لَجأ بعض أهل البصيرة فى أزمنة مُخْتَلفَة إِلَى الْعدْل وظنوا كَمَا ظن بعض العارفين ونطق بِهِ فى كلمة جليلة أَن الْعدْل نَائِب الْمحبَّة نعم لَا يَخْلُو القَوْل من حِكْمَة وَلَكِن من الذى يضع قَوَاعِد الْعدْل وَيحمل الكافة على رعايتها قبل ذَلِك هُوَ الْعقل فَكَمَا كَانَ الْفِكر وَالذكر والخيال ينابيع الشَّقَاء كَذَلِك تكون وَسَائِل السَّعَادَة وفيهَا مُسْتَقر السكينَة وَقد راينا أَن اعْتِدَال الْفِكر وسعة الْعلم وَقُوَّة الْعقل وأصالة الحكم تذْهب بِكَثِير من النَّاس إِلَى مَا وَرَاء حجب الشَّهَوَات وَتَعْلُو بهم فَوق مَا تخيله المخاوف فيعرفون لكل حق حرمته ويميزون بَين لَذَّة مَا يفنى وَمَنْفَعَة مَا يبْقى وَقد جَاءَ مِنْهُم أَفْرَاد فى كل أمة وضعُوا أصُول الْفَضِيلَة وكشفوا وُجُوه الرذيلة وقسموا أَعمال الْإِنْسَان إِلَى مَا تحضر لذته وتسوء عاقبته وَهُوَ مَا يحب اجتنابه وَإِلَى مَا قد يشق احْتِمَاله وَلَكِن تسر مغابته وَهُوَ مَا يجب الْأَخْذ بِهِ وَمِنْهُم من أنْفق فى الدعْوَة إِلَى رايه نَفسه وَمَاله وَقضى شَهِيد إخلاصه فى دَعْوَة قومه إِلَى مَا يحفظ نظامهم فَهَؤُلَاءِ الْعُقَلَاء هم الَّذين يضعون قَوَاعِد الْعدْل وعَلى أهل السُّلْطَان أَن يحملوا الكافة على رعايتها وَبِذَلِك يَسْتَقِيم أَمر النَّاس
هَذَا قَول لَا يجافى الْحق ظَاهره وَلَكِن هَل سمع فى سيرة الْإِنْسَان وَهل ينطبق على سنته أَن يخضع كَافَّة أَفْرَاده أَو الْغَالِب مِنْهُم لرَأى الْعَاقِل لمُجَرّد أَنه الصَّوَاب وَهل كفى فى إقناع جمَاعَة مِنْهُ كشعب أَو أمة قَول عاقلهم إِنَّهُم مخطئون وَإِن الصَّوَاب فِيمَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ وَإِن أَقَامَ على ذَلِك من الْأَدِلَّة مَا هُوَ أوضح من الضياء وَأجلى من ضَرُورَة الْمحبَّة للبقاء كلا لم يعرف ذَلِك فى تَارِيخ الْإِنْسَان وَلَا هُوَ مِمَّا ينطبق على سنته فقد تقدم لنا أَن مهب الشَّقَاء هُوَ تفَاوت النَّاس فى الْإِدْرَاك وهم مَعَ ذَلِك يدعونَ الْمُسَاوَاة فى الْعُقُول والتقارب فى الْأُصُول وَلَا يعرف جمهورهم من حَال الْفَاضِل إِلَّا كَمَا يعرف من أَمر الْجَاهِل وَمن لم يكن فى مرتبتك من الْعقل لم يذقْ مذاقك من الْفضل فمجرد الْبَيَان العقلى لَا يدْفع نزاعا وَلَا يرد طمأنينة وَقد يكون الْقَائِم على مَا وضع من شَرِيعَة الْعقل مِمَّن يزْعم أَنه أرفع من واضعها فَيذْهب بِالنَّاسِ مَذْهَب شهواته فتذهب حرمتهَا ويتهدم بناؤها ويفقد مَا قصد بوضعها
1 / 54