فالانقلاب الأدبي الذي يحدث أولا في النفس ثم يتدرج منها إلى البيت، فمعاهد العلم، فدوائر الاجتماع، يولد ثورة نحتاج فيها اليوم إلى سلاح يؤيدها ويعززها، وإلا عدنا إلى ما كنا فيه. إن انقلابا في الأخلاق والعقول، وفي طرائق التعليم والتربية، وفي دوائر الأدب والاجتماع ليحدث الثورة الصالحة التي لا يتبعها رد فعل خبيث، ولا تأتي إلا بالإصلاح الثابت الناضج المفيد.
ولكن هذا الإصلاح لا يتم بلا انقلاب في الأحكام، ولا يتم انقلاب بلا ثورة سياسية، ولا تنجح الثورة السياسية بلا ضحية، ولا تصح الضحية إن لم يكن صاحبها عالما بأهمية ما هو فاعل، ثابتا بما يؤمن، مدركا شيئا من المذهب السياسي الاجتماعي الذي ينبغي أن ينصره بلسانه ويده، وبماله ودمه. تيقنوا هذا: إن المفاداة بالنفس لا بد منها في تأسيس الأديان أو في نشر المذاهب الاجتماعية، أو في تأييد الحقائق العلمية، أو في تعزيز النهضات السياسية. إن في دم الشهيد مكروب الثورة، ولكنه لا ينتشر إلا إذا كانت الأجسام مستعدة له، ولا تكون كذلك إلا بعد أن تظهر فيها آثار الثورة الداخلية الهادئة، وهذه - كما قلت - تظهر في حينها ولا يمكنا أن نعجل حدوثها أو نؤجله. وقد تنمو الثورة السياسية في فساد الماضي والحاضر كما ينمو النبات في الأقذار، والاستشهاد في سبيلها يزيد بنموها لا بنمو ثمارها.
أما روح الثورة فهي واحدة في الأمم المتمدنة، لكن أساليبها تختلف باختلاف طبائع الأمم، وقد تتنوع أدواتها بحسب تقاليدهم وعاداتهم. ففي أميركا مثلا تعمل الثورة اليوم بالفأس والمعول، وفي فرنسا بالريشة والقلم، وفي إنكلترا بالقياس والميزان، وفي ألمانيا بالمجهر، وفي إيطاليا بالخنجر، وفي روسيا بالديناميت. أما في الشرق فالثورة لم تهتد بعد إلى أدوات العمل ولم تحسن استخدام واحدة مما ذكرت. جربنا الريشة والقلم فكنا فيهما مقلدين، جربنا القياس والميزان فكنا فيهما عابثين، لجأنا في الأستانة وفي مصر إلى الرصاص، وفي الهند إلى الديناميت، فكنا فيهما مجرمين، جربنا الثورة السلمية فكنا مخطئين، جربنا السيف والمدافع فكنا فيهما ضالين مضلين، والحق يقال: إن سلاح الثورة عندنا لم يصقل بعد ولم يطهر.
ولا يفوتنكم أن البادئ بالثورة السياسية يكون غالبا إما فريستها وإما تاجرها ، وقد يكون تاجرها وفريستها معا، يأكل من مالها ثم تأكله، وقد يذهب ضحية على مذبحها، فيكون «كالتربيل» الذي يرميه الصياد في البحر فيدفع السمك إلى سطحه فيصطاده إذ ذاك قوم أشبه بالصيادين منهم بالزعماء.
الزعماء! عممت في ما قلته فيهم فأخصص. إن الهيئة الاجتماعية كالجبل، الخيرات عند قدميه، والصحة في وسطه، والمحل في رأسه، في أسفل الهيئة الاجتماعية الجهل في العمل والذل، وفي وسطها شيء من التهذيب والدهاء، وفي رأسها السيادة والأثرة، يستثمر القاعدون عند أسفل الجبل الأرض فيبعثون بالغلة - ما خلا أجورهم - إلى من في رأسه، فيأخذ من في وسطه قسما منها لقاء دفاعهم عن حقوق الإنسان كما يزعمون.
وفي أيام الثورة السياسية يكثر في هذه الطبقة الزعماء الأدعياء طلاب السيادة والمال، فيهضمون حقوقا يزعمون أنهم يدافعون عنها، ويسلبون من تحتهم ومن فوقهم، ويتآمرون مع السادة أصحاب النفوذ الخبيث فيتبوءون مجالسهم، مجالس الظلم والاستبداد والإثم والفساد، ويسكتونهم بشيء مما يكسبون، وفي مضايق الخداع والنفاق يتقاسمون ما يغنمون. هؤلاء الزعماء - وقد أمسوا في قمة السيادة - يصدرون أوامر هي كالصخور التي يدحرجها الصبيان من أعالي الجبال، فتحطم الأشجار في طريقها، وتسحق الأزهار، وتدمر ما غرسه الإنسان وتهدم ما بناه.
يدمرون ويفسدون، ومن فسادهم يكسبون، فهم تجار لا زعماء، يتاجرون بالسياسة وبالحرب وبالدستور، يتاجرون بأدوات الجند ومعداته، برتبه وجهالته ودينه وكسائه، بخبز يومه. يتاجرون بآمال الأمة وأملاكها، يتاجرون بويلاتها وولاياتها، يتاجرون بدمها ودموعها، يتاجرون بأقدس الأشياء لديها. عفوا سادتي فقد أحسنت إليهم في ما قلت، فلو أحسنوا التجارة في الأقل لانتفعت الأمة بعض النفع بتجارتهم، ولكن دأبهم أن ينهبوا ويبيعوا ويخزنوا وكل في قلبه يقول: بعدي الطوفان.
أيستغرب الفشل في ثورتنا، والانخذال في حزبنا اليوم، وهؤلاء السفهاء الأغمار زعماء الأمة؟ ربي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ أوتتبع الظلمة أمة خرجت منها، تتلمس إلى باب النور طريقها؟ لا لعمري، فإنها وإن فسدت في أيادي الطغاة المفسدين لا تلبث أن تنتقل إلى من يصلحها من المصلحين الصالحين، فيعززونها فتعززهم، ثم يشعلون منها مصباحا نيرا صافيا في الأمم.
فإنها إذا وقفت هناك وجدت من يأخذ بيدها ويهديها سواء السبيل، هناك طائفة الأدباء الحقيقيين العاملين بجد وإخلاص في سبيل الرقي والعدل والحرية، وفي سبيل العلم والحكمة والجمال. فعليهم وحدهم يتوقف تحرير الإنسان.
واعلموا أن الإنسان لا يتحرر تحررا حقيقيا تاما إذا لم تشرب روحه الثوروية روح المعرفة والشعر والحكمة، وأن الأدباء الحقيقيين من شعراء وفلاسفة - أصحاب الفنون الجميلة وأرباب العلم والحكمة - لا ينتمون إلا إلى حزب واحد في العالم هو حزب الحق والحرية والحقيقة والجمال، ولا يكبرون ويجلون إلا فئة قليلة من الناس، رواد المدنية الجديدة، دعاة الثورة السلمية الاجتماعية، المهذبين المعززين المرشدين المعزين، أرباب الفنون الصادقين، النوابغ الهادين.
Bog aan la aqoon