فساء المسافر إعراض الحطاب فلم يزد إيضاحا، بل عاد فلف الماربيش على النارجيلة، وهم بالانصراف قائلا بكل هدوء: لا تخلو الضيعة من أصدقاء لم ينسوني، فأنت يا بطرس منصور لا تلام؛ لأنك كنت صغيرا في تلك الأيام، ولا شك أن الطحان نمر بشارة يعرفني لأول وهلة، فكيف شغله؟ - خربت مطحنته ونبت موضعها الدلب والحور. - والطحان نمر ماذا جرى له؟ - أظن أنه انتقل مع عائلته إلى بيروت، والله أعلم بحاله، ولربما مات أيضا، والآن افهم يا خواجة أنك تتكلم عن زمن جدي، لكنك لا تحصل على جواب إلا من حفار القبور الساكن في كوخ عند المقبرة فهو يعرف كل شيء، ويعد لك على أصابعه كل الحوادث التي جرت من مئة سنة. - لا يخفى علي ذلك ولا يبعد أن يوسف روحانا جاوز التسعين. - يوسف روحانا؟ ... ما هذا اسم الحفار، اسمه فارس عبود.
فتنفس الغريب الصعداء وهتف: أشكرك اللهم؛ لأنك أبقيت على أحد أترابي. - كأن فارس صاحبك يا خواجة؟ - صاحبي! لا، فإننا كنا في خصام دائم، ومرة كنا نتصارع فزجيته في الساقية الطامية من الأمطار فكاد يغرق، ولكن ذلك قديم العهد ولا ريب أن فارسا يسر بلقائي وأنا ذاهب إليه في الحال.
وعندئذ أخذ قطعة من الفضة وأعطاها للدكاني، واعدا بأن يتردد إليه ليدخن عنده بالنارجيلة، فأجاب هذا: المحل محلكم يا سيدي، والكل تحت أمركم، وأشار إلى أحد ولديه أن احمل خرج الخواجة ورح في خدمته.
فشكر الرجل قائلا: ما من داع إلى أن تتعبه، ونفح الصبي بدرهم وأخذ منه الخريطة، وانحدر في طريق متوعرة شرقي الخان، وقد خرج الدكاني يشيعه مكثرا من إشارات الاحترام وعبارات الامتنان: «شرفتم الله يحفظكم، ربنا يطل عمركم»، حتى توارى المسافر عن أبصاره فعاد وهو لا يتمالك من الفرح لما ناله من الحلوان.
3
فسار المسافر ينوي خميلة من الصنوبر، كان عهدها في صباه يروق له منظرها، فما أدركها حتى تقبض وأخذ منه الحزن؛ لأن عينه لم تقر إلا على أغراس حديثة، أما الأشجار الباسقة التي كان يستظل تحتها فوجدها قد عبثت بها أيدي الدهر، وتلاعبت بها عواصف الرياح، فكسرتها، وقطعت فئوس الحطابين جذورها المتأصلة في الأرض، فأصابها ما أصاب السكان من الخراب والفناء، وقد قام مكانها شجيرات لم يألف جنسها ولم تفده خبرا عن أحوال الأهلين.
بيد أنه كان يسمع تغريد الطيور المعششة فوق الأغصان، فوجدها لم تزل تصدح كمألوف عادتها، فتشنف الآذان بأصواتها المطربة؛ وكذلك كان يعمل في قلبه حفيف الشجر؛ لتلاعب النسيم بأغصانها، وقد علاها الجدجد وهو يصرصر لحمارة القيظ، وكانت الزهور تبعث إليه بروائحها الذكية فتلذ حاسة شمه، ففي كل هذه المناظر لم يجد ما غيرته الأيام سوى أعمال البشر، أما الطبيعة فلم تنفك تجري على ما وضعتها لها الحكمة الأزلية من النواميس.
فمشى في الخميلة حينا يلوح على محياه ما يزدحم في قلبه من العواطف، فطورا يغلبه الفرح لوصوله إلى مسقط رأسه، وتارة الكدر لوجوده نفسه غريبا في وطنه، ويبدو في حركاته ما يتنازعه من عوامل الخوف والرجاء، فحينا يخشى أن يدوي في أذنه الجواب على كل سؤال عن الأحباب «مات، ماتت»، فيقدم رجلا ويؤخر أخرى، وحينا ينعش الأمل فؤاده فيرجو أن تكون سهام الدهر أخطأت تلك التي وجه إليها أفكاره وعواطفه، بيد أنه لا يشك أنها لو بقيت في قيد الحياة لا تزال بعد ثابتة على عهده، فيمكنه الاستمتاع بلقياها فينسى بقربها ما تجشمه من الأخطار وقاساه من الأهوال، فيزيد هذا الفكر في نشاطه وسرعة مشيه.
وما كاد يخرج من الخميلة، حتى لاح له مشهد بديع فرأى رياضا أريضة اكتست بحلة خضراء، وشاها بنان الربيع تنساب في أرجائها جداول المياه، كأنها أفاع تتململ، أو دموع تتسلسل، أو لجين يسيل، أو صفحة سيف صقيل، ومنها ما يجري في قني واسعة، ثم يهوي من عل فيدير المطاحن ويسمع لها دوي وجعجعة تطن لها الآذان، فسار قليلا وإذا ببيوت الضيعة برزت للعيان وهي مبنية من الحجر المنحوت الأصم، منها بيضاء السطوح، ومنها ما علاها القرميد الأحمر، وقد امتازت بين هذه المساكن كنيسة الضيعة مكللة بقبة جرس، يزينها صليب أبيض يلمع كالنجم الهادي.
هي القرية، هو الوطن، فما كادت شفتاه تنطق بذلك، حتى همت على خديه دموع الفرح، وسقطت من يده الخريطة، فمد ذراعيه كأنه يحاول الطيران وفي قلبه من العواطف ما يعجز عن وصفها القلم، فإنه جاب البلاد وطاف عواصم الممالك الأوروبية، وتفقد مصانعها ومعالمها، ولكنه لم يداخله قط يوما من عجائبها ما داخله لدى نظره لمسقط رأسه بعد طول الفراق ومر البعاد.
Bog aan la aqoon