أما بيت السيد وبيت السكرية، بل وبيت قصر الشوق فقد زلزلوا زلزالا شديدا، يا للفضيحة! ... هكذا هتفت ألسنتهم، وغضب السيد أحمد غضبا أرعب آل بيته فتجنبوا مخاطبته أياما متتابعات، أليس من حق بيومي الشربتلي أن يدعي قرابته من الآن فصاعدا؟ ملعون ياسين وملعونة شهواته، بيومي الشربتلي أصبح «عمه»، وأنف الجميع في الرغام، وصاحت خديجة عندما تلقت النبأ: «يا خبر أسود!» ثم قالت لعائشة: «من ذا يلوم نينة بعد الآن؟ إن قلبها لا يكذبها أبدا!» وأقسم ياسين - بين يدي أبيه - على أن الأمر وقع على غير علم منه ولا من زوجه، وأنه أحزنها حزنا فاق كل تصور، ولكن ما حيلتها؟ ولم تقف الفضيحة عند هذا الحد، فإنه ما كادت زوجة بيومي الأولى تعلم بالخبر حتى طاش عقلها، فغادرت بيتها كالمجنونة سائقة أمامها ذريتها جميعا، ثم انقضت على بيومي في دكانه، فنشب بينهما عراك عنيف استعمل فيه اللسان، واليد، والقدم، والزعق، والصراخ على مرأى ومسمع من الأطفال الذين جعلوا يعولون ويستنجدون بالمارة حتى تجمهر الناس أمام الدكان السابلة، وأصحاب الدكاكين والنساء والأطفال، فخلصوا بين الزوجين، وجروا المرأة جرا إلى الطريق، فوقفت تحت مشربية بهيجة مشقوقة الجلباب، ممزقة الملاءة، منفوشة الشعر دامية الأنف، ثم رفعت رأسها إلى النوافذ المغلقة، وأطلقت لسانها كالسوط المحملة أطرافه بالرصاص المنقوع في السم. والأدهى من هذا كله أنها برحت موقفها رأسا إلى دكان السيد أحمد بصفته والد زوج بنت زوجها، وتوسلت إليه بلهجة خطابية باكية أن يستعمل نفوذه لإقناع زوجها في الرجوع عن غيه، فاستمع السيد إليها وهو يكظم غيظه وحزنه على ما آل إليه أمره، ثم أفهمها برقة - ما استطاع - أن هذا الأمر كله خارج عن دائرة نفوذه بخلاف ما تتصور، وما زال بها حتى صرفها عن الدكان وهو يغلي من الحنق، على أنه رغم حنقه فكر طويلا وهو بين الحيرة والتساؤل فيما دفع بهيجة إلى هذا الزواج الغريب، خاصة وهو يعلم علم اليقين أنه لم يكن يعز عليها إرضاء قلبها لو كان به رغبة إلى بيومي الشربتلي دون حاجة إلى تعريض نفسها وآلها لشتى القلاقل بالاقتران منه. لم أقدمت على هذه الحماقة؟ غير مبالية بزوج الرجل وعياله، ولا عابئة بعواطف ابنتها وآلها الجدد كأنما قد أصابها مس، ألا يكون الإحساس المحزن بالكبر هو الذي جعلها تفزع إلى الزواج! بل والتضحية بكثير مما تملك جريا وراء سعادة كان يضمنها لها الشباب الذي تخلى عنها؟ تأمل هذه الفكرة في حزن واكتئاب، وذكر مذلته بين يدي زنوبة العوادة التي أبت أن تجود عليه بنظرة عطف حتى حملها إلى العوامة، تلك المذلة التي زعزعت ثقته بنفسه وحملته - على طمأنينته الظاهرة - على التجهم للزمان الذي سبق فتجهمه.
على أي حال لم تتمتع بهيجة بزواجها طويلا.
مع نهاية الأسبوع الثالث منه شكت دملا في ساقها، ثم تبين بالكشف الطبي أنها مصابة بمرض السكر فنقلت إلى قصر العيني، وترامت الأخبار عن خطورة حالها أياما ، ثم وافاها الأجل المحتوم.
17
أمام سراي آل شداد وقف كمال متأبطا حقيبة صغيرة، في بدلة رمادية أنيقة، وحذاء أسود لامع، وقد استقام طربوشه فوق رأسه الكبير ... بدا طويلا ونحيفا، وبرز عنقه من فوق بنيقة القميص غير عابئ بحمل الرأس الكبير والأنف العظيم. وكان الجو لطيفا تتخلله نسائم باردة تؤذن باقتراب ديسمبر، وكان في السماء سحاب متفرق ناصع البياض، يتحرك وانيا فيحجب شمس الصباح حينا بعد حين. وقف كمال وقفة المنتظر وعيناه متجهتان نحو الجراج، حتى خرجت منه الفيات يسوقها حسين شداد ثم دارت في شارع السرايات ووقفت أمامه، وأخرج حسين شداد رأسه من نافذتها وهو يسأل كمال: ألم يجيئا بعد؟
نفخ في البوق ثلاثا، ثم عاد يقول وهو يفتح الباب: تعال اجلس إلى جانبي.
ولكن كمال اكتفى بإدخال الحقيبة وهو يغمغم: «صبرا!» وترامى إليه صوت بدور من ناحية الحديقة، فالتفت صوبه فرآها مقبلة تركض وفي أثرها عايدة ... أجل، المعبودة، تخطر بقوامها البديع في فستان سنجابي قصير على أحدث موضة، توارى أعلاه تحت دراعة من الحرير كحلية اللون كشفت عن ساعديها الخمريتين الصافيتين، وكانت هالة شعرها الأسود تحدق بقذالتها وعارضيها، وتنوس بحركة مشيتها نوسانا تموجيا، أما أسلاك قصتها الحريرية فاستكنت على الجبين كأسنان المشط، وفي وسط هذه الهالة بدا الوجه البدري في طابع من الحسن أنيق ملائكي كأنه سفير سام لدولة الأحلام السعيدة. تسمر في موضعه تحت تأثير التيار المغناطيسي، على حال بين اليقظة والنوم، ولم يبق من الدنيا في وعيه إلا عاطفة امتنان وجيشة وجدان، وجعلت هي تقترب في خفة وتبختر كأنها نغمة حلوة مجسمة حتى سطعه من أعطافها عبير باريسي، ولما التقت الأعين لمعت في ناظريها وشفتيها المضمومتين ابتسامة موسومة بالبشاشة والهدوء والأرستقراطية معا، فرد عليها كمال بابتسامة حائرة وسجدة من رأسه. عند ذاك خاطبها حسين قائلا: اجلسي أنت وبدور في المقعد الخلفي.
تأخر كمال خطوة ففتح باب السيارة الخلفي، ووقف منتصب القامة كأحد الحاشية، فكانت مكافأته ابتسامة وكلمة شكر بالفرنسية، وانتظر حتى دخلت بدور فالمعبودة، ثم أغلقه واندس إلى جانب حسين. ونفخ حسين مرة أخرى وهو ينظر صوب القصر، فما لبث أن جاء البواب حاملا سلة صغيرة فوضعها لصق حقيبة كمال فيما بينه وبين حسين، فقال الأخير ضاحكا وهو ينقر بأصبعه على السلة والحقيبة: ما جدوى رحلة بلا طعام؟
وزمجرت السيارة وهي تتحرك، ثم انطلقت إلى شارع العباسية وحسين شداد يقول مخاطبا كمال: عرفت عنك أشياء كثيرة، اليوم يتاح لي أن أضيف إليها معلومات جديدة عن معدتك، ويبدو لي أنك رغم نحافتك أكول، فهل تراني مخطئا؟
فقال كمال باسما، وكان سعيدا منشرحا فوق مطمح البشر: انتظر حتى تعرف بنفسك.
Bog aan la aqoon