وانفعالات للنفس كالغيرة والرحمة ... إلخ. وكذلك تصفه كقاض يستوي في السموات على عرش ملكي والمسيح على يمينه. والواقع أن الكتاب يتحدث على مستوى فهم العامة الذين يهدف الكتاب إلى أن يجعلهم مطيعين، لا متفقهين، على أن عامة اللاهوتيين عندما أدركوا بالنور الطبيعي أن صفة معينة من هذه الصفات التي تعطى لله لا تتفق مع الطبيعة الإلهية طالبوا بالالتجاء إلى التفسير المجازي، وبأن من الواجب، على العكس من ذلك، أن يقبل حرفيا كل ما يتجاوز حدود فهمهم. ولكن لو كان من الواجب تفسير جميع نصوص الكتاب من هذا النوع تفسيرا مجازيا، لوجب أن نسلم بأن النص لم يكتب للعامة والجهلة، بل كان موجها إلى أكثر الناس خبرة ومعرفة، وإلى الفلاسفة بوجه خاص. والواقع أنه لو كان التسليم بروح تقية صافية بالمعتقدات التي ذكرناها، بدافع من التقوى وصفاء النفس، كفرا، لحرص الأنبياء أشد الحرص على تجنب مثل هذه العبارات، وذلك على الأقل لضعف ذهن العامة، وليعبروا عن الصفات الإلهية، على النحو الذي ينبغي على كل فرد إدراكها عليه بوضوح وصراحة، ولكن الأنبياء لم يفعلوا ذلك. وإذن فلا ينبغي الاعتقاد بأن الآراء في ذاتها - بغض النظر عن الأعمال - تنطوي على أي قدر من الإيمان أو الكفر، فنحن نقول عن الاعتقاد الإنساني أنه ينطوي على إيمان أو كفر بقدر ما يحث المؤمنين به على الطاعة، أو يبيح لهم الخطيئة والعصيان؛ وعلى ذلك فإن من يصح اعتقاده ويعصي، يكذب إيمانه، وعلى العكس فإن من يخطئ في اعتقاده ويطيع، يصدق إيمانه؛ ذلك لأن معرفة الله الحقيقية، كما بينا، ليست أمرا بل هبة إلهية، والله لم يطلب من الناس إلا معرفة عدله وإحسانه، وهي معرفة لا تطلب من أجل العلم، بل من أجل الطاعة وحدها.
الفصل الرابع عشر
ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ تحديد أركان الإيمان، وأخيرا الفصل بين الإيمان والفلسفة.
1 ***
لا بد لنا، لكي نكتسب معرفة حقيقية بالإيمان، من أن نكون على علم بأن الكتاب مهيأ بحيث يتلاءم مع فهم الأنبياء، بل ومع فهم عامة اليهود في تباينهم وتقلبهم، وتلك حقيقة لا يمكن أن يجهلها أحد حتى بعد فحص سريع للموضوع؛ ذلك لأننا قبلنا مضمون الكتاب كله بلا تمييز على أنه عقيدة شاملة مطلقة عن الله، ولو لم نحرص على أن نميز فيه ما وضع على قدر أفهام العامة، لتعرضنا لا محالة للخلط بين أفكار العامة والعقيدة الإلهية، والنظر إلى بدع الإنسان وما يزينه له هواه من أحكام، على أنها تعاليم إلهية، ولأسأنا استعمال سلطة الكتاب، فهل يصعب علينا أن ندرك أن هذا الخلط هو المسئول عما يدعو إليه مؤسسو الفرق من آراء عديدة، مختلفة فيما بينها كل الاختلاف، يتخذونها أركانا للإيمان، ويؤيدونها بنصوص كثيرة من الكتاب، حتى شاع بين الهولنديين منذ القدم مثل يقول: «ما من مجدف إلا ويستند إلى نص.»
2
والواقع أن الكتب المقدسة ليس لها مؤلف واحد، ولم تكتب للعامة الذين عاشوا في عصر بعينه، بل هي من عمل عدد كبير من الناس ذوي أمزجة مختلفة عاشوا في عصور مختلفة. وإذا أردنا أن نحصي العصور التي تفصل بينها وجدناها ألفي عام وربما أكثر، أما مؤسسو الفرق هؤلاء فلا نريد اتهامهم بالكفر لمجرد كونهم قد أولوا كلام الكتاب حسب معتقداتهم؛ ذلك لأنه، مثلما أن الكتاب قد وضع من قبل على قدر أفهام العامة، فإن لكل شخص الآن الحق في أن يكيفه حسب معتقداته الخاصة، إذا كان يرى في ذلك وسيلة لطاعة الله، في الأمور المتعلقة بالعدل والإحسان، بنفس راضية تمام الرضا، ولكننا نتهمهم بذلك لأنهم لا يعترفون للآخرين بالحرية نفسها، ويحتقرون من يخالفونهم في الرأي، فيعدونهم أعداء الله، حتى لو كانوا يعيشون على أشرف نحو يمكن تصوره، ويمارسون الفضيلة الحقة، كما أنهم على العكس من ذلك، يحبون من ينقادون لهم كالأنعام، وكأنهم أصفياء الله، حتى ولو كانوا بعيدين كل البعد عن الخلق القويم، وهذا هو أشد المواقف جرما وأكثرها ضررا على الدولة. وإذن، فلكي نبين حدود حرية كل فرد في أن يفكر كما يشاء في أمور الإيمان، ونحدد من هم الناس الذين يتعين علينا أن نعدهم مؤمنين بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم، علينا أن نحدد الخصائص الأساسية للإيمان. وهذا هو موضوع هذا الفصل، بالإضافة إلى البحث في التمييز بين الإيمان والفلسفة وهو الغرض الرئيس من الكتاب كله. واتباعا للترتيب السليم في البحث، نعود بأذهاننا إلى الغاية الرئيسة التي يرمي إليها الكتاب المقدس، وبذلك نحصل على قاعدة صحيحة لتعريف الإيمان. لقد قلنا في الفصل السابق: إن غرض الكتاب الوحيد هو تعليم الطاعة، وهو أمر لا يمكن أن يعارضني فيه أحد، فمن ذا الذي لا يرى حقيقة أن العهدين، القديم والجديد، لا يعطيان إلا درسا في الطاعة، وأن الغاية التي يرميان إليها هي جعل الناس يطيعون عن رضى؟ ولكي لا أكرر حجج الفصل السابق أقول: إن موسى لم يحاول حقيقة إقناع الإسرائيليين بالفعل، بل جمع بينهم بعهد وبحلف وبأعمال طيبة قدمها إليهم، ثم حث الشعب على طاعة القوانين، منذرا العاصين بالعقاب، ومبشرا المطيعين بحسن الثواب، وكلها وسائل لا جدوى منها حين يكون الأمر متعلقا بتحصيل المعارف، ولكنها فعالة في تحقيق الطاعة وحدها. ولا يدعو الإنجيل إلا إلى الإيمان اليسير: وهو الإيمان بالله وبتبجيله أي طاعته. ولا حاجة بنا، من أجل توضيح هذه النقطة توضيحا تاما، إلى تجميع نصوص الكتاب التي تحث على الطاعة والتي توجد بأعداد ضخمة في العهدين. ومن ناحية أخرى، يخبرنا الكتاب أيضا بوضوح تام بما يجب على الإنسان القيام به لطاعة الله. فهو يعلمنا أن الشريعة كلها تتلخص في هذه الوصية وحدها: أحب جارك.
3
إذن فلا يستطيع أحد إنكار أن من يحب جاره كحبه لنفسه لأن الله أوصى بذلك، يكون بحق مطيعا وسعيدا
Bog aan la aqoon