1
ولكي نبرهن على أن هذه الطريقة ليست يقينية فحسب، بل هي الطريقة الوحيدة الممكنة، وهي تتفق مع منهج تفسير الطبيعة، يجب أن نذكر أن الكتاب يتناول في كثير من الأحيان موضوعات لا يمكن استنباطها من المبادئ التي نعرفها بالنور الطبيعي، وهي قصص وموضوعات للوحي تؤلف الجزء الأكبر من الكتاب، فالقصص تحتوي أساسا على معجزات (أي كما بينا في الفصل السابق) روايات تقص وقائع غير مألوفة في الطبيعة، وتلائم أفهام الرواة الذين قاموا بتدوينها وأحكامهم. أما موضوعات الوحي فقد تكيفت حسب آراء الأنبياء، بحيث تتجاوز حقيقة حدود الفهم الإنساني كما بينا في الفصل الثاني؛ لذلك، يجب أن نستمد معرفتنا بهذه الأشياء جميعها، أي بمحتوى الكتاب كله تقريبا، من الكتاب نفسه، مثلما نستمد معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. أما فيما يتعلق بالتعاليم الخلقية
2
الموجودة في الكتب المقدسة، فعلى الرغم من أنه من الممكن البرهنة عليها بالأفكار الشائعة، فإننا لا نستطيع أن نبرهن بهذه الأفكار على أن الكتاب يعطي التعاليم؛ لأن ذلك أمر لا يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه. وحتى لو أردنا أن تظهر لنا قدسية الكتاب دون الاعتماد على أي حكم سابق، فيجب أن نبرهن بالكتاب نفسه على أنه يعلم الحقيقة الخلقية، إذ إن هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها البرهنة على قدسيته؛ ذلك لأننا قد بينا أن التصديق بالأنبياء يقوم أساسا على كونهم ميالين إلى العدل والخير، فيجب إذن أن يثبت لنا ذلك حتى يمكننا تصديقهم. ولقد برهنا من قبل على أن المعجزات لا تستطيع أن تبرهن على قدسية الله، ولن أذكر هنا أن باستطاعة النبي الكذاب أيضا إجراء المعجزات، فيجب إذن أن نستنتج قدسية الكتاب من دعوته إلى الفضيلة الحقة فحسب، وهذا ما لا يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه، فإن لم يتم ذلك كان تصديقنا وشهادتنا بقدسيته مرتكزا على حكم مسبق بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذن فجب أن تكون معرفتنا بالكتاب مستمدة كلها من الكتاب وحده. وأخيرا، فإن الكتاب، شأنه شأن الطبيعة، لا يعطينا تعريفات للأشياء التي يتحدث عنها؛ وعلى ذلك فكما يجب أن نستنتج تعريفات الأشياء الطبيعية من أفعال الطبيعة المختلفة، كذلك يجب استخلاص التعريفات التي لا يعطيها الكتاب من مختلف الروايات التي نجدها فيه بشأن كل موضوع، وإذن فالقاعدة العامة التي نضعها لتفسير الكتاب هي ألا ننسب إليه أية تعاليم سوى تلك التي يثبت الفحص التاريخي بوضوح تام أنه قال بها. وسنتحدث الآن عن هذا الفحص التاريخي وعما ينبغي أن يكون عليه، وما ينبغي أن يعرفنا به أساسا. (1)
يجب أن يفهم طبيعة وخصائص اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس والتي اعتاد مؤلفوها التحدث بها، وبذلك يمكننا فحص كل المعاني التي يمكن أن يفيدها النص حسب الاستعمال الشائع. ولما كان جميع من قاموا بالتدوين، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، عبرانيين، فلا شك أن معرفة اللغة العبرية ضرورية قبل كل شيء، لا لكي نفهم أسفار العهد القديم المكتوبة بهذه اللغة فحسب، بل لكي نفهم أيضا أسفار العهد الجديد؛ فهذه الأسفار الأخيرة، مع أنها قد انتشرت بلغات أخرى، إلا أنها مملوءة، بالتعبيرات العبرية. (2)
يجب تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عددها محدود، حتى نستطيع العثور بسهولة على جميع الآيات المتعلقة بالموضوع نفسه، وبعد ذلك، نجمع كل الآيات المتشابهة والمجملة، أو التي تعارض بعضها البعض. وأعني بالآية المبينة أو المجملة سهولة أو صعوبة فهم المعنى من السياق لا سهولة أو صعوبة فهم المعنى بالعقل؛ إذ إن ما يعنينا هنا هو معاني النصوص لا حقيقتها، بل إنه يجب أولا وقبل كل شيء في بحثنا عن معنى الكتاب الحرص على ألا ينشغل ذهننا باستدلالات قائمة على مبادئ المعرفة الفطرية (فضلا عن الأحكام المسبقة). ولكيلا نخلط بين معنى الكلام مع حقيقة الأشياء، يجب أن نحرص على العثور على المعنى معتمدين في ذلك فحسب على استعمال اللغة أو على استدلالات مبنية على الكتاب وحده. وسأوضح هذه الفروق بمثال كيما تزداد معرفتنا بها بسهولة. إن العبارات التي قالها موسى مثل «الله نار أو الله غيور»، من أوضح العبارات ما دمنا نقتصر على النظر إلى معاني الكلمات وحدها؛ لذلك أضعها بين الآيات الواضحة، مع أنها في غاية الغموض من حيث العقل والحقيقة. وعلى الرغم من كون المعنى الحرفي مناقضا للنور الفطري، فإنه إذا لم يكن يتعارض على نحو قاطع مع المبادئ والمعطيات الأساسية التي نستمدها من التاريخ النقدي للكتاب، فمن الواجب الاحتفاظ به (أي بالمعنى الحرفي). وعلى العكس من ذلك، إذا كانت هذه الكلمات تتناقض في تفسيرها الحرفي مع المبادئ التي نستمدها من الكتاب، برغم اتفاقها التام مع العقل، فيجب قبول تفسير آخر لها (أعني تفسيرا مجازيا)، فلكي نعرف إن كان موسى قد اعتقد حقا بأن الله نار أم لا، يجب أن نستنتج ذلك من الكلام الآخر الذي قاله موسى، لا من اتفاق هذا الرأي مع العقل أو مناقضته له. ومن هنا، فلما كان موسى قد ذكر بوضوح تام في نصوص أخرى متعددة أن الله لا يشابه الأشياء المرئية في السموات أو في الأرض أو في الماء، فيجب أن نستنتج من ذلك أنه يجب فهم هذا القول بعينه أو كل الأقول المشابهة فهما مجازيا. على أنه لما كان علينا ألا نبتعد عن المعنى الحرفي إلا في أضيق الحدود، فيجب أن نبحث أولا إن كان هذا القول الواحد : «الله نار.» يقبل معنى آخر غير المعنى الحرفي، أي إن كان لفظ نار يعني شيئا آخر غير النار الطبيعية، فإذا لم يكن الاستعمال اللغوي يسمح بإعطاء اللفظ معنى آخر، فلن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نفسر العبارة تفسيرا آخر، مع أن المعنى الحرفي مناقض للعقل. وبالعكس يجب أن نأخذ في اعتبارنا معنى هذه العبارة في تفسيرنا للعبارات الأخرى، حتى لو كانت هذه الأخيرة متفقة مع العقل، فإن لم يكن الاستعمال اللغوي بدوره يسمح بذلك كان من المستحيل التوفيق بين جميع العبارات، وبالتالي يجب التوقف عن الحكم عليها جميعا، ولكن لما كان اللفظ نار يفيد أيضا معنى الغضب أو الغيرة (انظر: أيوب، 31: 12)،
3
فمن السهل التوفيق بين عبارات موسى، وبذلك ننتهي إلى هذه النتيجة المشروعة، وهي أن هذه القضايا («الله نار، الله غيور») ليست في الحقيقة إلا قضية واحدة، فلنواصل البحث. يقول موسى صراحة: إن الله غيور، ولا يقول في أي موضع إن الله خال من الانفعالات أو من أهواء النفس، ومن ذلك نستنتج أن موسى اعتقد بوجود الغيرة في الله، أو على الأقل أراد أن ينادي بذلك مع أن هذا في رأينا يتنافى مع العقل، وقد بينا من قبل أنه لا يفرض علينا أن نوائم قسرا بين فكر الكتاب ومقتضيات عقلنا وأفكارنا المسبقة؛ إذ يجب علينا أن نستمد كل معرفة لأسفار الكتاب المقدس من هذه الأسفار وحدها. (3)
يجب أن يربط هذا الفحص التاريخي كتب الأنبياء بجميع الملابسات الخاصة التي حفظتها لنا الذاكرة، أعني سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه والغاية التي كان يرمي إليها ومن هو وفي أية مناسبة كتب كتابه وفي أي وقت ولمن وبأية لغة كتبه. كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف الخاصة بكل كتاب على حدة: كيف جمع أولا، وما الأيدي التي تناولته، وكم نسخة مختلفة معروفة عن النص، ومن الذين قرروا إدراجه في الكتاب المقدس، وأخيرا كيف جمعت جميع الكتب المقننة
4
Bog aan la aqoon