحق الذكر إلا عند أرسوف 1 سبتمبر سنة 1191م شعبان 587ه، وهناك انهزم المسلمون هزيمة كبرى، ولولا ثبات صلاح الدين في القلب مع جماعة قليلة، ولولا أثره الشخصي في تحميس الجنود أو إشعارهم الخجل من فرارهم لكانت موقعة أرسوف نكبة من أكبر نكبات هذه الحرب. ولم يستفد الفرنج من انتصارهم عند أرسوف؛ إذ كانوا دائما يحسبون فرار المسلمين خديعة ويحسبونهم قد أكمنوا لهم الكمائن، وزاد فيهم هذا الاعتقاد عندما رأوا في القلب جماعة ثابتة والكئوس تضرب وسطها، وهي الجماعة الملتفة حول السلطان.
ولما رأى صلاح الدين ضعف الحالة المعنوية في جيشه جمع أمراءه عقب الموقعة ليروا رأيا في الخطة التي يجب اتباعها، فقرروا أن يتركوا الساحل للفرنج ولا يحاولوا المدافعة في مدينة من مدنه، ولكنهم قرروا تخريب المدن الجنوبية القريبة من حدود مصر حتى لا يتحصن الفرنج بها إذا أخذوها فيكونوا خطرا على المواصلة بين مصر وبين ميدان الشام، وتقرر البدء بتخريب عسقلان. وقد تألم صلاح الدين أكبر ألم لذلك؛ إذ قال لأحد ثقاته: «والله لأن أفقد أولادي بأسرهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرا واحدا، ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان.»
Bog aan la aqoon