ففي هذه البيئة الأدبية، بدأ ابن السيد دراساته، كطالب ناشئ ذكي فكان يختلف إلى علماء بطليوس، ويتردد إلى مدارسهم، ويحضر حلقاتهم، ويستفيد من معارفهم، وفضلهم، منهم أخوه أبو الحسن علي ابن السيد، وعاصم بن أيوب، وعل بن أحمد بن حمدون البطيوسيون وغيرهم، من أعلام العلم والأدب، فأخذ عنهم اللغة، والأدب، وشعر القدماء. لعله أخذ عن أخيه " سقط الزند " وغير من دواوين شعر المعري، لأن أخاه أبا الحسن هذا، كان قد أخذ سقط الزند عن عبد الدائم القيرواني وكان يرويه عنه في بطليوس.
على كل حال، فان ابن السيد كان قد غذي بشعر المعري، وهو صغير، وسمعه من شيخ بطليوس، وأعجب فيه، وحفظه، لألنا نراه يسرع إلى طليطلة، وهو حديث السن، ولم يتجاوز الثانية عشر من عمره، ليزور شيخا من شيوخ المشرق، وعلما من أعلامها، الذي رأى أبا العلاء المعري، وأخذ عنه شعره، واستجازه روايته، فأجاز له، ذلك الشيخ العلم، هو أبو الفضل البغدادي، رسول خليفة العباسي إلى المعزا بن باديس، ورسول المعري الأدبي إلى أهل المغرب كافة، الذي دخل الأندلس واستقر أخيرا بطليطلة، وملكها إذا ذاك هو المأمون يحيى ابن ذي النون، ذلك الملك الذي عرفه التاريخ كمأوى للعلماء، والأدباء، وملاذهم وقبلة الشعراء والكتاب، وولى نعمتهم ومعطيهم.
ثم أن ابن السيد، لم يزل يتنقل في عواصم الأندلس، ومراكزها، فتارة في قرطبة، وأشبيلية، وأخرى ببلنسية وسرقسطة، وأخذ عن أبي سعيد الوراق، وعبد الدائم القيرواني، وأبي علي الغساني، رئيس المحدثين بقرطبة في زمانه، وكبار العلماء المسندين به، وسنذكرهم في فصل مستقل، أن شاء الله في شيوخ ابن السيد وأساتيذه.
الطور الثالث: وهو عهد الرجولة، والاتصال بالملوك، والأمراء، والعيان والوجهاء في عصره، فان ابن السيد في هذا الطور من أطوار حياته، لم يزل ينتقل من بلاط إلى آخر، ومن عاصمة إلى أخرى، ويحضر مجالس الملوك ومآدبهم، طوال هذه المدة فجلب الدهر أشطره، وتلا حروفه وأسطره، وخدم الرياسات، وعلم طرق السياسات ونفق، وكسد ووقف وتوسد.
فممن اتصل به من الملوك، القادر بالله يحي بن إسماعيل بن يحي ابن ذي النون صاحب طليطلة، وأبو مروان عبد الملك ابن رزين، صاحب السهلة، والمستعين بالله، أحمد بن سليمان ابن هود، ملك سرقسطة، وأمراء نبي عبد العزيز، أصحاب بلنسية وكذلك فانه كان قد عرف كثيرا من الأعيان، والوجهاء، والوزراء والكتاب، وأصحاب الرتب من أمثال ذي الوزارتين أبي عبس ابن لبون، وذي الوزارتين، أبي محمد ابن الفرج. والوزير الكاتب أبي أحمد بن سفيان، والوزير أبي بكر بن عبد العزيز والأستاذ أبي الحسن ابن الأخضر، والأستاذ أبي محمد ابن جوشن، وأب الحسن راشد بن عريب، وابن أبي الخصال. وله في بعضهم المدائح والمرثى، كما أن له بعض الرسائل، والمكاتبات، والأشعار، التي كان يبعث بها إليهم في شتى المناسبات وفي الأغراض المختلفة المتنوعة.
والظاهر من الأسباب، التي جعلته يميل إلى حياة القصور، وخدمة الملوك ماشاهده بطليطلة، عند المأمون يحي ابن ذي النون، من تقدير العلماء، والأدباء، وإكراهم لهم، وإجزال العطايا والصلات لهم، وإجزاء الأموال عليهم، وعزهم، ومكانتهم في نفوس الخاصة والعانة.
وليس لدينا ما يؤكد لنا عن صلته بالمأمون، وحظه من حاشيته، وهل كانت له شركة في مجالس الطرب والأنس التي كان يقيمها في قصره الذي كان شاده بطليطلة، والذي بالغ الشعراء والخطباء والمؤرخون في وصفه أم لا؟ لأن المصدر المفصل عن حياة ابن السيد، هو الفتح ابن خاقان، وبيانه مختلف فيما ألفه، وقوله يناقض بعضه بعضا؟ فانه يقول في القلائد أن ابن السيد، حضر مع المأمون ابن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية، وبه أخذ المقري في نفخ الطيب وقال في رسالته، التي خصصها لابن السيد أنه حضر مع القادر بالله ابن ذي النون في مجلس الناعورة بطليطلة، فقال قصيدته الدالية يصف بها حال المجلس ومطلعهل " المنسرح "
يا منظرا إن رمقت بهجته ... أذكرني حسن جنة الخلد
فالرجل يختلف بيانه، وكلامه يناقض بعضه بعضا، كما ترى.
1 / 24