فقالت خديجة بتهكم: النحافة موضة العاجزات عن السمانة.
خفق قلب كمال عندما تناهت كلمة «النحافة» إلى سمعه، فوثب من باطنه إلى مخيلته صورة القامة الفارعة والقد الممشوق، فرقص قلبه بطرب روحاني، وانبثقت منه النشوات، ثم احتضنته فرحة صافية نسي في حلمها الهادئ العميق نفسه ومكانه وزمانه. فلم يدر كم فيها لبث حتى انتبه على ظل سحابة من الأسى تجيء كثيرا ذيلا لحلمه، لا كما يجيء الغريب الدخيل أو العنصر المتنافر، ولكنها تتسرب إلى الحلم الباهر كأنها خيط من نسجه أو نغمة من هارمونيته، تنفس تنفسا عميقا، ثم جال ببصره الحالم في الوجوه التي يحبها من قديم، والتي يبدو أنها تتباهى على نحو أو آخر بحسنها، خاصة الوجه الأشقر الذي هام زمنا باحتساء الماء من وضع شفتيه. استرجع هذه الذكرى في حياء - وما يشبه التأفف - فشعر بأن أي نموذج من الجمال خلا النموذج المعبود خليق بأن يثير تعصبه وإن حظي بعطفه وحبه. - لن أرضى عن النحافة ولو في الرجال (واصلت خديجة حديثها)، انظروا إلى كمال، ما أجدره بأن يعنى بزيادة وزنه، لا تظن يا بني أن طلب العلم هو كل شيء.
أصغى كمال إليها باسما في استهانة وهو يتفحص جسمها الذي تراكم لحمه وشحمه، ووجهها الذي توارت بالاكتناز عيوبه، معجبا بروح السعادة والفوز التي تكتنفها، غير أنه لم يجد في نفسه الرغبة في مناقشة رأيها، أما ياسين، فقال بتحد وسخرية معا: إذن فأنت راضية عني، لا تكابري في هذا.
كان ثانيا ساقه اليمنى تحته طارحا الأخرى على الأرض، وقد فتح - من الحر - طوق جلبابه، فبدت من فتحة فانلته الواسعة خصلات من شعر صدره الأسود الأثيث، فألقت عليه نظرة نافذة، ثم قالت: لكنك زدتها حبتين، ثم إن شحمك وصل إلى المخ، وهذا شيء آخر.
نفخ ياسين كاليائس، ثم التفت إلى إبراهيم شوكت متسائلا في إشفاق وعطف: خبرني عما تصنع بين زوجك - وهذه حالها - وبين والدتك؟
أشعل إبراهيم سيجارة، وأخذ نفسا، ثم نفخه وهو يمط بوزه مشاركا أخاه خليل - الذي لم يكن ينزع غليونه من فيه إلا حين يتكلم - في تعفير جو الصالة، ثم قال في عدم اكتراث: أذنا من طين وأذنا من عجين، هذا ما تعلمته من التجربة.
فقالت خديجة، مخاطبة ياسين بصوت مرتفع وشى بغيظها: لا دخل للتجربة في ذلك، التجربة بريئة وحياتك عندي. المسألة أن ربنا أعطاه طبعا مثل دندورمة عم بدر التركي، ولو تحركت مئذنة الحسين ما اهتزت له شعرة.
رفعت أمينة رأسها، فرمقت خديجة بنظرة عتاب وتحذير حتى ابتسمت الابنة، وخفضت عينيها فيما يشبه الحياء. وإذا بخليل شوكت يقول في فخار لطيف: هذا طبع آل شوكت، وهو طبع سلطاني. أليس كذلك؟
فقالت خديجة - بلهجة ذات مغزى - وهي تضحك لتخفف من وقع كلامها: من سوء حظي يا سي خليل أن والدتك لم تتطبع بهذا الطبع السلطاني.
فبادرتها أمينة قائلة وقد نفد صبرها: حماتك لا نظير لها في النساء، سيدة جليلة بكل معنى الكلمة.
Bog aan la aqoon