تمكن أخيرا أن يخرجه عن وقاره الأرستقراطي، فنطقت أساريره بالدهش وتساءل كالمنزعج: متى كان ذلك؟ لا أذكر أنني حضرت هذا الحديث. هل قيل أمام عايدة إنها تود أن تكون «فتاة أحلام» كل شاب؟
رمق كمال ما طرأ عليه من تغير بعين الظفر والارتياح، غير أنه أشفق من التمادي، فقال بحذر: لم يرد ذكر هذا بلفظه، ولكن بالمعنى الذي يؤدي إليه خلال حديث دار حول ولعها بالروايات الفرنسية، وإغراقها في الخيال.
استرد حسن هدوءه واتزانه، ولزم الصمت مليا كأنه يحاول أن يستجمع فكره الذي نجح كمال في تشتيته إلى حين، وبدا كالمتردد لحظات حتى شعر كمال بأنه يود أن يعرف كل شيء عن الحديث الذي دار بينه وبين عايدة وحسين، متى وقع؟ ماذا جعلهم يطرقون هذه الشئون الحساسة؟ وما تفصيل ما قيل فيه؟ لولا أن كبرياءه كان يمنعه من السؤال، وأخيرا قال: ها أنت نفسك تشهد لصدق رأيي، ولكن من سوء الحظ أن كثيرين لم يفهموا سلوك عايدة كما فهمته أنت، فلم يفطنوا إلى حقيقة هامة، وهي أنها تحب حب الشخص لها لا الشخص نفسه.
لو اطلع الأحمق على الواقع ما تجشم كل هذا التعب الضائع، ألا يعلم بأنني لا أطمع حتى في أن تحب حبي؟ انظر إلى رأسي وأنفي وانعم بالا. قال بصوت لم يخل من تهكم: تحب حب الشخص لها لا الشخص نفسه! يا لها من فلسفة! - هي حقيقة أنا بها عليم. - ولكنك لا تستطيع أن تضمن صدقها في جميع الأحوال؟ - بلى أستطيع وأنا مغمض العينين.
غالب كمال حزنه وهو يتساءل متظاهرا بالدهش: أتستطيع أن تؤكد عن يقين أنها لا تحب هذا الشخص أو ذاك؟
فقال حسن بثقة واطمئنان: أستطيع أن أؤكد أنها لم تحب أحدا ممن يتوهمون أحيانا أنها تحبهم.
اثنان يحق لهما أن يتكلما بهذه الثقة: المؤمن والأحمق، وهو ليس بالأحمق، ترى لم يتحرك الألم ولا جديد فيما سمعت؟ الحق أني تألمت اليوم تألم عام من أعوام الحب. - ولكنك لا تستطيع أن تؤكد أنها لا تحب إطلاقا؟ - لم أقل هذا.
فرمقه بالعين التي يتطلع بها الإنسان إلى العراف، ثم سأله: أتدري إذن أنها تحب؟
فحنى رأسه بالإيجاب، وقال: إنما دعوتك إلى المشي لأحدثك عن هذا.
غاص قلبه في أعماق صدره كأنما يحاول الفرار من الألم، ولكنه غرق في عباب الألم، كان قبل ذلك يتألم لأنها لا يمكن أن تحبه، ها هو معذبه يؤكد له أنها تحب ... إن المعبودة تحب! ... إن قلبها الملائكي يخضع لنواميس الشوق، والحنين، والرغبة، واللهفة الموجهة جميعا إلى شخص معين! أجل، كان عقله - لا شعوره - يسلم أحيانا بإمكان ذلك، ولكن كما يسلم بالموت كفكرة مجردة لا كحقيقة باردة ناشبة في جسد عزيز أو في جسده هو بالذات، لذلك فاجأه الخبر كأنه يتحقق لأول مرة في الوجود والفكر معا، تأمل هذه الحقائق جميعا، واعترف بأن ثمة آلاما في هذه الدنيا لم تخطر لك على بال رغم خبرتك العميقة بالألم، استطرد حسن قائلا: قلت لك من بادئ الأمر إن لدي من الأسباب ما يبرر هذا الحديث معك، وإلا ما سمحت لنفسي بالتدخل في خاص شئونك.
Bog aan la aqoon