ثم اعلم أيها السائل علما يقينا، وافهم فهما ثابتا مبينا، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت(1) في قياسها وفهمها، وفي ما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: {نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف:76]، وأنه ليس أحد من المخلوقين؛ أولى بفهم أحكام رب العالمين؛ ممن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤديا لدينه، قائما بحكمه، داعيا لبريته، حايطا لخليقته، منفذا لإرادته، داعيا(2) إلى حجته، مبينا لشريعته، آمرا بأمره، ناهيا عن نهيه، مقدما لطاعته، راضيا لرضاه، ساخطا لسخطه، إماما لخليقته(3)، هاديا لها إلى سبيله، داعيا لها إلى نجاتها، مخرجا لها من عمايتها، مثبتا لها على رشدها، مقيما لها على جوآد سبلها، ناصحا لله فيها، قائما بحقه سبحانه عليها. وذلك وأولئك فهم صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في أرضه، الأئمة الهادون، والقادة المرشدون، من أهل بيت محمد المصطفى، وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلى، المجاهدون للظالمين، والمنابذون للفاسقين، والمقربون للمؤمنين، والمباعدون للعاصين، ثمال كل ثمال، وتمام كل حال، الوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضى من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهنوا ولم يفتروا، ولم يقصروا في طلب ثأر الإسلام ولم يغفلوا ، نصحوا المسلمين(4)، وأحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين، وبينوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: 42]، عملوا فجوزوا، ونصحوا فقبلوا، وتقربوا من الله فقربوا، وأخلصوا لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة، طلبوا منه التوفيق فوفقهم، وسألوه التسديد فسددهم ، وقاموا له بأمره فأرشدهم، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم هدى، وضاعف لهم كل خير وتقوى، كما قال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]، قصدوا الحق فأرشدوا له، وأتموا بالصدق فعملوا به، فوجبت لهم حقائق التوفيق، ونالتهم بحمدالله موقظات التحقيق(1)، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة، وشملتهم بفضله سبحانه شوامل الحكمة، فنطقوا بالبيان في قولهم، وحكموا بالحق في حكمهم، واهتدوا بالله سبحانه في أمرهم، وثبتوا بزيادة (هدى)(2) الله على الحق الفاصل، وتناولوا شكايم العلم الفاضل، فنالوا بعطاء الله الأكبر مالم ينل غيرهم، وقدروا على ما عجز عنه سواهم، فحكموا باختيار الله لهم وتوفيقه، وإرشاده لهم وتسديده؛ في كل نازلة بالصواب، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب، فكان علمهم لما ذكرنا من اختيار الله لهم، واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته علما جليلا، وكان قياسهم قياسا ثابتا أصيلا، إذ هم وأبوهم صلوات الله عليهم أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه وآله وسلامه تفرعت العلوم المعلومة، وثبتت أصول الأحكام المفهومة، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاصلة، وبلغت الأصول الفاضلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام، فهم أصل الدين، وشرائع الحق المستبين، فكل علم نيل أو كسب؛ فمن فضل علمهم اكتسب، وكل حكم حق به حكم؛ فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه، المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حججه البالغة، المسبغون بذلك على الأمة النعم السابغة، لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلا معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما به أتوا عن الله إلا ظلوم، ولا يكابرهم فيما أدوه إلى الأمة عن الله إلا غشوم(1)، لأنهم أهل الرسالة المبلغة، والآتون من الله بالحجة البالغة، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم، وأمروا باتباعهم ونهوا عن مخالفتهم، وحضوا على الإقتباس من علمهم، ألا تسمع كيف يقول الرحمن، فيما نزل من النور والبرهان، حين يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 83]؟ فأمرت الأمة بسؤالهم عند جهلها، والإقتباس منهم لمفروض(2) علمها. ثم قال الله سبحانه: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} [النساء: 83]، فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه، ولا ينالون فهمه إلى الله؛ بالتسليم له في حكمه،وإلى الرسول في معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيماالتبس من ملتبسه،واشتبه على الأمة من متشابهه؛ لوجدوه عندالله في كتابه مثبتا، وفي سنة رسوله التي جاء بها عن الله مبينا، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه نيرا بينا. ثم اخبر سبحانه أنه لولا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهر لهم من خيرته، وتولية(3) من ولى عليهم من صفوته، إذن لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين (مهتدين)(4)، غير ضالين ولا مضلين، صفوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة، وسراج الظلم المدلهمة، ورعاء البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وموضع الحكمة، وثبات الحجة، ومختلف الملائكة، اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه، علما منه سبحانه بفضلهم، وتقديسا لهم على غيرهم، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} [فاطر: 32]، فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق، ثم ميزهم فذكر منهم الظالم لنفسه، باتباعه لهوى قلبه، وميله إلى لذته. وذكر منهم المقتصد في علمه، المؤدي إلى الله فرضه(1)، المقيم لشرائع دينه، المتبع(2) لرضى ربه ، المؤثر لطاعته. ثم ذكر السابق منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، وهم: الأئمة المطهرون(3)، المجاهدون السابقون، القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستأهلون لتأييده، والمستوجبون لتوفيقه، المخصوصون بتسديده، في كل حكم به حكموا، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]. وفي طاعتهم، وما أمر الله من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم ما يقول الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]. وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل، والحض للعباد على طاعتهم، والإقتباس من علمهم؛ فكثير غير قليل، يجزي قليله عن كثيره، ويسيره عن جليله، من كان ذا علم واهتداء، ومعرفة بحكم الله العلي الأعلى. وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها، فإن اتبعت أمره رشدت، وإن قبلت دلالته اهتدت، وإن خالفت ذلك غوت(1)، ثم ضلت وأضلت، وهلكت وأهلكت، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: 42].
وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى، ما يقول النبي المرتضى: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن(2) تضلوا من بعدي الثقلين(3): كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، ويقول صلى الله عليه وآله في تفضيلهم، والدلالة على اتباعهم، وما فضلهم الله به على غيرهم: (( النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون )). وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
وهذا ومثله فكثير عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، يفهمه من روى عنه عليه السلام، ونحن نستغني بقليل ذكره عن كثيره.
ثم اعلم أيها السائل أن الحق لا يؤخذ إلا من أحد ثلاثة وجوه: كتاب ناطق، أو إجماع من الأمة في ما نقلته عن النبي عليه السلام من السنة التي جاء بها عن الله، وأمر بينته وصححته العقول، وميزت وأخرجت حقه، وشرعت صدقه.
Bogga 684