257

Rayhaniyyat

الريحانيات

Noocyada

وما يصح في الأطفال من هذا القبيل يصح في الرجال، على أن الطبيعة أمنا لا ترحمنا ولا ترثي لحالنا، ولا تتساهل بتنفيذ شرائعها فينا. إن بثورا تظهر في جسم الإنسان لدليل ثورة في دمه، فقد حمل الدم ما لا يستطيع حمله فرفضه ثائرا فظهرت آثار الثورة في جلد صاحبه. وما يصح في المادة يصح في النفس، توبة الجاني ثورة في نفسه كللت بالفوز. الانتحار نتيجة ثورة في قلب المرء أفسد اليأس قصدها وغير الفشل نتيجتها. الراهب إذا تزوج فلثورة فيه على نذوره، والخليع إذا ترهب فلثورة فيه على شهواته. والنفس الأثيمة إذا ارتدعت واهتدت فلثورة فيها على الشر والضلال، وإذا تسامت فلثورة فيها على الخسة والسفالة والجهالة، وقس على ذلك في كل أطوار النفس وتقلباتها ارتقاء وانحطاطا.

قلت: إن روح الثورة حية عاملة في دوائر الحياة كلها، وفي كل فترة من الزمن تتجسم نتائجها فيبصرها الناس ويدركونها. خذ التجارة مثلا، إن طرائقها وأساليبها وأدواتها اليوم غيرها منذ مائة سنة، وفروعها الجديدة المتعددة لم تخطر للفينيقيين ولا من سبقهم من التجار في بال. تدخل بيت شركة من الشركات في أوروبا أو في أميركا اليوم فلا تجد فيه غير المكاتب والدفاتر والآلات الكاتبة والأوراق وبينها وإليها مئات من الشبان والبنات واقفين وجالسين يكتبون ويحسبون، فتظن نفسك في دائرة من دوائر الحكومة، فتسأل: ما هي تجارة هذه الشركة، فيقال لك أن لا تجارة لها.

وبعد أن تطلع على حقيقتها يدهشك أمرها وتستغرب ماهيتها، فتقول في نفسك: وكيف يمكنها أن تدفع رواتب عمالها الكثيرين وهي مؤسسة لفحص دفاتر التجار أو لتقدير أرباحهم، أو لنشر الإعلانات، أو لمطالعة الجرائد فتقص منها ما يهم عملاءها من الأخبار. وهنالك أبواب أخرى عديدة للارتزاق ما حلم بها الإنس في الماضي ولا الجن، وهذا التفريع والتخصيص في العمل إنما هو نتيجة ثورات سلمية في طرائق التجارة القديمة. وإننا لنشاهد أكبر مظاهرها في الولايات المتحدة، هنالك عند إشرافنا على نيويورك نرى أعلام الثورة قائمة أمامنا مجسمة في تلك الصروح الشامخة، وإن ثورة الأميركيين على الهندسة المعروفة في فن البناء القديم لمن أظهر ثورات السلم والتجارة.

ولا أخص الأمة الأميركية بكل ما نشاهده اليوم من أدلة الانقلاب ومظاهره الخطيرة، نحن في زمن عظمت فيه أعمال العقل كما عظم البناء عند الأقدمين، ففي مدنية الغرب أشكال معنوية وحسية من ضخامة الأهرام وغرابتها. هذه أبنية الأميركان وقد فاقت قلل الجبال علوا، وهذه اختراعات العلماء واكتشافاتهم ملأت أعلامها الأرض بحرا وبرا وجوا. فأين منها الأهرام وأبو الهول وأين منها هياكل المصريين ومعاهد الرومان؟ أيفاخرنا الماضي بقبور أبطاله وبما تجسم من مجد ملوكه وخرافات كهانه؟

هذه معاهد العلوم ومجد أربابها مجدها، وهذه صروح لملوك الثروة ومعاهد الخير والإحسان تشفع بهم وبها، بل هذه مساعي أبطال العلم والعمل، إن آثارهم تدل عليهم. وإننا لنراها اليوم في الشرق وفي الغرب، في أقاليم الأرض كلها وفي قطبيها، في صحاري الجنوب وفي ثلوج الشمال، في السهول قائمة وفي الجبال، في البحار ماخرة وفي الأنهار، فوق المياه تعج وتحتها، في الأثير تضج وفي الفضاء، تحت المعادن تهدر وفوق السحاب. وهي كلها من فضائل الثورة العظيمة ثورة السلم والعلم، ثورة الفكر والعمل.

أجل سادتي، إن مساعي الإنسان في هذا الزمان عقمت أو أثمرت لجسيمة كلها عظيمة، بل هي كلها ثوروية، ومثلما تكثر فيها أسباب الرقي والمجد والسعادة تتعدد فيها أسباب البؤس أيضا والفقر والشقاء. جئني من الماضي بحسنة أريك من مثلها في الحاضر حسنات، جئني بسيئة أعدد من شكلها سيئات. البؤس عندنا مثل النعيم كلاهما جسيم، والخير مثل الشر كلاهما عظيم. والقبيح في هذه الحياة المادية الجديدة مثل الجميل تتصل أسبابه بمساعي الإنسان العقلية المحضة، فيفسد الطمع نتائجها، وتشوه الأنانية جمال مقاصدها.

على أن ذلك لا يدعو إلى اليأس عند من يفكر في الأمور ويطلع على شيء من تاريخ الثورة الاجتماعية السلمية، ثورة العلم والعمل في الغرب، فإن هي إلا حديثة النشأة كثيرة المحن، وإن ما تضمره لنا الأيام من فوائدها لأضعاف ما نشاهده منها اليوم. ولو لم تكن روح الثورة - أي: سنة التطور - حية في هذه الحياة ثابتة دائمة لما قبل الحكيم مدنية الغرب وأكبرها. كيف لا ولم تزل للعبودية فيها آثار ظاهرة وأشراك مهلكة، وفيها في أحياء البؤساء ظلمات لا تولد غير المنكرات.

كيف لا وفقر اليوم عبودية لا تقاس بعبودية الماضي، والعبد الراضي بسوء حاله غير العبد المدرك لبؤسه المتمرد على أسياده، المطالب بما لغيره من وسائل العيش والرقي والسعادة. وهذه من حسنات مدنيتنا التي تنبه كل من عاش في ظلها ونورها وتستنهضه ليطالب - في الأقل - بما له من الحقوق المدنية والطبيعية، نعم إن روح الثورة فيها لا تقعد، وعينها لا تنام وعقلها لا يقف، ويدها لا تكل أبدا.

أما الثورة السياسية فلي كلمة وجيزة في طرق الفوز والفشل فيها، من استقرى التاريخ يعلم أن الثورة الحقيقية العظيمة نتائجها العميم خيرها؛ إنما تبدأ فكرا وشعورا، ولا يبقى من آثارها بعد أن تحدث فعلا إلا ما كان منطبقا على ما نضج في الأنفس والعقول، بل لا ينمو من بذورها إلا ما وافق التربة التي تزرع فيها. مثال ذلك الجمهوريات في مدن إيطاليا في الأعصر الغابرة كجمهوريتي فلورنسا والبندقية، وحكومة كرومويل في إنكلترا، وعروش نابوليون في أوروبا، فإنها لم تدم طويلا، عززها السيف حقبا من الزمن، ثم قلبتها الفوضى، وأبادتها التقاليد الوطنية. وقد يكون نصيب جمهورية الصين اليوم نصيب تلك الحكومات القصيرة الأجل.

فالثورة الحقيقية ذات النتائج الثابتة إنما هي بنت التعاليم السديدة والمبادئ السامية لا بنت المدافع والحراب، على أن السلاح يعززها عند نشأتها، إذا جرد السيف في سبيلها من كان عارفا ماهيتها، مدركا بعض أسرارها، محترما ناموسها، مستأصلا من التقاليد والخزعبلات ما يعترض سيرها ونجاحها.

Bog aan la aqoon