فأخذ يديهما الناعمتين وقال: تستغربان ما بدا مني ولا يتضح لكما سر ما يخامرني من التأثر لمرأى هذه الصورة، فاعلما أني أنا أيضا ربيت هنا صغيرا، وطالما رافقت أبي إلى هذا المكان، فكم قضيت ساعات ألعب بالنوفرة، وأمتع العين بمنظر الماء تتكسر عليه أشعة الشمس فيتناثر دررا في الفسقية، وأنا أرقص طربا لهذا المشهد البديع! أما الصورة فكنت أحب التأمل فيها وتقر عيني بمنظر هذا البطل العظيم، واليوم أمسى الصبي رجلا طاعنا في السن، وعلا البياض رأسه وزالت نضارة وجهه، ذاك الصبي أبعدته صروف الدهر عن أوطانه، وطرحته مطارح الأسفار إلى مجاهل إفريقية الجنوبية، فقضى فيها أكثر من عشرين سنة، ولكنه لا يزال يذكر النوفرة والصورة، كأنه لم يمض إلا يوم من حين جاء به أبوه آخر مرة إلى هذا المكان.
فسأل أحد الصبيين: إذن أنت من بلدنا؟
فأجاب الرجل طافحا بالسرور: نعم من ضيعتكم، لكن هذا التصريح لم يأت بالنتيجة المرغوبة، فإن الصبيين قابلاه بابتسامة لطيفة ليس إلا، ولم يبديا أدنى اندهاش أو علامة فرح مما علماه من أن الرجل ابن الوطن، لا أحد الجوالين الأوروبيين الذين يطوفون أيام الصيف في أصقاع لبنان، ولم يجد لهذا النبأ وقعا عظيما في قلب الدكاني؛ ولذا لم يرج التعرف إليه فسأله: أين صاحب الخان ريشا؟ - أنت تعني طانيوس، فهذا قد مات من زمان. - وامرأته الصالحة آسين؟ - ماتت أيضا. - فتنهد الغريب وصاح: مات؟ ماتت؟ ثم سكت هنيهة وسأل: وعبد الله الراعي صاحب الشبابة المشهورة الذي كنا نقضي معه أياما؟ - سيدي إنك لا تجهل أحدا، لكن كل من ذكرتهم قد ماتوا.
2
فأطرق المسافر وخاض في بحر الأفكار المحزنة قائلا في ذاته: جئت أستعلم أخبارها فلا أجسر على السؤال؛ إذ بت أخشى الجواب، لكنه عاد إلى نفسه بعد حين لما رأى أحد القرويين أقبل يحمل حزمة من الأشواك والأغصان اليابسة، كان جمعها من الأحراش المجاورة فطرحها عند المدخل، وجلس يستريح على مصطبة هناك ويمسح بأذيال عباءته وجهه المكلل بالعرق، فما تأمله إلا صرخ بصوت الحبور وبادر إليه، ومد يده ليصافحه، فتفرس فيه الحطاب مستغربا وكأنه لم يكترث له، فصاح المسافر: وأنت أيضا يا بطرس منصور لا تعرفني؟ فاعتذر الحطاب وحلف أنه لا يعرف له صورة قبل ذاك اليوم.
فسأله: ألا تذكر الرجل الذي خاطر بروحه لينقذك من بين أرجل حصان جموح؟
فلم يكن الحطاب ليفهم كلامه. - هل نسيت الشاب الذي كان يدفع دائما عنك تعديات أولاد الضيعة، وعلمك ألعابا كثيرة وأركبك مرارا على حصانه؟ - أذكر أن المرحوم والدي أخبرني مرة أني لما كان عمري خمس سنين، كاد يدعسني الحصان لو لم يخلصني حنا الطويل، لكن هذا سافر من خمس وعشرين سنة إلى بلاد بعيدة وراء البحر، ومن ذاك الحين لم نعد نسمع خبرا عنه، وما أدرانا! لعل اليوم تكون عظامه صارت مكاحل، الله يرحم ترابه!
فصاح الغريب بفرح: إذن تعرفني الآن، أنا حنا الطويل، بل حنا غنطوس، ولما رآه لا يبدي ولا يعيد أردف كلامه بقوله: ألا تذكر الصياد الذي اشتهر في هذه الضيعة، حتى كان لا يتقدم عليه أحد كلما هجم ذئب أو ضبع، فكان هو وحده يخلص البلد من شر الوحوش، ويصيب دائما لا يخطئ ولا مرة؟ فأنا أنا الصياد حنا غنطوس.
فأجاب الحطاب مترددا: ربما يكون ذلك، أما أنا بلا مؤاخذة من جنابك يا سيدي فلا أعرفك، وكيف أعرفك وأنت خواجة غني كبير وأنا فلاح مسكين ما طلعت في عمري خارج الضيعة؟
قال هذا وألقى ظهره ليستند إلى الحزمة، فكأنه أضر به الحر والتعب، أو ظن أن الغريب يسخر به فلم يبال بشأنه ولم يعبأ بأقواله، وليست كذلك حالة أمثاله إذا رأوا في بلدهم غريبا ولا سيما أوربيا، فإنهم يرحبون به ويكرمون مثواه.
Bog aan la aqoon