أما نحن اليوم فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» - في دنيا الفنون - اختلافات كثيرة، لكننا جميعا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد تحدثه في نفس المشاهد أو السامع من نشوة، إذا ما حاولنا تحديدها اختلفنا في ذلك التحديد لا في النشوة المعينة التي تسري في الإنسان حين ينعم النظر أو يرهف السمع لأثر من آثار الموسيقى أو الشعر أو التصوير. والتفرقة بين نشوة المتلقي لما هو «جميل» ونشوة المتلقي لما هو «جليل» - في مجال الفنون ونقدها - هي التفرقة بين ما يحسه الرائي لزهرة رقيقة أو لآنية دقيقة الصنع أو لقصيدة غنائية، وما يحسه الرائي للجبل العاتي أو البحر الخضم أو الصحراء الممتدة. الحالة الأولى «جمال» والحالة الثانية «جلال»، وكلتا الحالتين تندرجان في مقولة النشوة الفنية.
فإذا ما ارتددنا إلى الأسلاف لنرى كيف فهموا «الجمال» و«الجلال» لعلنا نلتقي معهم أو لا نلتقي في نظرية استاطيقية واحدة، فوجئنا بشيء آخر لا يمت بصلة أو يوشك ألا يمت بصلة بما يطوف في أذهان المعاصرين من معان للجميل والجليل؛ فاقرأ - مثلا - رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها «كتاب الجلال والجمال» لترى في أي عالم ينظر. بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة لم أجد لدقتها مثيلا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين؛ وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها «أنس»، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم، فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح - مثلا - لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل. ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة - أمام الجميل وأمام الجليل - إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهد لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة، إلى هنا نرى الحديث مألوفا لا غرابة فيه.
لكن امض مع ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال، فإذا هو يعني بهما أمورا لا يتوقعها قارئ معاصر؛ إذ هو يعني بهاتين اللفظتين حالتين مختلفتين في توجيه الله سبحانه وتعالى لآياته إلى الناس، فهو آنا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال). وينطلق ابن عربي بعد ذلك ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم كان فيه الجمال إلا وقد قابله بموضع كان فيه الجلال، فقوله تعالى:
غافر الذنب
يقابله قوله:
شديد العقاب ، وقوله:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود
يقابله
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم
وقوله:
Bog aan la aqoon