بسم الله الرحمن الرحيم،
ربِّ يَسِّر
قال العتابيّ: بعث إليَّ طاهر بنُ الحُسين في يوم دَجنٍ فدخلت عليه وبين يديه خادم يسقيه فقال: يا عتابي، أما ترى يومنا ما أرقه وساقينا ما أظرفه فإن قلت ما نحن فيه شعرًا يقع بموافقتي وهبتُ لك الخادم، فقلت:
أَيُها الساقي الذي أصبح يسقينا الرَّحيقا
سَقِّ نَدماني عُقارًا ... واسقني من فيكَ ريقا
فَمُنى نفسي هذا ... نِ صبوحًا وغبوقًا
طاهرٌ بَرٌّ جوادٌ ... فاتخذناه طريقا
وكذا كان [حسينٌ] فحكى الغُصنُ العُروقا فقال: أحسنتَ، خذ الغلام، فلما صرت إلى الدهليز تبعني وكيله فقال: تبيع الخادم، فقلت: نعم. قال: بكم، قلتُ: بألف دينار وظننت أني لم أبقِ غايةً، فقال: هي لك، ودفعها إليّ، فلحقني رسول طاهر فردني فقال: ما صنعت بالخادم، قلت: بعتُهُ، قال: بكم؟ قلت: بألف دينار، قال: والله لو أبيت إلا مائة ألفٍ لأعطيتُها.
قال ابن قتيبة: وخرج أبو عيسى ابن الرشيد متنزهًا إلى القفص ومعه أبو نواس، فأقام في نزهته شعبان كله، فلما كان أول يوم من رمضان، عزم أبو عيسى على الصوم، فقال له أبو نواس: هذا يوم شك وليس للشك حُجة على اليقين ومن يُفطره أكثر ممن يصومه، وأنشده:
لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها صفراء كالجص
نسرقُ هذا اليوم من شهرنا ... فالله قد يعفو عن اللص
وخرج أبو عيسى مرة إلى القفص ومعه أبو نواس فأقاما في نزهتهما أُسبوعًا، ثم قال له: بحياتي صف مجلسنا، وأيامنا هذه، فقال:
يا طيبَنا وقصورُ القفص مشرقةٌ ... فيها الدساكِرُ والأنهارُ تَطرِدُ
لما اصطحبنا بها صهباء صافيةً ... كأنها لَهَبٌ في الكأس يَتَّقِدُ
فقام كالبدر مشدودًا قراطُقُه ... ظبيٌ يَكادُ من التهييفِ يَنعقدُ
فاستَلَّها من فمِ الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجَسد
فلم نزل في صباح السبت نأخذُها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأَحدُ
وفي الثلاثاءِ أعملنا المطيَّ بها ... صهباءَ ما قرعتها بالمزاج يَدُ
والأربعاءِ كسرنا حدَّ شِرتِهِ ... والكأس يضحك في حافاتها الزبدُ
ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفًا وتم لنا بالجمعة العددُ
في مجلس حولَهُ الأشجارُ مُحدقةً ... وفي جوانبه الأطيار تغتردُ
لا نستخفُّ بساقينا لِعزته ... ولا يَرُدُّ عليه حكمه أحدُ
عند الهُام أبي عيسى الذي كملت أخلاقهُ فهي كالعِيقان تُنتقدُ وبالجزيرة دير يقال له دير حنظلة، قال أبو الفرج الأصبهاني: نُسبَ إلى رجلٍ من طيءٍ يقال له حنظلة ابن أبي عفراء أحد بني حية رهط أبي زبيد الطائي، وكان حنظلة من شعراء الجاهلية فتنصَّرَ وفارق بلاد قومه، وباع كل ما كان له وبنى هذا الدير وأقام به مترهبًا حتى مات، وهذا الدير في أحسن مكانٍ من الجزيرة وأكثره مياهًا وشجرًا ورياضًا وزهرًا، وهو موصوف بالحسن والطيب، وقد قالت فيه الشعرراءُ فأكثرت، وغُنِّي في أشعارهم؛ فممن نزله عبد الله بن الأمين محمد بن زبيدة.
حكى قدامة بن جعفر عن حمَّاد بن إسحق قال: حدثني أبو نجاح قال: كنت مع عبد الله بن الأمين وقد خرج إلى نواحي الجزيرة. وكانت له هناك ضياعٌ كثيرة حسنة فاجتزنا بدير حنظلة هذا، وكانت أيام الربيع، وكانت حوله من الرياض ما ينسي حُلل الوشي، وبُسط خضرة وزهر، فنزلنا فيه وبعث إلى خمار بالقرب من الفرات، فشربنا وكان عبد الله حسن الصوت، حاذقًا بالغناء والضرب، ظريفًا كاملًا فقال:
أَلا يا دير حنظلة المفدى ... لقد أَودعتني تعبًا وكدّا
أَزُفُّ من العقار إليك زقًَّا ... وأجعل فوقه الورق المندى
أَلا يا دير جادتك الغوادي ... سحائب جُليت برقًا ورعدا
تزيد نباتك النامي نموًا ... وتكسو الأرض حسنًا مستجدا
فاصطحبنا فيه عشرة أيام، وعبد الله ومن معنا من المغنين يغنوننا.
ولعبد الله في هذا الشعر لحنٌ من خفيف الرَّمل مليح، وفي هذا الدير يقول الشاعر:
1 / 1