7
عرف القراء مما قدمناه عن باكارا كيف استحالت هذه الفتاة إثر توبتها، لقد كانت تبالغ بالزهد حتى باتت تشبه النساك الزاهدين، واقفة حياتها على خدمة البائسين، وإلقاء البذور الصالحة في نفوس الفتيات، ومساعدة أرمان دي كركاز فيما كان ينفقه في سبيل الخير، فاشتهرت بهذه المعيشة الصالحة وأصبحت ملجأ المعوز اليتيم، وكان الفقراء يتوافدون إلى منزلها أفواجا، والرجال الأغنياء يأتونها من كل فج يلتمسون منها توزيع حسناتهم على الفقراء البائسين.
على أنها مع شدة زهدها وانقلابها، كانت لا تزال حريصة على بعض من آثار خلاعتها السابقة، فقد كان لها في منزلها الرحيب غرفة خاصة لا يدخلها أحد من الخدم، ولا يلجها سواها، وفي هذه الغرفة جميع ما كان لديها من أدوات التبرج والتزين، ولعلها أبقتها كي تذكر برؤيتها أويقاتها الهائلة، فتكون خير دافع لها إلى الاسترسال في التوبة.
وكان في صدر الغرفة صورة كبيرة تمثل فرناند روشي وهو نائم على سرير، إشارة إلى الليلة التي حمل فيها إلى منزلها كما عرف القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وفي جدار آخر صورتها وهي مجردة حنجرا تريد قتل خادمتها فاني إشارة إلى خادمتها السابقة في مستشفى المجانين. وكانت في كل ليلة تدخل إلى هذه الغرفة وتنظر إلى صورتها، فتبدو عليها علائم الاشمئزاز والنفور، وتنظر إلى صورة فرناند حبيبها القديم فتنطبع على محياها الجميل دلائل الخشوع، وتنطلق عيناها بالدموع، فتركع أمام الرسم وتصلي.
ثم تخرج من الغرفة فتنفي هذه الذكرى من مخيلتها، ولا تفتكر إلا بمشاريع الإحسان والترقي إلى الله بما تصنعه من الخير، ولا يزال هذا دأبها منذ بدأت توبتها إلى هذا العهد من سياق الحديث.
ولقد تقدم لنا القول إن نساء الخير كن يأتينها ليعهدن إليها توزيع حسناتهن السرية، فاتفق أنه بعد يومين مضيا على اجتماع أندريا بالفتاة التي نعنيها بالفيروزة، قدمت المركيزة فان هوب إلى منزل باكارا وطلبت أن تراها، فأجفلت باكارا حين علمت بقدوم المركيزة، وكأنها خجلت من نفسها أن ترى أعظم نبيلة بين عقائل باريس تنسى حياتها السابقة وتزورها في منزلها، فقابلتها مطرقة باستحياء.
أما زيارة المركيزة فلم تكن إلا لأنها ورت إليها رسالة من عائلة فقيرة تلتمس منها الإحسان، وجاءت إلى منزل تلك العابدة كي تعهد إليها إيصال إحسانها إلى تلك العائلة.
ويسمح لنا القارى أن نسدل الحجاب على تلك المقابلة الأولى بين هاتين المرأتين اللتين سيؤلف بينهما الشقاء فيما سيجيئ من فصول هذه الرواية، غير أننا نقول إن هذه الليلة كانت موعد الليلة الراقصة التي تحييها المركيزة في قصرها، وهي الحفلة التي سيقدم فيها شاروبيم الجميل أحد أعضاء اللجنة السرية للمركيزة، كما تقدم في فصل سابق.
8
بعد ساعتين من زيارة المركيزة، كان رجلان يسيران إلى منزلها لحضور الليلة الراقصة وهما شاروبيم والماجور العضوان العاملان في الجمعية السرية، وكان شاروبيم يقول لرفيقه الذي كان يريد تقديمه للمركيزة: إني لم أعلم المراد من تقديمي لهذه المركيزة، فهل تعلم أنت شيئا من ذلك؟ ألا تعرف رئيسنا؟ - لا، فإني أتلقى أوامره بواسطة روكامبول. - ألا ترى أننا نركب متن الطيش والغرور حين نقبل أن نقاد كالعميان؟
Bog aan la aqoon