Safwat Casr
صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر
Noocyada
فقيد التاريخ والعلم والأدب المرحوم جرجي بك زيدان منشئ مجلة الهلال والروائي الشهير.
محاكمة واستنتاج ويلقيها كما تلقى الببغاء كلمات يتلقنها فينقلوها على المسامع، ولكن ليس من السهل أن يكتب تاريخا يصور لك الحوادث من الحقيقة بحيث تكاد تلمسها باليد.
ليست مهمة المؤرخ الذي يسمى مؤرخا بالمعنى الصحيح بالمهمة الهينة، بل هي مهمة تستنفد قوى الكاتب البصير إذا وجه إليها عنايته في ترتيب الحوادث وانتقاء الأخبار، والتفريق بين صحيحها وفاسدها وبيان الرأي الصحيح فيها وربط بعضها ببعض.
وإن من يطالع كتب هذا الفقيد العظيم ويطالع كتب المؤرخين قبله لا يسعه إلا الاعتراف بفضله على التاريخ، والإقرار بأنه عانى من المشاق في وضع كتبه هذه ما لم يعانه مؤرخ من قبله، وأنه اختط طريقا خاصا للمؤرخين من العرب في تقسيم التاريخ وترتيبه، يشهد أنه كان من خيرة مؤرخي العرب وأطولهم باعا في انتقاء المواضيع الاجتماعية، التي لم يسبقه إلى التخصص بمثلها أحد من مؤرخينا الأقدمين.
ولقد أبرز الفقيد إلى عالم الصحافة اثنين وعشرين مجلدا من الهلال، صدرت في اثنتين وعشرين سنة متوالية بلا انقطاع ولا ارتباك، كل جزء منها أوسع نطاقا من سلفه وأغزر مادة وأدق بحثا وأعم فائدة وأكثر اتقانا، وأرعى للمطالعة وأشهى، وشهرة بلغت أقصى المغارب والمشارق ورواج قلما تجد له مثيلا في الصحافة العربية، كل ذلك يشهد بطول باع الفقيد في فن الصحافة وصحة نظره فيه، ويحفظ له مقاما رفيعا بين أهله وذويه ولا سيما إذا نظرت إلى رأس ماله المادي والأحوال المعاكسة، التي تحدق بأمثاله في هذه الديار والمجلات العديدة التي توافر لها من أسباب الارتقاء والرواج ما لم يتيسر للهلال، ومع ذلك ما كاد نجمها يطلع في سماء الصحافة حتى أفل والهلال ينمو ويكفل.
أما المزايا الصحافية التي امتاز بها هذا الفقيد، وكانت السبب في هذا النجاح الباهر فهي حسن الإدارة، واختيار المباحث، وسهولة الإنشاء، والإدارة، ينطوي تحتها أمور كثيرة مادية وأدبية كضبط المواعيد وحسن الطباعة وإتقان الوجه التجاري، وحفظ النسبة اللازمة بين واجبات الصحافي وأميال الجمهور، وتاريخ الهلال يدلك على أن هذا الفقيد برع في هذا الوجه، فإن الهلال ما تأخر يوما عن ميعاده ولا جاء سقيما في مواضيعه أو رثا في ورقه، ولا وقع بينه وبين الرأي العام نفور مع وعورة بعض المسالك التي سلكها ومحاولة بعض ذوي المآرب إيغار الصدور عليه.
والفقيد قصصي كان يرتب القصة والحوادث فيها مدهشة، وآخذة بعضها برقاب بعض ومنساقة كلها إلى ملتقى واحد هو النتيجة التي تتهافت إليها عواطف القارئ، ومدمجة اندماجا يقررها في ذهن القارئ كحقائق راهنة، وما هي إلا حقائق تاريخية راهنة.
وهو كروائي مؤرخ يتناول جميع الحقائق التاريخية من مصادر التاريخ الموثوق بها، وينسقها في قالب الرواية، بحيث تستطيع أن تميز بين أن تقرأ قصة فكاهية أو تاريخا مسجلا يقف عند كل عبرة ويتدفق فلسفة اجتماعية وحكمة، فالذي يطالع روايات الفقيد يطلع على تاريخ الشرق لعهد الإسلام، ويستلذ هذا التاريخ ويستوعبه من غير أن يعنت ذهنه.
مولده ونشأته
ولد هذا الفقيد العظيم في مدينة بيروت في 14 ديسمبر سنة 1861م، وتلقى مبادئ العلوم في بعض مدارسها الابتدائية حتى قضت عليه الأحوال بترك المدرسة صغيرا ومساعدة والده في أشغاله، وهو لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، غير أن ميله الغريزي إلى العلم والأدب جعله لا يدع فرصة لا يستفيد منها، إما بمطالعة ما تصل إليه يده من الكتب وإما بتقربه من رجال العلم، وقد كان مولعا في أثناء ذلك بالرسم والتصوير حتى تكاد لا تجد كتابا من كتبه إلا عليه شيء من رسمه، فكان كلما تعب من الدرس يتشاغل بمثل ذلك حرصا على وقته أن يضيع بلا عمل.
Bog aan la aqoon