Sheekada Falsafada Casriga
قصة الفلسفة الحديثة
Noocyada
إذن فالعبقري يحاول أن يمحو شخصه وينكر ذاته ليرى الحقائق الخارجية كما هي، وهذا ما يجعله نابيا في قومه؛ لأن هؤلاء ينظرون إلى الأشياء من خلال ذواتهم، ولذا ترى العبقري غريبا بين الناس لا يلتقي معهم في وجهة النظر، فهو لا يرى ما هو قريب منه، بل يلقي ببصره إلى الأفق البعيد النائي، وقد يعلق نظره في النجم فيسقط في هوة اعترضت طريقه ولم يلق باله إليها، ومن ثم نشأ شذوذ العبقري في المجتمع وعدم مخالطته للناس؛ لأنه يفكر في أصل الأشياء الشامل الخالد، أما هم فيفكرون في الصور المؤقتة الفردية المباشرة، فليس بين عقله وعقولهم قدر مشترك تلتقي عنده «إن القاعدة أن الرجل يكون اجتماعيا بمقدار ما هو مجدب في عقله تماما.» ولكن صاحب العبقرية له ما يعوضه عن هذه العزلة الموحشة، فليس هو بحاجة إلى العشير والرفيق كعامة الناس الذين يعتمدون في حياتهم دائما على ما هو خارجي عنهم، «فاللذة التي يستمدها من صور الجمال كلها، والسلوة التي يصادفها في الفن ... يمكنانه من نسيان مشاغل الحياة.» إذ هما «يعوضانه عن الألم الذي يزداد في الإنسان بنسبة وضوح إدراكه، ويعوضانه عن وحدته المنعزلة في جنس من البشر يختلف عنه.»
ومهما يكن من الأمر فالعبقري مضطر إلى الوحدة، وكثيرا ما تؤدي به إلى الجنون، فإن دقة حساسيته التي تسبب له الألم بالإضافة إلى خياله وبصيرته، ثم إلى عزلته ونبوه في الحياة تعمل جميعا على قطع الصلة التي تمسك أجزاء العقل، بحيث يتمكن من حصر تفكيره في الحقيقة، ولم يخطئ أرسطو حين قال: «إن الممتازين من الرجال في الفلسفة أو في السياسة أو في الشعر أو في الفن ذوو مزاج مكتئب.» وإن العلاقة المباشرة بين الجنون والنبوغ تؤيدها تواريخ العظماء كروسو وبيرون وغيرهما «وبالبحث الدقيق في مستشفيات المجانين وجدت حالات فردية لمرضى كانوا بغير شك ذوي مواهب عظيمة، وكانت عبقريتهم تظهر جلية من خلال جنونهم.»
ومع ذلك فهؤلاء النوابغ، وهم بحق أنصاف مجانين، هم الطبقة الأرستقراطية الحقيقية للجنس البشري «إذ الطبيعة من حيث العقل أرستقراطية إلى حد كبير؛ لأنها فرضت بين الرجال من الفوارق ما يفوق ما اصطنعته الأمم من الفوارق التي تقوم على ميلاد أو رتبة أو ثروة أو دم.» فالطبيعة لا تهب النبوغ إلا للقلائل؛ لأنها تعلم أن مزاج النوابغ يعوق مجرى الحياة العادية التي تشترط التركيز في الجزئي المباشر فلا ينبغي أن تجود منهم إلا بالقليل. (ج)
الفن:
هذا التحرير للمعرفة من خضوعها للإرادة، هذا النسيان للذات الفردية ومصلحتها المادية، هذا السمو بالعقل إلى مرتبة التأمل اللاإرادي في الحقيقة، هو وظيفة الفن. فإذا كان موضوع العلم هو الكلي الذي يشمل جزئيات كثيرة، فموضوع الفن هو الجزئي الذي يشمل الكلي، فحتى الصورة التي يرسمها الفنان لشخص يجب أن تكون - كما يقول «ونكلمان
Winckelman » - «المثل الأعلى للفرد». وفي تصوير الحيوانات تكون أكثر الصور بيانا للطابع المميز للحيوان المرسوم هي أجملها؛ لأنها تكشف عن النوع كله كشفا واضحا، وإذن فنجاح العمل الفني يقاس بنسبة ما يتضمنه من المثال الأفلاطوني للشيء المعين الذي تناوله ذلك العمل، أو بعبارة أخرى نجاح الصور الفنية مثلا يتوقف على مقدار ما تستجمعه في الشيء المرسوم من الصفات الكلية للجنس الذي يكون الشيء المرسوم أحد أفراده؛ وعلى ذلك فلا يجوز أن يقصد الفنان إلى الدقة الفوتوغرافية إذا أراد أن يصور رجلا، بل ينبغي أن يعرض في صورة هذا الشخص الواحد الذي يرسمه كل ما يمكن عرضه من صفات الإنسان عامة. فالفن أعظم من العلم؛ لأن العلم لا يصل إلى نتيجته التي يرمي إليها إلا بعد المجهود المضني في جمع الأمثلة وإقامة الأدلة في بطء وحذر شديدين، أما الفن فيصل إلى غايته دفعة واحدة بالبصيرة والتمثيل. هذا إلى أن العلم تكفيه الموهبة العادية، أما الفن فلا بد له من العبقرية والنبوغ.
إن استمتاعنا بالطبيعة وبالشعر وبالتصوير، أساسه أننا نتأمل الشيء ونفكر فيه دون أن نمزج به الإرادة الذاتية، فالنهر بالنسبة إلى الفنان عبارة عن سلسلة متباينة من المناظر الساحرة التي تثير فيه الحس والخيال بما تطلعه عليه من جمال، أما المسافر الذي يعنى بشئونه الشخصية، فيرى في النهر وشطآنه «خطا تقطعه خطوط أخرى هي الجسور المقامة عليه.» هكذا يحرر الفنان نفسه من الشواغل الشخصية، بحيث «يكون سواء لدى إدراكه الفني أن يرى غروب الشمس من سجن أو من قصر.»
تلك هي اللذة التي تنشأ من الإدراك اللاإرادي الذي يخلع على حوادث الماضي، وعلى الأشياء البعيدة سحرا خلابا، ويقدمهما لنا في ضوء جميل، وحتى الأشياء القبيحة إذا نحن تأملناها بغير تدخل الإرادة ودون أن نلقي بالا لما قد ينجم عنها من خطر مباشر، بدت لنا في أروع صور الجمال. إن الفن يخفف من أمراض الحياة؛ لأنه يطلعنا على العنصر الخالد الشامل وراء الصور الفردية الزائلة، وما أصدق «سبينوزا» في قوله: «إن العقل يساهم في الأبدية بمقدار ما يرى الأشياء في مظهرها الخالد.»
ولعل الموسيقى أقوى ضروب الفن في قدرتها على رفع الإنسان فوق إرادته ومكافحتها «ليست الموسيقى بأية حال كسائر الفنون نسخة من المثل (أي جواهر الأشياء)، ولكنها نسخة من الإرادة نفسها.» فهي تصور لنا الإرادة في حركتها البدائية وكفاحها الدائم، تلك الإرادة التي لا تنفك تعود إلى نفسها لكي تبدأ كفاحها من جديد، فالسبب الذي جعل تأثير الموسيقى أقوى وأنفذ من الفنون الأخرى هو أن هذه الفنون تتحدث عن خيالات فقط، أما الموسيقى فتعبر عن الأشياء نفسها، وهي تختلف أيضا عن الفنون الأخرى في أنها تؤثر في شعورنا تأثيرا مباشرا، لا عن طريق الأفكار، وإنها لتخاطب فينا جانبا أرق من العقل. ومما تجدر ملاحظته أن التناظر (السمترية) في فنون المعمار تقوم مقام النغم في الموسيقى، إذ إن فن النحت كما يقول «جوته» عبارة عن موسيقى متجمدة والتناظر فيها نغم صامت. (د)
الدين:
Bog aan la aqoon