216

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Noocyada

33

عندما أتأمل شدة هذا الغضب الذي تملك روحه السماوية (أي روح الله) بحيث جعله يضع القوانين إرضاء لرغبته في الانتقام وعقابا للعبرانيين، لا من أجل خلاص الشعب كله وسلامته وشرفه، كما جرت العادة في وضع القوانين. وهكذا أصبحت هذه القوانين تبدو أقرب إلى التعذيب والعقاب منها إلى القوانين الفعلية، التي هي وسيلة لخلاص الشعب. والحقيقة أن كل الهبات التي كان العبرانيون مضطرين إلى إعطائها اللاويين والكهنة - وهي وجود فداء الأطفال حديثي الولادة، ودفع مبلغ من المال عن كل فرد في الأسرة للاويين، وأخيرا تميز اللاويين على غيرهم بأن من حقهم وحدهم دخول الأماكن المقدسة - كل هذه دلائل متكررة على تدنيس الشعب ونبذ الله له. وفضلا عن ذلك، كان اللاويون ينتهزون كل فرصة ليشعروا العبرانيين بعارهم. ولا شك أنه كان هناك، من بين خدام المعبد من اللاويين الذين يعدون بالآلاف، بعض الكهنة المنافقين، مما جعل الشعب يراقب بدقة أفعال اللاويين، وهم بشر على أية حال، ويلقي عليهم جميعا أي ذنب يرتكبه واحد منهم. وهذا سبب استمرار القلاقل المتوالية بين الشعب، والسأم الذي شعر به وخاصة في سنوات القحط، من إعانة هؤلاء العاطلين المكروهين الذين لا تربطهم بهم أية قرابة، فلا عجب إذن إن كان الشعب، في فترات الهدوء التي لا تظهر فيها معجزات صارخة أو رجال ذوو سلطة فائقة، يستسلم لغضبه وأطماعه الشديدة، فيفقد أولا حميته الدينية، ثم يتخلى عن ممارسة عبادة دينية هي حقا إلهية، ولكنه يراها مصدرا لإذلاله، بل موضوعا لارتيابه، وسرعان ما تتجه رغبته إلى البحث عن عبادة أخرى، ولا عجب إن كان النقباء، في بحثهم الدائم عن وسيلة للتقرب إلى الشعب وإبعاده عن الحبر، لكي يحصلوا وحدهم على حقوق الحكام، يرضخون لرغبات الشعب، ويقدمون له عبادات جديدة. ولو كانت دولة العبرانيين قد قامت كما أراد مؤسسها الأول لكان لجميع الأسباط الحق نفسه، والشرف نفسه، ولعم الأمان في كل مكان، فمن الذي يرغب في التعدي على الحق المقدس لأقربائه؟ وأي شيء يرغب فيه المرء أكثر من إطعام الآباء والإخوة والأقرباء بدافع من الحمية الدينية. ومن تعلم تفسير القوانين منهم، وتلقي الردود الإلهية منهم؟ بهذه الطريقة؛ أعني لو كان لكل سبط الحق نفسه في تنظيم شئون الدين، كان من الممكن ربط الأسباط فيما بينهم برباط قوي. ولو كان قد تم اختيار اللاويين بدافع غير الغضب والانتقام لما كان هناك ما يخشى منه، ولكن العبرانيين - كما قلنا من قبل - أغضبوا ربهم، وتركهم الله - حسب تعبير حزقيال - يدنسون أنفسهم بقرابينهم التي يفدون بها كل فتح في الرحم حتى يستطيع إهلاكهم. وتؤيد الروايات التاريخية كل ما أقوله، فبمجرد أن بدأ الشعب في التمتع بالراحة في الصحراء رفض عدد كبير من الناس - لم يكونوا مع العامة - امتياز اللاويين، وانتهزوا هذه الفرصة لكن يروا فيها دليلا على أن موسى لم يضع هذه التنظيمات المختلفة بأمر من الله بل بمحض خياله، ألم يفضل سبطه ويعطي أخاه الحبروية إلى الأبد؟ وهكذا قامت جماعة منهم بثورة صاخبة ضد موسى، مطالبين بمساواتهم جميعا في القدسية الدينية، ومعترضين بأن تفضيله سبطا على الآخرين فيه خرق للشريعة، وعندما أخفق موسى في تهدئة معارضيه بالحجة العقلية التجأ إلى معجزة كان المفروض منها أي تؤدي إلى إعادة الإيمان، ولكنها أدت إلى هلاك الجميع ، ونشأت عن ذلك فتنة جديدة بين الشعب كله، عندما آمن الشعب بأنه هلك بحيلة بارعة من موسى لا بأمر الله، وبعد مذبحة كبيرة وظهور الطاعون، أدى الإعياء الذي تملكهم إلى استتباب الهدوء بينهم، ولكن جميع العبرانيين أصبحوا يفضلون الموت على الحياة، وهكذا خمدت الفتنة دون أن يعم الوفاق ويشهد الكتاب على ذلك (التثنية، 31: 21)، فبعد أن تنبأ الله لموسى بتخلي الشعب بعد موته عن عبادة الله أضاف قائلا: «لأني عالم بخواطرهم التي يجرونها اليوم من قبل أن أدخلهم الأرض كما أقسمت.» وبعد ذلك بقليل قال موسى للشعب: «لأني أعلم تمردكم وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي؟» وكلنا نعلم أن ما تنبأ به موسى هو الذي حدث، فقد أدت التغيرات الكبيرة والإباحية المطلقة والترف والإهمال إلى انهيار عام في الدولة، حتى وقع العبرانيون مرات عديدة تحت نير الأجنبي، فنقضوا عهدهم مع الله بعد أن سقط حقه، وأرادوا لأنفسهم ملوكا من البشر بحيث لا يعود المعبد مركز السلطة، بل البلاط، وبحيث أصبح رجال الأسباط كلهم مواطنين، لا بسبب خضوعهم لقانون الله والحبروية، بل بسبب خضوعهم لملك واحد. وقد كان هذا التغيير سببا قويا لوقوع فتن جديدة أدت إلى الانهيار التام للدولة؛ ذلك لأن الملوك لا يقبلون مطلقا أن يحكموا حكما غير مأمون، ولا يسمحون بوجود دولة مستقلة داخل الدولة. صحيح أن الملوك الأوائل المختارين من بين الرعية كانوا راضين بما وصلوا إليه من مراتب الشرف، ولكن بمجرد اعتلاء الأبناء العرش خلفا للآباء بحق الوراثة، عملوا على إحداث تغييرات تدريجية حتى يتمكنوا آخر الأمر من الاستيلاء على حق السلطة في الدولة كاملا، ولكن سلب منهم قدر عظيم من هذا الحق، ما دامت سلطتهم لم تمتد إلى التشريع الذي كان الحبر هو الذي يحافظ عليه في المحراب، وهو الذي يفسره للشعب؛ وعلى هذا النحو اضطر الملوك كباقي الرعية إلى احترام القوانين، ولم يكن لهم حق نسخها أو وضع قوانين جديدة لها بالسلطة نفسها، والسبب الذي أدى إلى سلب هذا الحق منهم هو أن قانون اللاويين كان يمنع الملوك والرعية على السواء - لأنهم دنيويون - من رعاية شئون الدين. والسبب الأخير هو أن سلطتهم لم تكن مضمونة أمام إرادة أي رجل واحد يعترف به نبيا، ويستطيع بذلك القضاء عليها وعلى سيطرة الملك، وهو أمر كانت له أمثلة كثيرة، ألم يكن صموئيل يعطي بكل ثقة أوامر ملزمة لشاءول؟ ألم ينتزع منه النبي بكل سهولة حقه في الحكم وأعطاه داود مقابل خطأ واحد ارتكبه شاءول؟ لذلك كان عليهم الحذر من وجود دولة داخل الدولة، وكانوا يحكمون حكما محفوفا بالخطر. ولكي يقلل الملوك من خطورة هذين العاملين سمحوا بأن تخصص معابد أخرى لعبادة آلهة مختلفة، بحيث لا يسأل اللاويون في شيء، ثم حرضوا بعض الناس مرات عديدة على التنبؤ باسم الله بحيث يعارض هؤلاء المتنبئون الأنبياء الصادقين. ولكن بالرغم من كل هذه الجهود لم يحققوا غرضضهم، فقد استعد الأنبياء لكل شيء، وكانوا ينتظرون الوقت المناسب، وهو وقت انتقال السلطة إلى ملك جديد تكون سلطته ضعيفة، خاصة وأن ذكرى الملك السابقة ما زالت حية، فكان سهلا على الأنبياء عندئذ، اعتمادا على السلطة الإلهية، أن يدفعوا بشخص حانق على الملك ومعروف بشجاعته في الدفاع عن حق الله إلى الاستيلاء على السلطة أو على جزء منها. ولكن لم يستطع الأنبياء بهذه الطريقة الوصول إلى شيء؛ فإذا كانوا قد نجحوا في القضاء على طاغية، فإنهم أخفقوا في القضاء على الدوافع الحقيقية للطغيان، فيظهر طاغية جديد بعد دفع ثمن باهظ من دماء المواطنين، ويستمر الشقاق، وتتوالى الحروب الأهلية بلا انقطاع، وتبقى الدوافع نفسها المؤدية إلى خرق القانون الإلهي، ولا تختفي تماما إلا بعد انهيار الدولة نفسها.

نستطيع الآن أن نرى كيف أدخل الدين في مملكة العبرانيين، وكيف كان يمكن لهذا النظام أن يستمر إلى الأبد لو سمح له الغضب العادي للمشرع

34

بالبقاء كما أنشأه من قبل. ولكن لما كان ذلك مستحيلا، فقد قضى على هذا النظام. ويلاحظ، فضلا عن ذلك، أنني لم أتحدث هنا إلا عن الدولة العبرانية الأولى، أما الثانية فكانت مجرد ظل لها، إذ اضطر شعبها إلى احترام تشريع الفرس بعد خضوعه لهم، وبعد تحرره استولى الأحبار على حق نقباء الأسباط وكانت لهم السلطة المطلقة، وهكذا تولدت عند الكهنة رغبة قوية في الوصول إلى الحكم والحبروية على السواء. وهذا هو السبب في أننا فضلنا عدم التوقف كثيرا عند هذه الدولة. وسنتحدث في الفصول القادمة عما إذا كانت الدولة الأولى، بما فيها من سمات افترضنا أنها كان يمكن أن تجعلها باقية، يمكن أن تتخذ أنموذجا نحاكيه الآن، أو أن محاكاتها بقدر الإمكان دليل على التقوى.

وفي نهاية هذه المناقشة سأكتفي بإبداء ملحوظة على موضوع أثير من قبل، فالنتيجة التي ينتهي إليها هذا الفصل كله هي أن الحق الإلهي نتيجة لعهد لا يوجد بدونه أي حق إلا حق الطبيعة؛ لذلك لم يكن للعبرانيين - بأمر دينهم - أي واجب مقدس تجاه الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا العهد، بل كان واجبهم هذا يسري إلى مواطنيهم وحدهم.

35

الفصل الثامن عشر

استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين

وتاريخها

Bog aan la aqoon