فرارا من الألم أو ضنا بالسعادة تراءى الموت أمنية. قال كالساخر: شيء مؤسف حقا. - ألم تكن تعرف هذا؟ يبدو أنك لم تجرب الغرام بعد.
من لحظات الحياة الحية لحظة يقوم البكاء فيها مقام البنج في العملية الجراحية. وعاد حسين يقول: المهم عندي ألا تنسى أن تحجز لي مكانا أيضا في كتابك ولو كنت بعيدا عن الوطن.
حدجه كمال بنظرة طويلة، ثم سأله: ألا تزال تراودك فكرة السفر؟
فانساب الجد في لهجة حسين شداد، وهو يقول: كل ساعة، أريد أن أحيا، أريد أن أسيح على وجهي طولا وعرضا وارتفاعا وعمقا، ثم ليأت الموت بعد ذلك.
وإن جاء قبل ذلك؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟ ما للحزن يكاد أن يقتلك؟ أنسيت فهمي؟ الحياة لا تقاس بالطول والعرض دائما، كانت حياتك لمحة ولكنها كانت كاملة، أو فما جدوى الفضيلة والخلود؟ لكنك حزين لسبب آخر، كأنما عز عليك أن يهون فراقك على الصديق المتشوق إلى السفر، كيف تكون دنياك من بعده؟ كيف تكون إذا حال رحيله بينك وبين قصر الحبيب؟ ما أكذب ابتسامة اليوم، إنها الآن قريبة صوتها في أذنك وعبيرها في أنفك، فهل تستطيع أن توقف عجلة الزمن؟ هل تعيش بقية العمر حائما من بعيد حول القصر كالمجانين. - إن أردت رأيي فأجل سفرك حتى تتم دراستك.
فقالت عايدة بحماس: هذا ما قاله له بابا مرارا. - هو الرأي الصواب.
فتساءل حسين متهكما: أمن الضروري أن أحفظ المدني والروماني كي أتذوق جمال دنياي؟
عادت عايدة تخاطب كمال قائلة: شد ما يسخر أبي من أحلامه، إنه يتمنى أن يراه قضائيا أو عاملا معه في دنيا المال. - القضاء ... المال! لن أكون قضائيا، حتى إذا نلت الليسانس، وفكرت جديا في اختيار وظيفة فسيكون السلك السياسي وجهتي، أما المال فهل تطمعون في مزيد منه؟ إننا أغنى مما يطيق الإنسان.
ما أعجب أن تكون ثروة الإنسان أعظم مما يطيق؟! قديما تخيلت أن تكون تاجرا كأبيك وأن تملك خزانة كخزانته، لم تعد الثروة من أحلامك، ولكن ألا تتمنى أن تكون قادرا على تجريد نفسك للمغامرات الروحية؟ ما أتعس حياة تستغرقها مطالب الرزق! - إن أسرتي جميعا لا تفهم آمالي، يرونني طفلا مدللا، قال خالي مرة متهكما على مسمع مني: «لا ينتظر أن يكون الذكر الوحيد في الأسرة خيرا من هذا!» لم هذا كله؟ لأني لا أعبد المال؛ ولأنني أوثر الحياة عليه، أرأيت؟ إن أسرتنا تؤمن بأن أي نشاط لا يؤدي إلى زيادة في الثروة ضرب من العبث الباطل، وتراهم يحلمون بالألقاب كأنها الفردوس المفقود، أتدري لم يحبون الخديو؟ طالما قالت لي ماما: «لو بقي أفندينا على العرش لنال أبوك الباشوية من زمن بعيد.» والمال العزيز يهون وينفق بلا حساب في استقبال أمير إذا شرفنا بزيارته ... (ثم وهو يضحك) ... لا تنس أن تسجل هذه الغرائب إذا فرغت يوما لتأليف الكتاب الذي اقترحته عليك.
لم يكد يفرغ من حديثه حتى بادرت عايدة تخاطب كمال قائلة: أرجو ألا تتأثر في تأليفك بتحامل هذا الأخ العاق حتى لا تظلم أسرتنا.
Bog aan la aqoon