18
بينما كان ليون رولاند يسهر الليل مفكرا حائرا بأمر تلك الفتاة التي خلبت لبه، والكونت دي مايلي يحاول أن يجذب قلب هرمين وقد بات مستودع سرها، إذ كان يتزلف إليها بلباس الإخاء وهي تثق بوداده الكاذب وتخبره بما اقترفه زوجها، فيعدها خيرا، ويذكر لها من أحوال الفيروزة ما يضرم نار الحقد في قلبها، وقد اتفق وإياها على أن لا تخبر زوجها حين يعود إليها بشيء مما تعلمه عن هذه البغي إلى أن يجد وسيلة لإبعادها.
فوثقت بوعوده وجعلت تتغذى بقرب ولدها عن بعد هذا الزوج، وبينما كانت الأرملة تفتح هوة الضلال كي تزج بها صديقتها، وبينما كان أندريا يراقب جميع هذه الحوادث ويعمل على إغواء امرأة أخيه المحسن إليه، وبينما كانت جميع هذه الدسائس التي استنبطتها قريحة السير فيليام تسير على ما يريد، كان فرناند روشي ينزل من مركبته بعد أن أزاح العصابة عن عينيه ووقف في عطفة الشارع يتلو كتاب الفيروزة.
فلما أتم تلاوة الكتاب اصفر وجهه وقال: لا بد لي أن أراها ولو سافرت إلى أقصى المعمورة.
ثم مشى مشية المفكر المهموم إلى أن وصل إلى منزله ودخل إليه دون أن يدري أين هو، حتى انتبه وهو في الحديقة إلى صوت ولده يناديه من النافذة بصوت الجذل المندهش، فوجف فؤاده وسرت إلى نفسه عواطف الحنو، فأسرع إلى لقاء هذا الولد، فبلغ إليه وهو في حجر أمه واندفع يعانق الاثنين ويقبلهما قبلات صادقة، أنسته حب الفيروزة الكاذب إلى حين.
وكان بينه وبين امرأته حديث طويل، فأخبرهما بحديث مبارزته واعتقاله كما شاء، وتظاهرت بتصديقه كي لا يعود إلى الجفاء، وبات تلك الليلة في منزله وهو على أحر من الجمر، وكان إذا تمثلت له الفيروزة تشاغل عنها بمداعبة طفله إخفاء لبوادر غرامه الشديد.
ولما كان الصباح ركب فرسا عربيا أصيلا، وخرج إلى النزهة في الغابات كما تعود فاطمأنت هرمين لما رأته من ظواهر حبه القديم، ولم تعد تخطر لها خيانته في بال، فلما حان وقت الغذاء لم يرجع، فانتظرته إلى العشاء فلم يعد، وانتصف الليل فلم يحضر؛ فعادت إليها هواجسها وأقامت في نافذة غرفتها منتظرة دون أن يكتحل جفنها بالرقاد حتى طلع النهار، فرأت باب الحديقة قد فتح ودخل منه ذلك الفرس الذي كان يمتطيه فرناند دون فارسه، وكان يقوده أحد الخدم، فهلع قلبها ونادت الخادم وسألته عن زوجها، فقال: إنه دفع إلي الفرس كي أرجعه إلى المنزل، وكان ذلك مساء أمس خارج باريس.
قالت: كيف أعطاك الحصان ولماذا؟ - إنه كان يطارد مركبة فيها فتاة حسناء عليها ملابس السفر، فلما أدرك المركبة استوقفها فوقفت، وتباحث مع الفتاة بحثا طويلا تبينت من إشارته أنه يدعوها إلى الرجوع إلى باريس، وكأنه قد أقنعها فنظر إلى الشارع فرآني واقفا أنظر إليهما، فكتب نمرتي في دفتره ثم قال: خذ هذا الجواد وانتظرني في غابة بولونيا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذا لم أعد إليك أرجعه في الصباح إلى منزلي. ثم دلني على المنزل ودفع لي أجرتي وعاد إلى المركبة فركب بجانب الفتاة وعاد كلاهما إلى باريس.
دقت هرمين يدا بيد وقد أيقنت أن زوجها قد علق بتلك البغي، وللحال خرجت من المنزل فركبت مركبة وأمرت السائق أن يسير بها إلى منزل الكونت دي مايلي كي تستشيره في أمرها، فقد باتت تثق به وثوق الأخ بأخيها.
وحكاية فرناند أنه خرج للتنزه صباحا في غابات بولونيا كما تقدم، وفيما هو يسير الهوينا إذ أبصر مركبة تسير على مسافة بعيدة عنه مسير المستعجل المسافر لأمر خطير، تجرها أربعة جياد، دفعه الفضول إلى تعقب هذه المركبة لا سيما بعد أن رأى فيها فتاة وأمتعة سفر، وما زال يتعقبها حتى أوشك أن يدنو منها، فعلم أن تلك الفتاة لم تكن إلا الفيروزة، وذكر ما كتبته إليه عن عزمها على مغادرة باريس.
Bog aan la aqoon