فماذا يصنع العربي المعاصر تجاه ماضيه؟ لقد طرحت هذا السؤال على نفسي مرة بعد مرة، وأجبت عنه في محاولات متكررة وبصور مختلفة، لكن الفكرة جوهرها واحد في جميع المحاولات، وهو أن نجيء امتدادا للماضي من حيث الإطار لكننا نغير في المضمون الحي ما تغيرت ظروف الموقف، وما ذلك الإطار إلا أن نصنع صنيع آبائنا في المجاورة بين العقل والوجدان في توازن، فلا يكون رجحانا لجوانب الواقع الحسي والنظرة العلمية الحسابية، كما لا يكون رجحانا لجوانب العاطفة والرغبة والانفعال والغريزة، فلكل ميدانه ولكل منهاجه ولكل وسائله وأهدافه.
وكان بين تلك المحاولات ما كتبته بعنوان «ترجمة الماضي إلى حاضر» (راجع ذلك في كتاب «هموم المثقفين»)، حيث شبهت الموقف هنا بطريقة الترجمة عندما يتصدى شاعر لترجمة شعر من لغة إلى أخرى، فعندئذ يختلف الأمر عن الترجمة العلمية التي يلتزم فيها المترجم كلمات النص الذي يترجمه. «... ماذا نصنع لنعيش ماضينا في حاضرنا؟ ... لقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحول النص المترجم إلى صورة جديدة، مع احتفاظها بمعنى النص كاملا، فكذلك قد تكون عملية التحول التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لبه مصونا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته الأصلية.
وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق، وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذ عبارة كنت قرأتها لكاتب هندي، قال فيها: إن للترجمة تاريخا طويلا راسخا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «دار الحكمة» في بغداد؛ لتقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك - كما قال هذا الكاتب الهندي - إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.
فلا بأس إذن بالنسبة إلينا - نحن العرب - في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارا يقاس إليه. غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائمة أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة ؛ فهنالك - أولا - الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة، لولا أني أعلم أن ذلك محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارا؛ وعندئذ ينبغي له أن يورد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفا أو خطأ؛ فلا يجوز له أن يحول السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده. وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون - الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر - إذ قال: لا تحاول قط يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه. وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية - كما يقولون - هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل: هل يمكن وكيف يمكن أن نترجم تراثنا ترجمة حضارية؛ بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول: إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك؛ لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط - مثلا - إلى مطبوع، أو أن نحول المطبوع إلى مطبوع ومشروع، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول.
لكن للترجمة صورا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن الرأي يجمع على أن ترجمة الشعر مستحيلة ... غير أن تاريخ الآداب العالمية قد شهد ترجمات للشعر، فترجم شيكسبير إلى لغات كثيرة، وترجمت إلياذة هومر ... وترجم الخيام ترجمات ذائعة الصيت؛ كترجمة «فتز جرولد» لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئا هاما مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا الحضارية» التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات.
ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله - على أحسن الفروض - مقطوعة مقطوعة ... فالشاعر الإنجليزي عندما ترجم رباعيات الشاعر الفارسي (الخيام) كان أقرب إلى من يحول الخبز واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان أكله من لحم وخبز ... ها هنا تكون الترجمة خلقا جديدا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونا كما وجده ...»
8
علاقتنا الفكرية والوجدانية بأسلافنا تحتاج إلى مزيد من التوضيح؛ لأنها مصدر كثير من الخلط والخطأ؛ فهنالك مقدمتان يجب التسليم بهما ابتداء، ومع ذلك فهما مقدمتان قد تبدوان متناقضتين لا تجتمعان معا على صواب واحد، وهما: أولا الإقرار بوجوب أن تكون بيننا وبين آبائنا صلة موصولة الحلقات بحيث لا يتعذر على الفاحص أن يرى الخط الفكري والوجداني مستمرا بيننا وبينهم؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية ينتفي أن يكون لنا معهم تاريخ واحد مترابط الفصول والمراحل. وثانيا الإصرار على أن يكون لنا حياة فكرية ووجدانية خاصة بنا ومتميزة، وإلا كنا أجيالا من أشباح وظلال جاءت لتحاكي الأولين الأصلاء. وإذا نحن أقررنا هاتين المقدمتين معا - برغم ما بينهما من شبهة التناقض - فكيف إذن يمكن الجمع بينهما في حياة ثقافية واحدة؟
فأما المقدمة الأولى، التي تحتم أن يكون بيننا وبين الأسلاف صلة تضمن استمرارية السير في طريق واحد، فأحسب أنها لا تثير خلافا، اللهم إلا عند جماعة تريد لنا أن ننشق على ماضينا لنضم أنفسنا إلى ثقافات أجنبية وكأننا جزء منهم، لكنها جماعة يغلب عليها الانفعال الذي لا يترك شيئا يمكث في الأرض، وإنما الذي يدعو إلى الوقفة المتأنية العاقلة، هو ما جاءت المقدمة الثانية لتقرره، وهو ضرورة أن يكون لنا نحن المعاصرين استقلال متميز فكرا ووجدانا، بحيث تكون الصلة الرابطة بين الأوائل والأواخر شبيهة بالصلة بين أوراق الشجر وجذورها، فهنالك بين الطرفين خط حيوي لا ينكر، وإلا لما وجدت الأوراق غذاءها، ولكن الأوراق - مع ذلك - ليست هي الجذور، بل ولا تشبهها من الظاهر في شيء.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين حاضرنا الفكري والوجداني وماضينا، من حيث المضمون حتى وإن ظللنا على تشابه مع أسلافنا في الإطار وطريقة البنيان، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية بيننا وبينهم في كثير جدا من ميادين الفكر والأدب والفن؛ فاللفظة المعينة تظل قائمة بيننا كما كانت قائمة بين أسلافنا ، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين؛ لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل وأرادوا تعاملا وتبادلا مع أهل المدينة. وهاك مثلا لذلك: لفظتا «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
Bog aan la aqoon