Ruuxa Weyn ee Mahatma Gandhi
روح عظيم المهاتما غاندي
Noocyada
وكان على زعامتهم جميعا في أوائل القرن العشرين رجل من أعظم نوابغ الهند في الزمن الحديث، وهو «لوكمانيا بال جانجدبار طيلاق».
ولقد كان طيلاق عالما واسع المعرفة بالعلوم الرياضية والثقافة الهندية والغربية، قويم الخلق، عالي النفس، قوي الشكيمة، صعب المراس، يقول فيه غاندي: إنه لو ظهر في الزمن القديم لكان من مؤسسي الدول والعروش.
وأكبر الظن أنه لو عاش طيلاق وطال به العمر، لوقعت النبوة بينه وبين غاندي في برنامج السياسة الوطنية؛ لأنهما مزاجان متباينان، ولكنه قضى زمنا في السجن ثم قضى نحبه في سنة 1920، قبل أن تنعقد الزعامة الإجماعية لغاندي، فظلا مدى الحياة على الوفاق. •••
وكأنما كانت الهند تروز مكان الزعامة منها حتى وجدت زعامتها التي تلائمها، بعد هذا التمهيد من تطور غاندي وتطور الحياة الشعبية في بلاده، فلما تولى غاندي زعامتها تولاها زعامة هندية وروحانية توائم الهند كل المواءمة، وتصلح لها حيث لا تصلح الزعامات على منهاج الشعوب الأوروبية.
ويبدو لنا أن صفات غاندي كلها قد رشحته لهذه الزعامة الروحانية، حتى عيوبه الظاهرة، فإن القماءة والضآلة والانكسار نقص في الزعيم، ولكنها في الداعية الروحاني كمال أو توفيق حسن بين دعوته ومرآه، وقد اقترنت صفاته جميعا بالإخلاص الذي يعلو على الشبهات، فكانت شهادة له عند الخصوم كما كانت شهادة له عند الأصدقاء.
قلنا حين كتبنا عنه قبل نيف وعشرين سنة: «لم يظهر بعد طيلاق الزعيم الهندي الذي مات في الأعوام الأخيرة زعيم كان أجل خطرا وأبعد صيتا، وأكثر أتباعا من غاندي، هذا الذي لقبه قومه بالنبي أو القديس. وقد اعتاد غاندي أن يقول عن سلفه الراحل: إنه لو ظهر في القرون الغابرة لأنشأ له دولة وعرشا، وهو إنما قال فيه هذا القول لما عرفه من شدة مراس طيلاق وقوة شكيمته وبعد أمله واعتداده بنفسه وبروز شخصيته. ولا نظنه إلا كان شاعرا بالتفاوت بينه وبين صاحبه في هذه الخصال حين التفت إليها ونوه بها أكثر من مرة، فإن الاختلاف في الخلق من هذه الناحية هو أوضح مواضع التباين بين الرجلين: صاحب العرش الذي تأخر به الزمن عن عرشه، والنبي الذي لم يتأخر به الزمن عن شرف النبوة! «والعهد بالأغلب الأعم من أبطال النهضات، وقادة الحركات الاجتماعية والسياسية أن يكونوا صعاب الطبائع ضخام الأنانية، أولي طمع وكبرياء، وأنهم إلى أخلاق الغزاة الفاتحين أقرب منهم إلى أخلاق الأنبياء والنساك. ولو قدر للهند ألا يتولى الزعامة فيها أحد من غير ذلك الطراز الذي نبغ منه طيلاق لما سمعنا باسم غاندي قط، ولما كان له دور يؤبه له في رواية الهند الحديثة ... نعم فليس غاندي بذلك الرجل الجبار بشخصيته، الغلاب بحيلته، ولا هو بالمزاول المداور، القوي العارضة، الخلاب الفصاحة، ولا هو بالرجل الذي تروعك هيئته، وتستحوذ على إعجابك هيبته، لا بل خلاف ذلك يراه واصفوه من أتباعه وغير أتباعه يقولون: إنهم يبصرونه في ضواه، ونحافة جسمه، ورخامة صوته، ووداعة نظراته ، فكأنما يبصرون طفلا صغيرا لا بطلا مسموعا يقود الملايين وينهض لمناوأة أكبر دولة في الأرض. وقد رأيت له عدة صور مطابقة لهذا الوصف، وقرأت أخباره مع حكومة الهند، وأساليبه الغريبة في مصاولتها، فلم أشك في أن رؤساء الحكومة هناك كانت تمر بهم لحظات لا يتمالكون فيها من الابتسام لهذا القدر الذي امتحنهم بكفاح هذا النبي السياسي، فأصبحوا أمام حملاته التي كان يصبها عليهم صبا لا يدرون في أي باب يسلكونها: أفي باب اللدد في الخصومة، أم في باب عناد الطفولة الطاهرة البريئة؟ ولا يكادون يعلمون هل يجد هذا الخصم العنيد، أو هو يداعب حكومة الهند برهة، ثم هو تاركها وشأنها حين يلهمه هواه.
إلى هذا الحد يتصور الفكر غاندي غير مطبوع على إثارة البغضاء، وهي خصلة أفادته أجل فائدة في مهمته التي قيضته الظروف لها، وما كانت لتقيض لها رجلا هو أخلق بها منه ... إنها كانت مهمة صاحبها في غنى عما يتصف به الزعماء الجبابرة من خلق غضوب يستنفرون به في جانبهم وجانب خصومهم أقصى ما عند الفريقين من نعرة الجنسية وعداوة العصبية، فهي مهمة جهاد سلمي، سلاحها الرفق والصبر، وأصلح الناس لقيادتها ذلك الرجل المسالم بطبعه، الوديع بحكم تكوينه، الذي يحذر أتباعه أشد الحذر من مقارفة العدوان والعنف، ويقول لهم: إذا كان لا بد من العدوان فكونوا أنتم ضحاياه ولا تكونوا أنتم جناته، ويعظهم أن يعلوا بأنفسهم عن غضب السباع وشراسة الحيوانية، وهي كذلك مهمة تأليف بين عنصرين فرقتهما ترات تاريخية كانت إلى عهد قريب تسيل الدماء، وتذكي ضرام البغضاء، وتبعث الأنفة والاعتزاز بالآباء، فكلما كان القائم بها سهل العريكة، بعيدا عن الكبرياء الشخصية والخنزوانة الدينية، كان ذلك أعون له على الإصلاح والتوفيق ومسح الترات، ولم الصفوف، وهي مع هذا وذاك مهمة قناعة وإعراض عن لذات المدنية وغواياتها، ومن لها غير غاندي المتواضع المتقشف، القانع باليسير من الغذاء والرخيص من الكساء؟ لو أنه كان من رجال المطامع، وعشاق الدنيا المفتونين بجاهها وزينتها ولذاتها وملاهيها - أتراه كان يخطر له أن يتخذ نفسه قدوة لاتباع دعوته، فيغدو ويروح في ثياب من أرخص ما تنسج الهند، أو يعيش على الفاكهة والأرز المسلوق؟ لقد صار للدين ومكارم الأخلاق كل ما عمله غاندي ونطق به، حتى الدعوة إلى نبذ مظاهر المدنية الغربية قد وجد لها حجة من مكارم الأخلاق تحث عليها، فكان يقول لجماعته: «إنني لأستحيي أن أخاصم رجلا يمن علي بنسج ملابسي ...» وما هو بهازل ولا متكلف فيما يقول.
ويخيل إلي أن ضمور الشخصية أفاد غاندي أكثر مما أضر بنفوذه، وأكسبه من الأنصار أكثر ممن أبعد عنه، إذ كانت الشخصية الضامرة هي التي ساعدته على بلوغ تلك المنزلة الدينية الرفيعة، التي مهدت له سبيل التمكن من أقوى جوانب النفس الهندية - وهو جانب الشعور الديني - فإنه ما زال من سمات النساك والروحانيين بساطة المظهر وخشوع النفس والجسم، والبعد عن صور السطوة والوجاهة الدنيوية، بذلك يتسم النساك الصادقون، وكذلك يتراءى للناس النساك المتصنعون، فصاحبنا غاندي في بنيته النحيلة وقده الصغير، أصدق عنوان للزهد والورع وأقرب صورة إلى الصلاح والتقوى. ويمكن أن يقال على سبيل المجاز: إن الطبيعة تورعت في تركيبه فلم تعمد إلى البذخ والروعة، فكان الرجل متقشفا في الحياة، وكانت الحياة متقشفة فيه.
وكثيرا ما رأينا الكبراء، من ذوي الصلف والنفوذ يقبلون الطاعة لأمثال غاندي ممن لا سلطان لهم في ذواتهم، ولكنهم مظهر من مظاهر سلطان الله، الذي لا يتعالى على سلطانه عظيم ولا حقير: يقبلون الطاعة له، ولا يقبلونها لمن يتقدم إليهم بمزايا من جنس مزاياهم؛ لأن الأول يترك لهم الدنيا التي هي موضع تفاخرهم وتناحرهم، ومثار التنافس والحسد بينهم، فيخرجونه من ميدان المنافسة، ولا يرون في أنفسهم غضاضة من تقديمه عليهم جميعا، والثاني يتقدم إليهم بحظه من تلك المزايا لينافسوه أو ليستكبروه عن منافستهم، فيسلمون له عند العجز مجبرين أو مختارين كمجبرين. وللضعيف الهيئة في بعض الأحيان أن يغتبط بضعفه الظاهر، ويحمد عواقبه لأن الناس لا يكلفونه ما يكلفون القوي ولا يقيسون أعماله بمقياس ذوي القدرة والخطر ... يستكثرون منه القليل إذ يستقلون من غيره الكثير، ويعجبون منه بما ليس يعجبهم من سواه، مثله في ذلك كمثل الطفل الصغير يرفع اللبنة فتسير بحديثه الأمثال، وليس هذا ولا أضعافه مما يذكر للرجل الكبير. ... إن غاندي كما رأينا مما تقدم صاحب زعامة خاصة بموقفه ومهمته، أي: إنه لم يخلق ليكون زعيما على كل حال، ولا نقول ذلك بخسا لشمائل الرجل ولا تنقصا من قدرته، فإنه فضلا عن فصاحته وسهولة اجتذابه للسامعين حاصل، كما نعتقد، على صفتين من ألزم صفات الزعامة على الناس، بل هما ألزم صفاتها قاطبة ولولاهما لما أفلح داع قط، ولا استحق الكرامة زعيم، وهاتان الصفتان هما: الإخلاص والإيمان.
فإخلاص غاندي فوق كل شبهة، وإيمان غاندي قد صفته المحن ومحضه النسك، وتنزه عن الشكوك الهادمة والوساوس القاتمة ... عرف له إخلاصه وإيمانه أبناء قومه فعظموه وأكرموه ورفعوه بينهم مكانا لا مطمع فوقه لطامع، وما أدراك ما مكانه عندهم؟ إنهم يلقبونه: النبي أو الروح العظيم (ماه-آتما) وهي منزلة ليس بعدها ولا أرفع منها في دين البراهمة إلا منزلة واحدة ... هي الروح الكلية (بارام-آتما) وهي روح برهما: روح الله.
Bog aan la aqoon