Risala Fi Lahut Wa Siyasa

Hasan Hanafi d. 1443 AH
131

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Noocyada

في مجموعة واحدة؟ أقول: إن الفحص التاريخي يجب أن يتضمن كل هذا؛ إذ إنه لكي نعلم أي القضايا قد نودي بها في صيغة قوانين وأيها أصبحت تعاليم خلقية ، فمن الواجب أن نعرف سير المؤلفين وأخلاقهم والهدف الذي كانوا يرمون إليه. هذا بالإضافة إلى أننا نستطيع أن نفسر بسهولة أكثر أقوال إنسان ما إذا زادت معرفتنا بعبقريته الخاصة وطبيعة تكوينه الذهني، وحتى لا نخلط بين التعاليم الأزلية وتعاليم أخرى لا تصلح إلا لزمان معين ولمجموعة معينة من الناس، فيجب أن نعرف في أية مناسبات وفي أي زمان ولأي أمة وفي أي عصر كتبت هذه التعاليم كلها. وأخيرا يجب أيضا أن نعرف الملابسات الأخرى المذكورة آنفا لكي نعلم إلى أي مدى يمكننا الاعتماد على سلطة كل كتاب، ولكي نعلم أيضا إن كانت هناك يد آثمة قامت بتحريف النص، أو - في حالة كونه غير محرف - إن كانت قد تسربت إليه بعض الأخطاء، أو أن رجالا أكفاء جديرين بالثقة قد قاموا بتصحيح هذه الأخطاء. يجب أن نعلم كل هذا حتى لا نسير كالعميان فيسهل وقوعنا في الخطأ، وحتى لا نسلم إلا بما كان يقينيا لا يتطرق إليه الشك.

وبعد أن ننتهي من هذا الفحص للكتاب، ونأخذ قرارا حاسما بألا نسلم بشيء لا يخضع لهذا الفحص أو لا يستخلص منه بوضوح تام، على أنه عقيدة مؤكدة للأنبياء، عندئذ يحين وقت العكوف على دراسة فكر الأنبياء والروح القدس، ولكن لكي نقوم بهذه المهمة متبعين في ذلك المنهج والنظام اللازمين، يجب أن نسير على النحو الذي نسير عليه عندما نرتقي من ملاحظة الطبيعة إلى تفسيرها. فكما نهتم في دراسة الأشياء الطبيعية أولا بكشف أكثر الأشياء شمولا، وهي الأشياء التي تشارك فيها الطبيعة كلها كالحركة والسكون، وكذلك كشف قوانينها وقواعدها التي تتبعها الطبيعة دائما، والتي تفعل من خلالها بلا انقطاع، ثم نرتفع تدريجيا إلى الأشياء الأخرى الأقل شمولا؛ فكذلك يجب أن نبدأ أولا، في تاريخ الكتاب المقدس، بالبحث عن أكثر الأشياء شمولا وعن الأساس أو الأصل الذي يرتكز عليه الكتاب المقدس، وعما أوصى به جميع الأنبياء على أنه عقيدة أزلية، لها أعظم المنفعة للناس جميعا، كوجوب أن الله واحد قادر قدرة مطلقة وتجب عبادته وحده، يرى الجميع، ويحب على الأخص من يعبدونه، ويحبون جارهم كما يحبون أنفسهم ... إلخ. هذه التعاليم وما شابهها موجودة في كل موضع في الكتاب بقدر من الوضوح والصراحة لم يستطع معه أي شخص أن يشك في معناها أما فيما يتعلق بطبيعة الله وكيفية رؤيته ورعايته لجميع الأشياء فإن الكتاب لا يقول شيئا عن ذلك صراحة، ولا يعطي عقيدة أزلية تتعلق بهذا الأمر وما شابهه من الأمور، بل على العكس لا يتفق الأنبياء أنفسهم على هذه المسائل، كما بينا من قبل، فلا مجال إذن لوضع هذا الأمر بوصفه عقيدة صادرة عن الروح القدس، مع أنه يمكن بحثه على أحسن وجه بالنور الفطري. فإذا عرفنا هذه العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب معرفة صحيحة، انتقلنا إلى تعاليم أقل شمولا، تتعلق بالأمور العادية في الحياة، وتصدر عن هذه العقيدة العامة كما تنساب الجداول من منابعها، وأعني بهذه الأمور، كل الأفعال الخاصة الخارجية، الفاضلة بحق، والتي لا يمكن تحقيقها إلا إذا أتيحت الفرصة لذلك، فكل ما نجده في الكتاب من غموض أو اشتباه بشأن هذه الأفعال، يجب إيضاحه وتحديده من خلال العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب. فإذا ظهرت متناقضات، فيجب أن نعرف في أية مناسبة وفي أي وقت ولأي شخص كتبت هذه النصوص المتعارضة.

5

فعندما يقول المسيح مثلا: «طوبى للحزان (الذين يبكون) فإنهم يعزون.» لا نعلم من هذا النص وحده أي حزن (بكاء) يقصد، ولكنه يخبرنا بعد ذلك أننا لا ينبغي أن نهتم إلا بملكوت الله وحده وبعدالته التي يقدمها لنا النص بوصفها خيرا أقصى (انظر: متى، 6: 33).

6

وإذن فالنص يعني بالذين يبكون، من يبكون على ملكوت الله والعدالة التي جهلها الناس؛ لأن هذا وحده هو ما يبكيه، من يحبون ملكوت الله، أي من يحبون العدل ويحتقرون كل ما سوى ذلك من حظوظ الدنيا، وكذلك عندما يقول: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ... إلخ.» فلو كان المسيح قد أمر بذلك كما يأمر المشرع الذي يريد تعريف القضاة بإرادته، لكان بهذه الوصية قد قضى على شريعة موسى، ولكن هذا تفسير يحذرنا منه المسيح ذاته صراحة (انظر: متى، 5: 17).

7

فيجب إذن أن نبحث عمن قال هذا ولمن قاله وفي أي وقت قاله؟ إن قائل هذه العبارة هو المسيح، الذي لم يضع قوانين كما يفعل المشرع، بل أعطى تعاليم كما يفعل المعلم لأنه لم يكن يريد أن يصلح الأفعال الخارجية، بل استعدادات النفس الداخلية (كما بينا من قبل). لقد قال هذه العبارة لأناس مضطهدين، كانوا يعيشون في دولة فاسدة لا تعرف العدالة مطلقا، وتبدو مهددة بالانهيار الوشيك، وهذا الذي يخبرنا به المسيح في هذا النص، عندما كانت المدينة مهددة بالانهيار، قد أخبرنا به إرميا أيضا عند أول تخريب للمدينة، أي في وقت مشابه (انظر: المراثي، 3، الحرفان: الطاء والياء)،

8

وإذن فما دام الأنبياء لم يعطونا هذه التعاليم إلا في وقت الاضطهاد، ولم يضعوها أبدا في صيغة قانون، بل إن موسى (الذي لم يكتب في زمان اضطهاد، بل حاول إقامة مجتمع سياسي سليم، وهذه ملاحظة هامة) قد أمر بأن تكون العين بالعين، على الرغم من أنه أدان الانتقام من الجار وكراهيته، فإنه يتبين من ذلك بوضوح تام، طبقا لمبادئ الكتاب ذاتها، أن هذه التعاليم التي أعطاها المسيح وإرميا، أعني قبول الظلم وعدم مقاومة الفسق لا تسري إلا حين يجهل الناس العدالة، وفي وقت الاضطهاد، لا في مجتمع سليم،

Bog aan la aqoon