108

ف «لطفي السيد» كان ينظر إلى المسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة واسعة، يوشك أن تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف، ولكنه كان من أشد المفكرين اهتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح، وكنا نلمس على محياه أمارات الغم الصامت كلما خولف اعتقاده وجرت الأمور على غير ذلك الاعتقاد في الحياة العملية.

إلا أن الأمر الذي كان يبيح لصديقه أن يحسبه من الأرباب في تفكيره، أنه على كل إيمانه بعقائده العقلية والخلقية لا يرى من المستحيل أن يكون لغيره الحق في إيمان كهذا الإيمان على خلاف ما يراه بعقله ووجدانه.

وكان كثيرا ما يقول لمن يحتم أمرا من الأمور: وهل في هذه الدنيا شيء ضروري؟ وهل في هذه الدنيا أحد ضروري؟ وهل يمتنع غدا أن تتساوى النتائج وتتلاقى الأضداد التي نحسبها الآن على افتراق بلا لقاء؟

رأي ل «سعد زغلول»

وهذه النظرة المحيطة هي سر «ديمقراطيته» في مسلكه بين الناس ومسلكه بين زملائه في العمل، وإن خالفوه أبعد المخالفة في الآراء، ولا أذكر مرة واحدة في نحو عشرين سنة قضيناها معه بمجمع اللغة العربية، أنه حاول بالتصريح أو التلميح أن يؤثر في اتجاه المناقشة أو يقاطع صاحب رأي يعارضه وينفر منه، وإنما كان على الدوام يصغي باهتمام إلى نهاية المناقشة ولا يشعر المخالفين له بعد ذلك أنه كان معهم على خلاف.

تلك السماحة الواسعة في تقدير وجوه الخلاف التي جعلته مرجعا للمشورة الصادقة بين أصدقائه وتلاميذه من المشتغلين بالحكم والقائمين بأعمال الوزارات، فقد كان يمحضهم الرأي من جميع جوانبه ويوازن لهم بين جميع احتمالاته، ويتركهم أحرارا فيما يختارون، وإن كان ليتركهم أحيانا أخرى على باب التيه يحارون بين مضطرب الأفكار ومفترق الظنون والتقديرات، ولا أدري ممن سمعت - أمن «سعد زغلول» أم من «محمد محمود» - أن «لطفي السيد» قوي الفكر، ولكنه قد يكون في بعض تقديراته واحتمالاته قوتان متعارضتان، فيقف به هذا التعارض دون العمل المستطاع، أو يقف به دون الحماسة لرأي من الرأيين؟ ولا بد من الحماسة «ذات النظر الواحد» لمن يريد أن يمعن إمعان الجد والعناد في طريق مقصود إلى غرض محدود، ولم يكن «لطفي السيد» قط ذا نظر واحد يحجب عن تفكيره سائر الأنظار.

فلم يكن من طبعه أن يصادم أحدا أو يصطنع في الخصومة قسوة ولددا، ولكنه كان يثبت في مكانه ويترك لمن يخالفه أن يصطدم به إذا شاء، ولا سماحة فيما وراء ذلك إذا سامته السماحة أن يتحول عن مكانه الذي استقر عليه. فهو عند رأيه لا ينحرف عنه وإن أعطاه من الصور الفكرية ما يدفع عنه شر الضغينة والافتراء.

مصر للمصريين

كان من مبدأ «لطفي السيد» - كما هو معلوم - أن استقلال مصر مقدم على الاعتراف بالسيادة العثمانية، وكان هذا معنى شعاره وشعار زملائه في الرأي والعقيدة: أن مصر للمصريين.

ووقعت الجفوة بينه وبين الخديو «عباس الثاني»؛ لأن الخديو وجده على غير ما كان يرتضيه حين اختاره عضوا في الجماعة السرية التي تنشر الدعوة إلى القضية الوطنية في الديار الأوروبية. واتفقا مع أعضاء هذه الجمعية على سفر «لطفي» من مصر وإقامته بسويسرا سنتين لاكتساب الجنسية السويسرية والانتفاع بهذه الحماية في مكافحة الاحتلال، فلم يستحسن «لطفي السيد» هذه الحيلة، ولم يلبث أن تنحى عن الجماعة حين أحس أن الخديو يريد أعضاءها خداما لشخصه وأعوانا لسلطانه على غير المبادئ الدستورية، وتمت القطيعة بينه وبين القصر بعد ولاية «لطفي» لتحرير «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، فتحمل القصر وحاشيته معاذيرهم لرفع الدعوى الجنائية عليه، واتخذوا من مناداته الصريحة بالاستقلال التام دليلا «قانونيا» على «خيانة» السيادة المعترف بها للخليفة العثماني والمتفق عليها في العلاقات الدولية، بمقتضى المعاهدات التي يقرها المحتلون ولا يستطيعون «قانونا» أن يسقطوا العقوبة عمن يخرج عليها.

Bog aan la aqoon