إذا أنكحوا من فضة الماء تبرها ... أتى اللؤلؤ المكنون وهو وليدها
كما أنكحوا البدر استقامت سعوده ... هذيلا من الشمس اسقامت سعودها
فجاءا بعبد الملك للملك كوكبا ... ليحمى سماء المجد ممن يكيدها
رمى جنة الأعداء لما سموا لها ... بشهب القنا حتى استشاط مريدها
فتى أحرز العليا وحاز مدى الندى ... فما إن له من ريبة يستزيدها
سرى بارق من بشره غير خلب ... إلى أرض آمالي فأورق عودها
وبوأني من مجده في مكانة ... سعود النجوم الزاهرات صعيدها
فيا أيها المولى الذي أنا عبده ... وقدما رجا طول الموالي عبيدها
أصخ نحو حر الشعر من عبد أنعم ... بدائعه ما زال منك يفيدها
قواف تروق السامعين كأنما ... تحلى سجاياك الحسان قصيدها
إلا أن هذه السعادة لم تدم، ولم يلبث أن فسد ما بينهما وكادت سهام الرزء الرائشة لابن رزين تصيب عبد أنعمه أبن السيد، وكاد أن يعتقل في شنت مرية، كما اعتقل أخوه، أبو الحسن قبله في قلعة رباح، ولكن الأقدار ساعدته واستطاع أن يتخلص من أبن رزين، ويفر منه فرار السرور من الحزين. وكان ذلك عام سبعين وأربعمائة كما صرح به أبن السيد نفسه في مقدمة المثلث حيث قال: " وذهب عني في نكبة للسلطان جرت على وانتهت معظم ما كان بيدى ". ولا نعرف شيئا عن حياة أبن السيد التي فضاها بين فراره من أبن رزين ودخوله سرقسطة في أيام المستعين أبن همود. فإذا عرفنا أن نكبة السلطان، التي جرن عليه، كانت في السبعين وأربعمائة، وعرفنا كذلك أن المستعين تبوأ عرش سرقسطة في سنة ٤٧٨، فمعنى ذلك أن بين فراره من السهلة ودخوله سرقسطة ثمانية أعوام، وهو فرغ كبير لا تملأه كتب التراجم والتأريخ، كما أنه هو لم يشر إلى ذلك في مؤلفاته التي وصلت إلينا.
وقد كانت سرقسطة عندما دخلها أبن السيد " هي جنة الدنيا، وفتنة المحيا، ومنتهى الوصف، وموقف السرور، والقصف، ملك نمير البشاشة كثير الهشاشة، وملك بهج الفناء أرج الأرجاء، يروق المجتلى ويفوق النجم المعتلى، وخضرة منسابة الماء منجابة السماء، ييسم زهرها وينساب نهرها حمائلها، وتتضوع صباها وشمائلها والحوادث لا تعترضها، والكوارث لا تقتضرها، ونازلها من عرس إلى موسم، وآملها متصل بالأماني ومتسم، فنزل منها في مثل الخورنق والسدير، وتصرف فيها بين روضة وغدير، فلم يخف على المستعين أختلاله، ولم تخف لديه خلاله، فذكره معلما به، ومعرفا، وأحضره منوها له، ومشرفا. وقد مدح المستعين وأشاد بذكره، فمن ذلك قصيدته التي مطلعها: " الطويل "
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بأن
ولعله كان على شيء من سوء الحال عندما وصل إليه، كما يبدو ذلك من قوله في القصيدة نفسها:
تنكرت الدنيا بعدكم ... وحقت بنا من معضل الخطب ألوان
أناخت بنا في أرض شنت مرية ... هواجس ظن خن والظن خوان
وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت ... نواظرها دهرا، ولم يهم هتان
فسرنا، وما نلوى على متعذر ... إذا وطن أقصاك، آوتك أوطان
وأما في الطور الرابع من أطوار حياته، وهو عهد الكهولة والشيخوخة، وعهد التأليف والتدريس. فكان قد قطع صلته بملوك الطوائف. أوقل قطع الله دابرهم وجمع الأمة تحت رأية يوسف بن تاشفين، وأعيان الحكومة وأصحاب الرياسة، وعكف على المطالعة والقراءة والتأليغ، وجلس للتدريس ولإقراء اللغة والنحو ببانسية فأقبل إليه الطلاب من كل ناحية وصوب - يأخذون عنه النحو واللغة ويقتبسون من فضله ومعارفه، ثم ينصرفون عنه وينتشرون في نواحي البلاد، فيعلمون، ويدرسون، ليبثوا معرفه، وينقلوها إلى الأجيال القادمة.
1 / 26