93

قال في تؤدة وهو يبتسم: ينبغي حقا، ولكنه لم يطرق في كتب مستقلة، ولا يزيد ما كتب عنه على بعض الإشارات المتفرقة في المجلات.

علمت من البائع أن الرجلين المتحادثين هما: جرجي زيدان صاحب «الهلال»، و«أبو بكر لطفي المنفلوطي» أخو «مصطفى لطفي المنفلوطي» الكاتب المعروف. و«أبو بكر » نفسه كاتب لم يشتهر شهرة أخيه، وهو الذي كان يكتب بعد ذلك بسنوات في جمعية «مصر الفتاة» مقالات يحكي بها مقالات أخيه في «المؤيد» بأسلوب كأسلوب «صهاريج اللؤلؤ» في التفخيم والإغراب.

ولا أزال أذكر صورة «جرجي زيدان» كما رأيته في ذلك اليوم؛ رجلا بسيط المظهر بعيدا عن كل تكلف في زيه وجلسته وحديثه: يتكلم في الأدب والبلاغة والأحاديث العامة بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد، كأنه يقول ما يقوله للتعليم دون أن يبدو عليه مظهر المدرس في حصة التدريس، ولا أذكر أنني رأيت من أبناء عصره كاتبا بمثل شهرته ومكانته وبمثل هذه البساطة في المظهر والحركة والحديث، وقد رأيته بعد سنوات في داره وفي ساعات فراغه فلم أجد بين مظهره وهو بعيد من الناس ومظهره وهو في المكتبة العامة أقل خلاف. •••

وقد طبعت أول ما طبعت من كتبي بمطبعة «الهلال»، وهما كتاب «خلاصة اليومية»، ثم «رسالة الإنسان الثاني عن المرأة»، وتاريخ طبعهما كما هو مكتوب عليهما (سنة 1912).

ولهذه المناسبة كنت أرى «جرجي زيدان» أحيانا في مكتبة «الهلال» وأحيانا أخرى في مطبعة الهلال، فإن لم يكن في المطبعة ووجب سؤاله عن شأن من شئون الطبع، فالدار التي يسكنها غير بعيدة من دار المطبعة، والاستئذان بالتليفون قبل الزيارة لم يكن من مألوفات ذلك الزمن، ولم يكن شيوع التليفون بين المكاتب والمنازل كشيوعه في هذه الأيام، وإنما كان طالب الزيارة يطرق الباب ويسأل عن صاحب الدار: أهو حاضر؟ وهل يمكن لقاؤه؟ وغالبا ما يجاب بغير حاجة إلى موعد آخر محدود.

وكان العمل مقسما بين الإخوة الثلاثة: «جرجي» للمجلة و«متري» للمطبعة، و«إبراهيم» للمكتبة، وليس بين المطبعة ومسكن صاحب الهلال غير خطوات قلائل، أما المكتبة فقد كانت بينها وبين المطبعة مسيرة دقائق معدودات.

وأحسب أن الأمر لم يدع إلى مقابلتي إياه بداره أكثر من مرة واحدة سألته فيها عن رأيه في فلسفة التفاؤل والتشاؤم، وعلمت فيما عدا هذه المقابلة - عرضا - مبلغ عناية الرجل بالاطلاع على موضوعات العلوم من شتى المباحث والمطالب ، وإن لم تكن لزاما من موضوعات النشر بمجلة «الهلال».

سألته: أيهما أصح وأصوب؛ نظرة المتفائل أو نظرة المتشائم؟

وربما كان السؤال: أي الفلسفتين أصدق؛ فلسفة التشاؤم أو فلسفة التفاؤل؟

لست أذكر نص السؤال بكلماته، ولكنني أذكر موضوعه العام لأنني كنت مشغولا في كل مطالعة وكل نظرة إلى مسائل الأدب والحياة، وفي كلا الكتابين اللذين طبعتهما بمطبعة «الهلال» إشارة إلى الإمامين المتشائمين: «أبي العلاء»، و«شوبنهور»، وهما متلازمان في ذهن كل قارئ عربي يسمع بالتشاؤم في الثقافة الأوروبية.

Bog aan la aqoon