ونراه لا يذهب إلى شلب بيضته ومسقط رأسه، ولا إلى بطليوس، مدرسته الأولى التي بدأ بها حياة الدراسة والتحصيل، وإنما يختار له مدينة بلنسية فينزل بها. ولعل إعراضه وانصرافه عن هاتين المدينتين، كان لما قد أصابهما من التخلف وسؤ الحال. والخراب، بسبب الحروب والفتن، التي قامت في وجه مملكة بطليوس وإما راتها، تارة على أيدي ملوك أشبيلية من بني عبد، وأخرى على أيدي قواد المرابطين وحكامهم، مما كان قد عطل موكب الحضارة، وأفسد النشاط العلمي والأدبي، بتلك البقاع من الأندلس في ذلك الوقت.
ولا تحدثنا التراجم بالصراحة، متى تحول أبن السيد عن خدمة الملوك، وقطع صلته بحاة القصور، وأغلب الظن أن ذلك كان بعد وفاة المستعين سمة ٥٠١هـ.
فإذا صح أنه فارق سرقسطة بعد وفاة المستعين، وولى وجهه شطر بلنسية، قنزلها، وأستقر بها مكانه، فمعنى ذلك أن هذه المدة كانت طويلة جدا، تمتد إلى عشرين سنة كما أنها هامة جدا، وذلك لأن تلك الحقبة هي ألمع أوقات حياته وأخصبها مادة، وأكثرها فائدة، وأكبها نفعا وغزارة. لأنها تمثل طوارا خصبا من حياته الأدبية والعلمية، التي نصب نفسه في خلالها لاقراء النحو وفيها ألف تواليه الكثيرة.
أما الأسباب التي جعلته ينصرف عن حياة القصور، ويتحول عن خدمة الملوك والأمراء، ويقطع صلته بالأعيان والرؤساء، فأظهرها وأكبرها هي أربعة أسباب: أولها، أنه جرب ملوك الطوائف، وأختبرهم، فلم يرفيهم خيرا، ولا صلاحا. وشاهد أخلاقهم السيئة، وطغيانهم على الرعية وجورهم على الضعفاء الأبرياء، فأبغضهم وتنفر عنهم. وثانيها، ما واجهه من نكبة خطرة على يد أبن رزين التي ذهبت بمعظم ما في يديه، وفرمنه فرار الموت أو القتل. وثالثها هي الهزات العنيفة التي أصيبت بها الأندلس، والتي تركت أثرا بعيدا في قلوب أهلها، من إشاعة القلق والخوف، والتوجس من المستقبل، والتي تزعزع بها بنيان الحضارة، وأصيب المسلمون بالمكارة والآلام، التي تقشعر الجلود عند ذكرها، وتظطرب النفوس عند سماعها، وتتبادر الدموع عند بيانها. ورابعها، هي نهاية ملوك الطوائف المشجعين للأدب والشعر، وحلول المرابطين محلهم، الذين لم تكن لهم أية عناية بالأدب والأدباء والشعر والشعراء، ولقد قال الفتح أبن خاقان وأجاد حيث قال إن أبن السيد " لما رأى الأحوال واختلالها، والأقوال واعتلالها، وتلك الشموس قد هوت، ونجوم الآمال قد خوت، أضرب عن سواه، ونكب عن نجواه، وأغترب بلوعة أبن رزين وجواه، ونصب نفسه لإقراء علوم النحو وقنع بتغييم جوه بعد الصحو ".
وفاته
وقد أجمعت المصادر التأريخية على أن أبا محمد أبن السيد البطليوسي توفى في منتصف رجب الفرد، من سنة إحدى وعشرين وخمسمائة من الهجرة النبوية ببلنسية، ﵀ رحمة واسعة، وجعل الجنة مثواه، ومتعنا بفيوضه ومعارفه، وهو ولي التوفيق.
ملامح من شخصية الرجل
١ - لوعات الحب أو الغرام
إنك قد رأيت فيما سبق من صورة مجملة عن حياة أبن السيد التي لو لم تكن شاقة، ولكنها كانت مضطربة وخاصة في أطوارها الثلاثة الأولى، التي لم يزل يتنقل في خلالها من عاصمة إلى أخرى، ويتصل بملوك الطوائف، مرة بهذا، وأخرى بذلك. أما حياته الخاصة فلا نعرف عنها، إلا بعض الإشارات الخفية. ويبدو لنا أن الرجل كان قد أبتلى بالحب، وذاق طعمه، وأحس حرارته، وعالج آلامه، فعبر عن ذلك في شعره. وهذا الشعر لا يصدر إلا من قلب مذاب حبا وعطفا وحنانا: " الطويل ".
خليلي هل تقتضي لبانة هائم ... أم الوجد والتبريح ضربة لازم
فأني بما ألقى من الوجد مغرم ... كسال، وقلبي بائح مثل كاتم
ولي عبرات يستهل غمامها ... نحوي، إذا لاحت بروق المباسم
كفى حزنا أني أذوب صبابة ... وأشكو الذي ألقى إلى غير راحم
وأرتع من خديه في جنة المنى ... ويصلي فؤادي من هواه بجاحم
تقتصى الصبا، واللهو إلا حشاشة ... تجدد لي عهد الصبا المتقادم
وهو القائل: " الطويل "
أما أنه لولا الدموع الهوامع ... لما بأن منى ما تجن الأضالع
وكم هتكت ستر الهوى أعين المها ... وهاجت لي الشوق الديار البلاقع
1 / 27