195

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Noocyada

لأن الأشياء جميعا لا تكون ولا تفعل إلا به، فمهما كانت الآراء التي كونها كل منا حول هذا الموضوع، فإنها كلها تتساوى في قيمتها. ومن ناحية أخرى لا يهم الإيمان في شيء أن يكون الله في كل مكان بفضل ماهيته أو بفضل قدرته، وأن يكون تدبيره الشامل للأمور طبقا لحريته أو طبقا لضرورة طبيعته، وأن يضع القوانين كما يضعها الحاكم، أو أن يعلمها بوصفها حقائق أزلية، وأن يطيع الإنسان الله بإرادته الحرة أو بالضرورة الصادرة عن المشيئة الإلهية، وأخيرا أن يكون ثواب الأخيار وعقاب الأشرار، أمرا ينتمي إلى الطبيعة أم إلى خوارق الطبيعة. أقول: إنه مهما اختلفت الطرق التي يوضح بها كل فرد هذه المسائل وما شابهها فإنها لا تؤثر في الإيمان مطلقا، بشرط واحد هو ألا يكون هدفه من النتائج التي يصل إليها هو أن يسمح لنفسه بمزيد من الحرية في ارتكاب الإثم، أو أن يصبح أقل طاعة لله. بل إنني لأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول: إن كل فرد - كما بينت من قبل - ملزم بأن يهيئ عقائده في الإيمان على قدر فهمه الخاص، وأن يفسرها بحيث يسهل عليه اعتناقها دون أي تردد

13

وبقلب صادق، كيما تأتي طاعة الله بدورها عن رغبة صادقة؛ ذلك لأنه، مثلما أن الإيمان قد أوحي به قديما، وكتب على قدر فهم الأنبياء والعامة في عصرهم، وطبقا لمعتقداتهم، فكذلك يتعين على كل فرد أن يهيئ الإيمان وفقا لآرائه، حتى يمكنه اعتناقه دون أدنى مقاومة من فكره، ودون أي تردد، فالإيمان - كما نود أن نردد مرة أخرى - لا يتطلب من الحقيقة بقدر ما يتطلب من التقوى، وهو لا يكون باعثا على التقوى، ولا يؤدي إلى الخلاص إلا بقدر حثه على الطاعة. وعلى ذلك، فأفضل المؤمنين ليس بالضرورة من يعرض أفضل الحجج، بل هو الذي يقدم أفضل أعمال العدل والإحسان. وإني لأترك لكل منكم حرية الحكم في مدى نفع هذه العقيدة وضرورتها للدولة إذا أردنا أن يعيش الناس في سلام ووئام، وفي مقدار ما تتيح من تجنب أسباب القلاقل والجرائم، وما أكثرها وما أخطرها.

وقبل أن أستمر في البحث نلحظ أنه من السهل علينا - اعتمادا على ما أثبتناه الآن - تفنيد الاعتراضات التي أثيرت (في الفصل الأول) بشأن الحديث الذي وجهه الله للإسرائيليين من فوق جبل سيناء. فلا شك في أن الصوت الذي سمعوه لم يكن يستطيع أن يعطيهم أي يقين فلسفي، أي رياضي، بوجود الله، ولكنه كان مع ذلك كافيا لأن يثير فيهم إجلال الله كما كانوا يعرفونه من قبل، وأن يحثهم على طاعته، وقد كان ذلك هو الغرض من هذا التجلي، فالله لم يكن يرمي إلى تعليم الإسرائيليين صفات ماهيته المطلقة (التي لم يكشف منها عن شيء في تلك اللحظة) بل أراد أن يكسر من حدة عصيانهم وأن يجبرهم على طاعته؛ لذلك تجلى لهم بضربات البوق والرعد والبرق لا بحجج عقلية (انظر: الخروج، 20: 20).

14

وأخيرا، بقي أن نبين الآن أنه لا توجد أية صلة أو قرابة بين الإيمان واللاهوت من ناحية وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وهذا أمر لا يمكن أن يجهله من يعلم غاية كل من هذين المبحثين وأساسه؛ إذ إنهما متعارضان أشد التعارض، فغاية الفلسفة هي الحق وحده، وغاية الإيمان كما بينا من قبل، هي الطاعة والتقوى وحدهما. ومن ناحية أخرى، فإن الأسس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المشتركة، وهذه يجب أن تستخلص من الطبيعة وحدها. أما الإيمان فأسسه هي التاريخ وفقه اللغة، وهي أسس ينبغي أن تستمد من الكتاب والوحي وحدهما، كما بينا في الفصل السابع. فالإيمان إذن يكفل لكل فرد الحرية المطلقة في أن يتفلسف، حتى ليستطيع أن يفكر كما يشاء في أي موضوع دون أن يكون بذلك قد ارتكب جرما، وهو لا يدين إلا من يدعون الناس إلى العصيان والكراهية والمنازعات والغضب، بوصفهم الخارجين على الدين ودعاة الفتن. أما المؤمنون بحق فهم عنده أولئك الذين يدعون الناس من حولهم إلى العدل والإحسان بقدر ما تسمح لهم عقولهم وقدراتهم. وأخيرا، فبما أني قد وصلت هنا إلى الموضوع الأساسي لهذه الرسالة،

15

فإني أود أن أدعو القارئ على الفور، قبل أن أستمر في بحثي إلى أن يقرأ هذين الفصلين بعناية خاصة، وأن يعطيهما ما يستحقانه من دراسة وافية. وأرجو ألا يعتقد بأني قد كتبت ما كتبت رغبة مني في تقديم بدع جديدة، بل لكي أرد على بعض الأحكام الخاطئة التي أرجو أن تصحح في يوم من الأيام.

الفصل الخامس عشر

اللاهوت ليس خادما للعقل

Bog aan la aqoon