قلت محتجا: هم أكثر حياة مني ومنك ومن كل من تظن أنهم أحياء.
قال وهو يمد يده ويربت رأسي وكتفي، كأنما ينفض الغبار المتراكم من سنين: صدقت، كل هذا في السجل، كله في كفة الميزان.
رفعت وجهي إليه مستفهما وأنا أردد بصري بينه وبين الأطفال، قال في تؤدة كأنه يناجي الزمن نفسه: كل كلمة صدق في هذا السجل، كل كلمة حق.
سألت متهكما: والميزان؟ أتراكم تزنون القلوب والأرواح؟
استمر في مناجاته: هل تصورتم أننا لا نسجل ولا نزن شيئا؟ النيات والأحلام والأعمال كلها هنا أو هناك، ما من شيء يضيع يا صديقي، ما من كلمة صادقة تنسى أو تذهب هباء.
قلت وأنا أهز رأسي مستنكرا: حتى المتواضعين المنكورين تذكرونهم؟ حتى الذين افترستهم ذئاب العصر وداستهم أقدامه؟
قال مؤكدا على كل حرف كأنه يتلو نصا مقدسا أو يرتل نشيدا موروثا: هؤلاء قبل غيرهم، ثم وهو ينهض على قدميه ويقلب طرفه في الوجوه الحزينة والسعيدة، والعيون المتحدية والعيون الكسيرة، وتماثيل الحكماء والمهرجين والقرود التي وضعت أكفها على الأفواه والآذان والأعين، والزهريات والشمعدانات الصغيرة التي طالما سهرت على شموعها: كل شيء يقول إن اللحظة بين يديك، وكل لحظة تدعوك للبدء من جديد.
كنت قد تابعت عينيه وشردت ببصري لأتأكد من وجود البيوت من حولي، وأعاين المآذن والقباب والنوافذ والشرفات والهوائيات المشرعة للسماء.
رحت أردد البصر بينه وبين الأطفال، وأسأل نفسي إن كنت قد رأيت هذا الوجه الطيب قبل ذلك، وبينما كنت على شرودي وحيرتي وتساؤلي المستمر، سحبت طرفي من النافذة وتلفت لأجيب عليه فلم أجد أحدا حولي، كانت أصداء صوته ما تزال تتردد في فضاء الحجرة الضيقة الخافتة الضوء، وأنا أحاول أن أتذكر أين رأيت هذا الوجه الضاحك السمح، وسمعت هذا الصوت الخشن الوقور: كل شيء يدعوك للبدء من جديد.
أتراك يا صديقي شفيق قد زرتني في المنام أو الكابوس؟ أم تراك تصوفت ووصلت وأصبحت من أصحاب الكرامات؟
Bog aan la aqoon