ويبدأ العلامة كريسي كتابه النفيس ببيان الضعف البالغ في تعليل الحياة على الأرض بمحض المصادفة فيقول في مفتتح الفصل الأول:
خذ عشرة بنسات كلا منها على حدة وضع عليها أرقاما مسلسلة من واحد إلى عشرة، ثم ضعها في جيبك وهزها هزا شديدا ثم حاول أن تسحبها من جيبك حسب ترتيبها من واحد إلى عشرة، إن فرصة سحب البنس رقم واحد هي بنسبة واحد إلى عشرة، وفرصة سحب رقم واحد ورقم اثنين متتابعين هي بنسبة واحد إلى مائة، وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام 1 و2 و3 متتالية هي بنسبة واحد إلى ألف، وفرصة سحب 1 و2 و3 و4 متوالية هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول من واحد إلى عشرة هي بنسبة واحد إلى عشرة بلايين، والغرض من هذا المثل البسيط هو أن نبين لك كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد المصادفة، ولا بد للحياة فوق أرضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال - حسابيا - أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت، لذلك لا بد أن يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد، وإذا كان هذه صحيحا فلا بد أن يكون هناك هدف.
وبعض علماء الفلك يقولون لنا: إن مصادفة مرور نجمين متقاربين لدرجة تكفي لأحداث مد خفاق هدام هي في نطاق الملايين، وإن مصادفة التصادم نادرة لدرجة وراء الحسبان، ومع ذلك تقول إحدى نظريات الفلك: إنه في وقت ما - ولنقل منذ بليوني سنة مضت - قد مر نجم بالفعل قريبا من شمسنا لدرجة كانت كافية لأن تحدث أمدادا مروعة، ولأن تقذف في الفضاء تلك الكواكب السيارة التي تبدو لنا هائلة ولكنها ضئيلة الأهمية من الوجهة الفلكية، ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت تلك الحزمة من الكون التي نسميها بالكرة الأرضية، إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك، ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم نعرفه حتى الآن، ويجب أن نفرض أن الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس لا في أي كوكب آخر، هذه العناصر مقسمة على الكرة الأرضية بنسب مئوية معينة، قد أمكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح، وقد حولت جملة الكرة الأرضية إلى أقسام دائمة، وحدد حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية، ودورانها على محورها قد حدد بالضبط لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية، ويصحب الكرة الأرضية كوكب نسميه بالقمر، وحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل ثماني عشرة سنة، ولو أن حجم الكرة الأرضية كان أكبر مما هو أو أصغر، أو لو أن سرعتها كانت مختلفة عما هي عليه لكانت أبعد أو أقرب من الشمس مما هي، ولكانت هذه الحالة ذات أثر هائل في الحياة من كل نوع بما فيها حياة الإنسان، وكان هذا الأثر يبلغ من القوة بحيث إن الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك إلى درجة ملحوظة لما أمكن وجود الحياة فوقها، ومن بين كل الكواكب السيارة نجد أن الكرة الأرضية فيما نعلم الآن هي الكوكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سببا في جعل نوع حياتنا ممكنا.
أما عطارد، فإنه بناء على القوانين الفلكية لا يدير إلا وجهة واحدة منه نحو الشمس ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس، وبناء على ذلك لا بد أن جانبا من عطارد هو أتون صحراوا والجانب الآخر متجمد، وكثافته وجاذبيته هما من القلة بحيث إن كل آثار للهواء فيه لا بد أن تكون قد تسللت، وإذا كان قد بقي فيه أي هواء فلا بد أن يكون في شكل رياح هوجاء تجتاح هذا الكوكب من جانب إلى آخر.
أما كوكب الزهرة، فهو لغز من الألغاز به بخار سميك يحل محل الهواء، وقد ثبت أنه لا يمكن أن يعيش فيه أي كائن حي. وأما المريخ، فهو الاستثناء الوحيد، وقد تقوم فيه حياة كحياتنا سواء في بدايتها أو تكون على شفا الانتهاء، ولكن الحياة في المريخ لا بد أن تعتمد على غازات أخرى غير الأكسجين، وعلى الخصوص الهيدروجين، إذ يبدو أن هذين قد أفلتا منه ولا يمكن أن توجد مياه في المريخ، ومعدل درجة الحرارة فيه أقل كثيرا من أن تسمح بنمو النبات كما نعرفه ...
وتدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة، ولم لا؟ عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هما الآن عشر مرات، وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار أو في الليل قد يتجمد كل نبات في الأرض، إن الشمس التي هي مصدر كل حياة تبلغ درجة حرارة مسطحها اثني عشر ألف درجة «فارنهيت» وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه النار الهائلة بالدفء الكافي لا بأكثر منه، وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو أن درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة لمات كل نبت، ومات معه الإنسان حرقا أو تجمدا. والكرة الأرضية تدور حول الشمس بمعدل ثمانية عشر ميلا في الثانية، ولو أن معدل دورانها كان مثلا ستة أميال أو أربعين ميلا في الثانية لكان بعدنا عن الشمس أو قربنا منها بحيث يمتنع معه نوع حياتنا ... إلخ.
4
ثم عرض العلامة كريسي لمشاهدات أخرى مستمدة من سائر العلوم الطبيعية يتعسر تفسيرها بمحض المصادفة غير المقصودة وتوحي إلى الذهن صدق الإيمان بالخلق والتدبير، وأولها في علم الحياة تلك الجرثومة الحية التي تنبعث بقوة لا وزن لها ولا كثافة ولا امتداد فتغالب الطبيعة وتشق الصخر وتفرض على العناصر أن تنحل لتعيد تركيبها، وتحول الماء والحمض الكربوني إلى ماء وخشب وتجعل الخلية الحية «البروتبلاسمية»، وهي أشبه بنطفة من ضباب قادرة على بث الحياة في كل جسم يتقبلها، وهي بذلك ذات قدرة أكبر من قدرة النبات والحيوان لم تخلقها الطبيعة؛ لأن قدرتها هذه لا تنبت من غيرها، ولم يكن في وسع الصخر الذي صهرته النار ولا الماء الذي لا ملح فيه أن يهيئ لها أسبابها فما الذي هيأ لها هذه الأسباب؟
ويضرب الأستاذ أمثلة من علم الحيوان لا تفسرها المصادفة، ولا تكفي كلمة الغريزة لتفسيرها؛ لأنها ليست أكثر من كلمة ترمز إلى الصورة الواقعة، ومن ذلك غريزة سمك السلمون الذي يعيش في البحر زمنا ثم يرجع إلى مكانه من النهر الذي خرج منه وينفلت من كل جدول من الماء ينقل إليه غير الجدول الذي ولد فيه، ومثله ثعبان الماء الذي يخرج من الأنهار عند نضجه، ويتجه إلى البحر المحيط عند جزائر معلومة يضع ذريته في شواطئها، ثم يموت فتعود هذه الذرية إلى مواضع الماء العذب التي نزح منها آباؤها، ولم يحدث قط أن ثعبانا منها يصاد في أوروبة إذا كان موطنه الأول في الأمواه الأمريكية أو يصاد في أمريكا إذا كان موطنه الأول في أمواه القارة الأوروبية.
ويذكر الأستاذ من تلك المشاهدات عوامل الوراثة في الناسلات والصبغيات، فإن هذه الناسلات والصبغيات التي يتولد منها نوع الإنسان كله توضع في جوزة صغيرة، ومنها تنبت جميع الخصائص الموزعة في الذكور والإناث من جميع بني الإنسان، فكيف تكمن عوامل الوراثة كلها في ذلك الحيز الصغير لتحفظ لكل فرد من الناس أخفى ما استدق من صفاته ووظائف حياته وتركيب أعضائه وخلاياه على ما فيها من ودائع لا يدركها الإحصاء؟
Bog aan la aqoon