مقدمة
الباب الأول: عرض وبيان
1 - الطعام والطاقة
2 - التعليم
3 - الفضاء
4 - حكم العالم
5 - إلى مليون سنة
6 - تعقيب وتمهيد
الباب الثاني: تعقيب ومراجعة
1 - التاريخ
Bog aan la aqoon
2 - غاية النوع
3 - الآلة
4 - خواص المادة والنظرة «المادية»
5 - الإيمان
6 - العوالم الأخرى
7 - عالمنا
8 - أفريقيا وآسيا
9 - المجتمع
10 - الأسرة والمرأة
11 - الفن والعلم
Bog aan la aqoon
12 - خاتمة في سطور
مقدمة
الباب الأول: عرض وبيان
1 - الطعام والطاقة
2 - التعليم
3 - الفضاء
4 - حكم العالم
5 - إلى مليون سنة
6 - تعقيب وتمهيد
الباب الثاني: تعقيب ومراجعة
Bog aan la aqoon
1 - التاريخ
2 - غاية النوع
3 - الآلة
4 - خواص المادة والنظرة «المادية»
5 - الإيمان
6 - العوالم الأخرى
7 - عالمنا
8 - أفريقيا وآسيا
9 - المجتمع
10 - الأسرة والمرأة
Bog aan la aqoon
11 - الفن والعلم
12 - خاتمة في سطور
القرن العشرون
القرن العشرون
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
اقتربت مطالع القرن العشرين، وأبناء القرن التاسع عشر يحسبون أنهم مقتربون من عصر خامل إلى عصر يشبهه في خموله، وكانوا قد عبروا الأعوام العشرة الأخيرة من القرن وهم يمرون بها مرور الملل وقلة الاكتراث؛ ركود لا يستغربونه؛ لأنهم أطلقوا عليه كلمة: «آخر القرن
Fin de Siècle »، كما نقول نحن في اللغة العربية: «آخر زمن»، ونفسر به كل فعل منتظر على غراره ومن معدنه؛ معدن الإسفاف والابتذال، فلا اكتراث له ولا غرابة فيه؛ لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، كما يقال ويعاد.
وليس أدل على جهل الناس بغدهم القريب من هذه الغفلة في نهاية القرن التاسع عشر عن ضخامة القرن العشرين بين قرون التاريخ القديم والحديث منذ عرف التاريخ، فلم يكد هذا القرن ينتصف، حتى التفت العالم من جميع أركانه وأقطاره إلى هذا القرن الذي خيل إليه أنه بقية العكارة من أعقاب التاريخ الأخير، فإذا هو عصر العصور في حوادثه، وفي مكتشفاته ومخترعاته، وفيما يتوقع بعده من جلائل الآمال. نعم، وجلائل الأهوال.
Bog aan la aqoon
حربان عالميتان من عشرته الثانية إلى عشرته الرابعة، واقتحام للفضاء، وفتح للقمقم عن مارد الطبيعة الأكبر، وهو القمقم الذي يحتويه أصغر ما فيها من ذرات لا تدركها الأبصار.
هل تعجل الإنسانية إلى النصر على الطبيعة، أو تعجل إلى الدمار على يدي الإنسان بما كشفه من أسرارها؟ وهل اقترب الإنسان حقا من الحرب التي تختم الحروب، فلا حرب بعدها ولا محاربون، أم هو يقترب شيئا فشيئا من يوم النصر على الطبيعة، وعلى ما في طبيعته هو من بوائق الشر والدمار؟
وذهبت السكرة وجاءت الفكرة؛ ذهبت نشوة الفتح والانتصار على المارد المكنون في ذرات المادة، وانجلت المفاجأة عن حساب طويل لهذا الفتح المبين، بل حساب عسير.
ماذا في وسع العلم أن يهب لنا من علانيته وسره؟ ماذا عنده من الوعد، وماذا عنده من الوفاء؟ وماذا فيه من الخير المأمول؟ بل ماذا في الخير المأمول من محذور يتستر وراءه النفع المنظور؟
إن غلبة الإنسان على الطبيعة سوف تؤتيه الغلبة على السقم والوباء، وسوف يزداد الناس ببركة العلم، فماذا عند العلم لهؤلاء الناس من الأزواد، ومن الشواغل والأعمال؟ أعنده الكفاية لهم من القوت والمأوى، أم هو مرسلهم إلى عالم يتغالبون عليه، ثم يلتمسون الغلب بذلك السلاح الجديد؛ ذلك السلاح المبيد؟
وعاد الباحثون إلى نذير «مالثوس» يدرسونه وينقدونه، وينقصون منه أو يزيدون عليه، فوضح لهم أن نذير الأمس قد أصاب في كل شيء، إلا فيما اعتمد عليه من معلومات وأسانيد، ولم يخطئ حين أنذر بالخطر من زيادة الأحياء على الكفاية في الأرض من الطعام، ولعله قد ذكر بعض المخاوف، ونسي بعضها الذي توارى عنه، فلم يبلغ في زمنه مبلغ الخطر الملموس، وهو زيادة الآلات والأدوات على ما يلزمها من غذائها المدخر في الأرض، وهو مناجم الوقود.
ولجأ الباحثون إلى نبوءاتهم يستخبرونها عن الغد المخبوء قبل نهاية القرن العشرين، ولكنها نبوءات تتسم بطابع القرن، وصبغة العلم والصناعة، كأنها نبوءة المتحدث عن سيار في السماء أو في الأرض، يعرف مداره، ويعرف كم يدور.
نبوءات أقرب إلى التقديرات والإحصاءات، ليست من نبوءات الطوبى، ولا من نبوءات الأحلام، ولا من نبوءات العصور الذهبية، ولكنها أشبه بأرصاد الفلك، لو لم يكن فيها شيء من الغيب المجهول قد يخطئ فيه الحساب.
ماذا عند هذا العصر - عصر الصناعة - من وعود؟ وماذا من هذه الوعود حقيق أن يتبعه الوفاء؟ وماذا يحول دون وفائه بوعوده مما يقع في الحساب، ومما يقع وراء كل حساب؟
هذه هي الأسئلة التي تدور على جوابها فصول هذا الكتاب، ونرجو أن نوفق للإجابة عنها غاية ما تلهمنا ظواهر الأمور، وغاية ما نهتدي إليه بهداية تلك الظواهر، وهداية الأمل المصدوق.
Bog aan la aqoon
وسنحاول أن نجيب عنه جوابين متلاحقين لا متقابلين ولا متناقضين، يضيف أحدهما إلى الآخر، ولا يزحزحه عن مكانه ليلغيه، أو يطغى عليه.
فمن حيث انتهى بالقرن العشرين تطوره الصناعي يبتدئ النظر إلى ما يليه من الممكنات، وما يعترض تلك الممكنات من العوائق والعراقيل، وهذا هو الشطر الأول من الكتاب الذي نعول فيه على خبراء الصناعة؛ حيث بلغت الصناعة غايتها، واستعدت للمضي في تقدمها إلى ما بعد تلك الغاية، في حدود القرن العشرين وفيما يليه، وسننقل في هذا القسم خلاصة كافية للمشكلة التي أحدثتها الصناعة، والمشكلة التي تعالجها الصناعة، ومدارها على تقدير سعة الأرض من المؤونة ومن السكان، وعلى ما يشتبك بذلك من قضايا السلام، وقضايا السلاح، وبخاصة في القرن العشرين.
وننتقل بعد العرض الموجز لتقديرات الخبراء إلى الشطر الثاني من الكتاب: شطر التعقيب والمراجعة فنأخذ فيه بحق العلم الذي تحراه أولئك الخبراء الثقات، ونضيف إليه واجب العلم الذي لا يسقط عنه، ولا يخليه منه الحفاظ على حقه.
فمن واجب العلم أن يفرض وأن يستكشف، وأن يجمع بين أشتات اليقين كلما وسعه أن يجمعها إلى فكرة مقبولة تهدي إلى مزيد من اليقين، ومن واجبه أن يفتح أبواب الاحتمال فلا يغلق منها بابا يفضي إلى المجهول، ويربط بين الماضي والمستقبل بسبب موصول، وعلى أضواء هذا الواجب العلمي ننظر إلى مشكلات الإنسانية، وإلى أكبرها في القرن العشرين مشكلة الصناعة، لنقابل بين ماضيها وحاضرها، ونحاول أن نضعها في مكانها من تاريخ الإنسان، هل هي فلتات مبعثرة في غياهب من الفوضى، وأخلاط من الطوارئ والمصادفات، أو هي سلسلة متلاحقة تتبعها - أو تتبع المعلوم من حلقاتها - فنفهمها على اتصال بين ماضيها وحاضرها، ثم نفهمها على اتصال بين حاضرها وما يليه من لواحق الغد المنظور؟
والذي نفرضه - على أساس الفرض العلمي - أن المقابلة بين مشكلات الإنسانية ، وبين أدوار الصناعة في تاريخها تسفر عن معنى يفهم، ولا تتيه بالذهن في فراغ مبهم خلو من كل معنى مجرد من كل نسق، فمشكلات الإنسانية جزء من معالم الطريق لم ينفصل عن فتوحها، وأطوار انتصارها وارتقائها، والصناعة - منذ وجدت الآلة البدائية - هي السمة الأولى التي غيرت بين ملامح الحيوان الأعجم وملامح الحيوان الناطق منذ أقدم الأزمان، وعلى هذه الصورة لا ينقطع المستقبل، ولا تزال الصورة آخذة في التمام على استقامة واطراد، وإن تخللتها الفجوات والظلال.
ودعوانا التي نؤكدها ولا نتردد في توكيدها أن نظرة التفاؤل والرجاء إلى الغد قائمة على أسبابها التي توازن أسباب التشاؤم والقنوط، وإن القول بعبث التاريخ أصعب دليلا من القول بمعنى التاريخ، وإننا نختار معناه على بصيرة بينة، دون معانيه التي يؤثرها المتشائمون القانطون، وبحسبنا منه أن يكون معنى واضح المدلول، أسبابه التي تعززه أوضح من الأسباب التي تنفيه.
الباب الأول
عرض وبيان
المحتويات
يشتمل هذا الشطر من الكتاب - وهو الباب الأول منه - على الفصول الآتية: (1)
Bog aan la aqoon
فصل عن الطعام والطاقة في العالم، ملخص من كتاب «مائة السنة التالية، موارد الإنسان الطبيعية والصناعية»، تأليف هاريسون براون، وجيمس بونر، وجون وير من أعضاء مؤسسة كليفورنيا للمباحث الفنية:
The Next Hundred Years by Harrison Brown، James Bonner. John weir ...
California Institute of Technology. (2)
فصل عن التعليم، ملخص من الكتاب المتقدم، وبعض المراجع. (3)
فصل عن الفضاء منظور فيه إلى مراجعه المذكورة فيه. (4)
فصل عن حكم العالم منظور فيه إلى كتاب برتراند رسل «آمال جديدة»، وكتاب هانزكون عن القرن العشرين. (5)
فصل عن العالم إلى مليون سنة، ملخص من كتاب مليون السنة التالية، تأليف شارلز جالتون داروين. (6)
بين تعقيب وتمهيد.
الفصل الأول
الطعام والطاقة
Bog aan la aqoon
طعام الإنسان يؤخذ مباشرة أو بالواسطة من النبات، وهو ذو خاصة تمكنه من تحويل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى المركبات الكيمية الضرورية لتغذية الإنسان، ونحن نأكل بعض النبات كالحبوب والخضر مباشرة، ونأكل بعضه بعد تحوله إلى اللحم واللبن والبيض في الحيوانات المدجنة، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: «كل لحم نبات.»
ولا بد للفرد الإنساني - ليعيش عيشة صحيحة عاملة - من ثلاثة آلاف سعر حرارة في اليوم، وعليه إذن أن يستنفد كل يوم ما يساوي نحو رطل وثمانية أعشار الرطل من النبات يحتوي سبعة أعشار الرطل من الكربون، وهو داخل على أشكال كثيرة في التركيبات التي يتكون منها النبات. فلا بد للفرد الإنساني إذن من مائتين وستين رطلا من الكربون كل سنة، ويتحول على ظهر الأرض في كل سنة نحو مائة وخمسين بليون طن كربون من ثاني أكسيد الكربون إلى مادة نباتية، وهو مقدار إذا استنفده الناس وخلصت فائدته كله للتغذية كان كافيا لتموين عدد من السكان يساوي خمسمائة ضعف الموجودين على الأرض في الوقت الحاضر، ولكن مصدره من ضوء الشمس يذهب كثير منه - لسوء الحظ - إلى ماء البحر، ولا ينتفع به الإنسان في طعامه، ولو بقي ما يقع على اليابسة من مصدره الشمسي وقفا على الغذاء لكان كافيا لعدد من الناس يساوي خمسين مثلا من سكان الأرض الموجودين، إذ كان من عادات الإنسان في التغذية أن يقصر طعامه على النبات المزروع، والحيوان الذي يتغذى وبه، ولا يستنفد هذا ولا ذاك أكثر من ربع مصادر الغذاء الضوئية التي تنصب على سطح الكرة الأرضية، على أن هذا القسط - لو خلص أيضا للتغذية - لكان كافيا لعشرة أمثال سكانها.
فمحصول الأرض الزراعية لا يكفينا الآن لما يصاب به من ألوان النقص في نظام تدبيرنا للأطعمة، إذ يستخدم نصف المحصول على وجه التقريب في إطعام الحيوانات الداجنة، وإنما يأكل الحيوان جزءا من النبات، ويعطينا منه أغذية حيوانية كاللحم واللبن والبيض ونحوها مما يتألف منه عشر أسعار الحرارة، أي إننا نعطي الحيوان مائة سعر يستنفد تسعين منها، ويعطينا عشرة.
ويعرض للمحصول نقص آخر من أن الإنسان لا يأكل جميع النبات، بل يأخذ حبة القمح مثلا ويدع القشور والجذور، ويقدر ما يأكله بنحو عشرين في المائة من جملته، وليس الغذاء بعد هذا خالصا للإنسان والحيوان الداجن؛ لأن الأحياء الأخرى من الحشرات وجراثيم الأوبئة تلتهم نحو الثلث من محصول النبات الذي كان للإنسان أن يستأثر به لولا ذاك، ولهذه العوارض لا يبقى من محصول الأرض إلا ما يكاد يكفي سكانها الموجودين.
والعالم في الواقع يربى محصوله من المادة الغذائية الصالحة على الحاجة الضرورية، إذ هو ينتج مائة وخمسين طنا لكل فرد إنساني لا تزيد حاجته منها على ثلاثة أعشار الطن الواحد، فلولا تلك العوارض لكان لدينا وفر من الطعام.
ويجري توزيع الطعام على حسب المواقع الأرضية، فيبلغ على الأرض الآن بليونين وأربعة أعشار البليون من الأفدنة المزروعة، أي فدان على وجه التقريب لكل إنسان، ولكن سكان الأرض موزعون توزيعا سيئا على هذه المساحة، فيخص الساكن في الولايات المتحدة فدانان مزروعان، ويخص الساكن في كندا حيث تتسع الأرض، ويقل السكان ثلاثة أفدنة وستة أعشار الفدان لكل ساكن، على حين أن الساكن في اليابان لا تزيد حصته على خمسي فدان من الأرض المزروعة، ولا تزيد حصة الساكن في القارة الآسيوية على خمسي فدان، أما في أوروبا الغربية فحصة الإنسان الفرد أقل من فدان.
وتستخرج المحاصيل من الأرض الزراعية في العالم على أساليب متفاوتة في الإنتاج، فنحن في الولايات المتحدة نحصل يوميا على نحو أربعة آلاف سعر من مادة الغذاء من الفدان الواحد، وهو مقدار يزيد على إنتاج آسيا الذي يبلغ أربعة آلاف سعر مع الفرق بين تربة الشرق والجنوب الشرقي حيث تزيد الأولى على الثانية، وتحصل أوروبا الغربية بوسائلها المركزة على مقدار يتفاوت بين سبعة آلاف وثمانية آلاف، وأشد ما يكون تركيز الوسائل الزراعية في اليابان حيث يؤتي الفدان ثلاثة عشر ألف سعر، أي نحو ثلاثة أمثال ونصف المثل من متوسط إنتاج الفدان في العالم، وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة.
والأمريكي يطعم حيواناته معظم محصول أرضه من القمح والشوفان، ولا يستنفد طعام الإنسان منهما على حالتهما الطبيعية غير النزر القليل، إذ يأخذ الأمريكي نحو الثلث من أسعار غذائه من اللحم واللبن والبيض، وعلى خلاف ذلك الآسيوي الذي يأكل معظم نباتاته، ولا يزيد غذاؤه من المواد الحيوانية على خمسة في المائة، ويأتي الأوروبي وسطا بينهما، فيعطي الحيوانات ما يزيد على النصف بقليل، ويأخذ عشرين في المائة من أسعار الغذاء من المواد الحيوانية، وترتبط عادات التغذية بنسبة مساحة الأرض المزروعة، فلا يقدر السكان على ترف استخلاص الغذاء من الحيوان إلا حيث تزيد حصة الفرد الواحد من الأفدنة.
ولا يبدو أن الاختلاف في مقادير المحصول راجع إلى أسباب تتعلق بالخصب والإقليم، وإنما يرجع على الأرجح إلى درجة المعرفة الفنية ووفرة السكان، فنحن في الولايات المتحدة نعلم كل ما يعلمه اليابانيون من أساليب الزراعة، ولا نعنى مثل عنايتهم بتركيزها؛ لأن هذا التركيز لا تدعو إليه الضرورة بعد، مع زيادة حصة الفرد من الأفدنة، أما في آسيا - عدا اليابان - فالناس يجوعون، والحاجة تدعو إلى مضاعفة الإنتاج، ولكنهم لا يستخدمون وسائل التركيز لنقص المعرفة الفنية، وصعوبة الحصول على أدواتها التي يحصل عليها في أوروبا الغربية.
ويستعمل الأوروبي مقدارا من المخصبات يساوي أكثر من ضعف ما يستعمله الأمريكي، وما يستعمله الياباني يساوي ضعف ما يستعمله الأوروبي منها، وقلما تستعمل المخصبات في الهند لندرتها، وقلة ما يعلمه الفلاح الهندي عنها، ويقال مثل ذلك عن الخبرة بتحسين النبات على حساب وسائل إنمائه وتربيته ووقايته من الآفات والأوبئة؛ مما يجهله أبناء الأمم المتخلفة، وقد ساعد ارتقاء الآلات كما ساعد ارتقاء وسائل التربية والوقاية على توفير محاصيل النبات، ولكننا حريصون ألا نبالغ في جدوى الآلات فيما يتعلق بغلة الفدان، فإن أكبر ما تجديه الآلات أن تزيد المحصول بنسبة اليد العاملة، وتنقص ساعات العمل، فيخلو الوقت للاشتغال بأعمال الصناعة، وتلاحظ في الواقع علاقة وثيقة حيث تتقدم الصناعة بين نسبة التركيز وعدد الأيدي المتفرغة للزراعة. ففي اليابان التي تبلغ نسبة التركيز فيها أقصاها يستخدم نصف قوتها العاملة في إنتاج هذه النسبة، ويستخدم في أوروبا الغربية عدد يتراوح بين الربع والثلث، ولا يزيد عمال الزراعة في الولايات المتحدة على تسعة من كل مائة عامل، فلا غنى لتركيز وسائل الزرع من تركيز القوى العاملة.
Bog aan la aqoon
ويفهم من المقارنة أن المقصود هو أن يكون من المتيسر رفع نسبة الإنتاج في الأرض الصالحة للزراعة، وأن يتيسر ذلك بنشر المعرفة الفنية، ونشر أدواتها بين أبناء البلاد المتخلفة، وينبغي أن تتيسر المضاعفة - وأكثر من المضاعفة - برفع نسبة الإنتاج هناك إلى مثل نسبتها في بلاد أوروبا الغربية.
ولنسأل: ما مبلغ السرعة التي تترقبها نتيجة لنشر المعرفة الفنية، وأدواتها الفعالة؟ فعلينا لمواجهة هذا البحث أن نراجع مدى التقدم حيث تستخدم هذه الأدوات الآن، فاليابان بدأت فيها الثورة في أساليب الزراعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وظل عدد سكانها من قبل سنة 1870 ثابتا، كما ثبتت مثله مقادير إنتاج الأرز ومقادير إنتاج المواد الغذائية، ويمكن الرجوع إلى الإحصاءات منذ سنة 1878 إلى الآن، فمن عشرة السبعين ارتفع محصول الأرز ارتفاعا بطيئا مطردا حتى زاد على الضعف خلال فترة من خمسين إلى ستين سنة، وجاء ذلك نتيجة لزيادة غلة المحصول من كل فدان، تبعا لزيادة المخصبات، وزيادة العناية بتوليد النباتات، وقد قوبلت زيادة الغلات اليابانية خلال ربع القرن الأخير - من القرن التاسع عشر وربع القرن الأول من القرن العشرين - بما يوازنها في غلات أوروبا الغربية، فكانت نسبة الزيادة هنا وهناك بمقدار اثنين في المائة كل سنة تؤدي إلى ضعف المحصول بعد خمسين أو ستين سنة، مما يفهم منه أن زيادة الزراعة بطيئة بالقياس إلى زيادة الصناعة، إذ قد علمنا أن محصول الحديد والصلب في اليابان كان يتضاعف كل خمس سنوات خلال هذه الفترة، ولنلاحظ أن الإنتاج الزراعي يترقى من مستوى هابط إلى حده الأعلى، فلم تتغير النسبة إلا قليلا في اليابان منذ سنة 1935 على الرغم من جهود التركيز الفنية.
ففي الماضي إذن كانت زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة اثنين في المائة كل سنة، سواء في آسيا أو أوروبا الغربية، فهل ينتظر الوصول إلى نسبة أكبر من هذه النسبة في المستقبل بعد تقدم المعرفة الفنية، وتقدم وسائل النشر والتلقين؟ وجواب هذا السؤال أننا نعلم فعلا كيف نزيد مقدار الغذاء، وكيف نزيد سرعة إنتاجه، ولكن زيادة غير كبيرة، ففي الولايات المتحدة - مثلا - زاد الإنتاج الزراعي خلال العشرين سنة الأخيرة بنسبة اثنين في المائة كل سنة، بعد ما توافر لدينا من المعرفة بعلوم الحياة وعلوم الزراعة، ووسائل الإرشاد والمشورة، وتكاد نسبة الزيادة في الطعام - على هذا - تضارع نسبة الزيادة في عدد السكان، ومن المعلوم أن سكان الولايات المتحدة يحصلون على الكفاية من الغذاء، فلا تلح الحاجة بتعجيل النظر في مضاعفة المنتجات، فلنوجه النظر إذن إلى بلد معرض لنقص الأرزاق والثمرات.
لقد أفاد برنامج حسن التحضير من مؤسسة روكفلر في زيادة الإنتاج بأرض المكسيك بنسبة ثمانين في المائة خلال عشرين سنة، تعادل أربعة في المائة كل سنة، وقد ارتفعت نسبة الطعام بحساب الفرد الواحد ارتفاعا مناسبا مع تكاثر عدد السكان بنسبة ثلاثة في المائة كل سنة، وهذه الزيادة الملحوظة إنما تيسرت بتوسيع مساحة الأرض المزروعة نتيجة لتحسين الري وتعليم الزراعة، وشتى المباحث الفينة، وحصلت المكسيك في أثناء ذلك على معونة فنية من الولايات المتحدة ساعدت على إنجاز هذا التطور، ومنه نرى مبلغ ما نترقبه - حدا أقصى - للتقدم الزراعي على الأقل في حالة الافتقار إلى التطورات الاجتماعية. أما البلاد الآسيوية فقد كان التقدم فيها دون هذا في السرعة، ولم تتجاوز نسبته نسبة الزيادة في عدد السكان إلا بشيء يسير، ويصدق هذا حتى على بلاد كالهند بذلت فيها ولا تزال تبذل مجهودات قوية لتحسين أحوال التغذية، إذ يبلغ المال المخصص للزراعة في مشروع السنوات الخمس نحو خمس نفقات المشروع كله، فتقررت أعمال الري، وأنشئت معامل السماد، ونشرت دروس التعليم، وأدت هذه الجهود إلى زيادة نحو خمس عشرة في المائة، أي بمعدل ثلاثة في المائة كل سنة، ولا يزال نصيب أهل الهند من الغذاء مع هذا أقل مما كان قبل الحرب العالمية الثانية، إذ بقي إنتاج الطعام على حاله اثنتي عشرة سنة قبل الابتداء في مشروع السنوات الخمس على حين كان عدد السكان مستمرا في الزيادة.
وقد علم من جداول الإحصاء والمقابلة أن زيادة الإنتاج بوسائل الزراعة التقليدية لا تزال ترتفع حتى تنتهي إلى مستوى يصعب المزيد عليه. فمما يسوغ لنا الأمل في مضاعفة الغلات أن كثيرا من المساحات الزراعية في العالم لا تزال بحالتها الهابطة قابلة للمزيد من التحسين، فكم من الناس على ظهر الكرة الأرضية نستطيع أن نزودهم بالمئونة الكافية بعد الانتهاء إلى الحد الأقصى؟
بعد تذليل الصعوبات الإقليمية في مناطق الأرض المختلفة، يمكن تقدير المساحة التي يتم استصلاحها بنحو بليون فدان، تظهر فوائدها الكبرى في القارتين الأمريكتين؛ حيث تزداد المساحة بمقدار خمسين أو ستين في المائة، وأقل من ذلك فوائدها للقارة الآسيوية؛ حيث تقدر الزيادة بثلاثين في المائة، فإذا تم ارتفاع الإنتاج في هذه المساحات على النسبة المعهودة بالقارة الأوروبية، بلغ محصولها نحو ضعفي محصول الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، واحتاج إتمام العمل فيه إلى زمن يتراوح بين ثلاثين وخمسين سنة، وإلى مقدار من المال يبلغ نحو خمسمائة بليون دولار، تنفق لإقامة مراكز الإرشاد على جوانب الكرة الأرضية، وإنشاء معامل السماد ونشر التعليم، ويكفي المحصول - متى تمت جميع هذه المجهودات - لتموين عدد من السكان يتراوح بين أربعة بلايين أو خمسة، وهذا على اعتبار أن سكان آسيا يظلون في تغذيتهم مكتفين بنسبة قليلة من المواد الحيوانية، وأن سائر سكان العالم يظنون مكتفين بتمثيل عشرين في المائة من أسعار الحرارة في الأغذية الحيوانية، وهو مقدار مناسب ملائم للصحة، وإن لم يكن على أحسن ما يشتهى في ألوان الطعام.
ولكن ماذا ينتظر متى بلغت غلة الفدان في العالم ما يقارب غلته في أوروبا الغربية؟ هل لنا أن نأمل مزيدا من ارتفاع النسبة على أساس التجربة في اليابان؟ قد نجازف بجواب عن هذا السؤال، وننتظر مضاعفة النسبة بالاعتماد على مزيد من التركيز، واستخدام التجارب العلمية، والإكثار من جهود الأيدي العاملة، فإذا تأتى لنا بهذه الوسائل أن نرفع النسبة في ثلث المساحة المزروعة من الكرة الأرضية، وأن نبلغ بثلثيها ما يعادل النسبة الحاضرة في أوروبا الغربية أمكننا - نظريا - أن نزود بالمئونة عددا يتراوح بين سبعة بلايين وثمانية على معدل مناسب من التغذية الصالحة.
والخلاصة أن توفير الأزواد الغذائية مستطاع بالتوسع في تطبيق الأساليب الفنية، وأن مضاعفة الغلات الزراعية تتأتى بزيادة الري، وزيادة المخصبات، وزيادة المطهرات من الحشرات وجراثيم الآفات، وزيادة التحسين في أنواع النبات، وزيادة التركيز على المثال المتبع في اليابان. ونسبة هذه الزيادة في السنة بين اثنين وأربعة في المائة كل سنة، ينبغي أن تجري على وتيرة الزيادة في عدد سكان العالم، ومتى وصلنا إلى هذا المستوى في زمن يقدر بما بين خمس وسبعين سنة ومائة سنة يكون عدد السكان قد بلغ مستوى الاستقرار.
وكل هذا عن الأطعمة التقليدية ووسائل التحضير الشائعة في الري والزراعة.
غير أننا نستطيع أن نعالج بالكيمياء أجزاء من النبات تنبذ، ولا تؤكل من قبيل الخشب والهشيم. ومن الممكن أن تعالج هذه النفايات بالأحماض الحارة؛ فنجني منها شرابا عسليا بمقدار النصف من زنتها، ويكلفنا ذلك عشرة أمثال تكاليف العسل الذي نستخرجه من السكر والبنجر، بل يمكن بعد ذلك أن تعالج هذه الأشربة بالخمائر لنجني منها مادة غنية بالبروتين، كما أن الخمائر المستخرجة من العسل تصلح لتغذية الإنسان.
Bog aan la aqoon
والخطوة العملية التي تجدي في تحقيق الغاية الثابتة من تنمية الغذاء العالمي ينبغي أن تتصل بتدبير الماء، إذ هناك بقاع شاسعة تثمر الغذاء الوافر إذا استطيع تخصيبها بالأمواه الكافية، فالبقاع المزروعة الآن بالوسائل التقليدية تساوي مساحتها نحو أحد عشر في المائة من الأرض المزروعة، وهي تزداد زيادة سريعة في أمريكا الجنوبية وآسيا، ويقدرون أن أربع عشرة في المائة من الأرض يروى بتلك الوسائل التقليدية إذا حسن تصريف أمواه الأنهار في أرجاء العالم، وقد يرتفع هذا المقدار إلى عشرين في المائة، يجري ريها وزرعها بالنفقات العادية، وقلما تكفي مياه الأنهار والينابيع لزراعة مساحة أكبر من تلك المساحة، فلا أمل إذن في تخصيب الصحارى والسهوب بالوسائل التقليدية، وهي تزيد في اتساعها على مثلي سعة الأرض المزروعة، وعلينا أن نلجأ إلى ماء البحر لاستخدامه في إصلاح الأرض البور وزرعها، فكيف يتأتى ذلك بالطرق الاقتصادية؟ إن تكاليف الفدان الواحد من ماء البحر بعد تصفيته وإعداده للري تساوي ضعف ثمن الغلة التي تجنى منه، فضلا عن تكاليف الأقنية والقناطر والأنابيب الموصلة للماء، ولكن إصلاح الصحارى البور يظل مع هذا بابا مفتوحا عند الاضطرار .
أما عن الطاقة اللازمة، فإن الوقود الذي يستنفده العالم - إذا بقي على حاله ولم يطرد في الزيادة - يظل كافيا إلى زمن غير محدود، حتى لو نفدت جميع موارد الفحوم والحفريات، وذلك باستخدام القوى المائية والانتفاع بأحطاب الغابات، ولكن هذا الوقود إذا ازداد عليه الطلب كما رأينا، وامتد الازدياد بعد نفاد البترول فلا مناص للإنسان من اللجوء إلى أنواع من الطاقة غير أنواعها التقليدية، ونعرض لأنواع هذه - الطاقة المحتملة - فنرى أن ما كان منها من قبيل حرارة الأرض وقوى الرياح والتيارات المائية - على أحسن ما يرجى منها - محدود الفائدة، إذ المواقع التي يستفاد فيها من تسخير هذه القوى قليلة اليوم بين أرجاء المسكونة، وهي متى حسبت تكاليفها تبين أنها أقل بكثير مما يتطلبه سكانها، ولنذكر على نطاق واسع أن معولنا الأكبر يزداد شيئا فشيئا على الطاقة المستمدة من الشمس والطاقة النووية، وكلتاهما كما نعلم الآن من الوجهة الفنية ميسور الاستغلال، وإنما المسألة في أيهما أوفر نفعا تئول إلى المسألة الاقتصادية، وقد وضعت تركيبات شتى لتحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء، ولكنها كانت كلها كبيرة النفقة، ففي الأقاليم الحارة يستطاع استبدال الطاقة الشمسية بوقود الحفريات في توليد الكهرباء من تسخين الماء، وينبغي لتحقيق ذلك أن تقام الصفائح المعدنية لاستجماع الأشعة، وربما بلغت نفقات العدد المقامة على كل فدان نحو عشرين ألف دولار، تربى تكاليف كهربائها على جميع التكاليف المعهودة. ويمكن توليد الكهرباء أيضا من تسليط الأشعة على ما يشبه الموصلات الكهربائية
Semi Conductors ، وينتفع بها في بعض الصناعات الصغيرة، ولكن توسيع العمل بها يقتضي من النفقات ما لا يطاق.
وبين وسائل الانتفاع بالطاقة الشمسية غرس الأشجار في الشمس، وإحراق أحطابها، أو تخمير السكر الذي نحصل عليه من غرس القصب والبنجر، ويستخرج منه الكحول أو الغازات والسوائل لاستخدامها في توليد الكهرباء، ولكن الحاجة إلى الأرض المزروعة لتدبير الطعام لا تبقي من مساحاتها بقية تذكر لغرس أشجار الوقود، وثمة وسيلة بارعة وضعت أخيرا لتوليد الطاقة من طحلب يربى في مناطق مشبعة بثاني أكسيد الكربون، ويجمع الطحلب ويخمر لتكوين الميثين والهيدروجين، ثم تحرق هذه الغازات لتوليد الكهرباء، ثم يرد ثاني أكسيد الكربون لتربية الطحلب، ويتأتى بهذه المثابة في الأحوال الملائمة أن يتحول من واحد إلى ثلاثة في المائة من الطاقة الشمسية إلى كهرباء، والجهاز الذي يقام على هذا الأساس يمكن أن نحصل منه على الكهرباء بسعر يتراوح بين سنتين ونصف سنت، وبين خمسة سنتات للكيلووات في الساعة، وتقدر قيمة الوقود السائل المستخرج منه بمائة وخمسين دولارا للطن الواحد، ومع الشك في إمكان مزاحمة الطاقة الشمسية للطاقة النووية في توليد الكهرباء في نطاق واسع، يلوح لنا أنها نافعة جدا في النطاق المحدود، والأرجح أن أهم وجوه النفع من الطاقة الشمسية في المستقبل إنما يقوم على تدفئة الفضاء، ونحن نعلم أن المنازل يمكن أن تبنى في الأقاليم الحافلة بالسكان بحيث يعتمد في تدفئتها على الطاقة الشمسية دون غيرها إلى ما يوازي مدينة بوسطن في الشمال، وربما حالت التكاليف الإضافية اللازمة لتشييد المساكن دون استخدامها على سعة، ولكن المأمول عندما تعلو أسعار الوقود أن يبنى معظم المساكن بحيث تنتفع غاية الانتفاع بالطاقة الشمسية.
وإننا لعلى يقين معقول الآن من إمكان الحصول على الكهرباء من الطاقة النووية بسعر يقل عن سنت واحد للكيلووات في الساعة، «عشرة ملات
Mills »، وفي مؤتمر المصالح السليمة للطاقة النووية الذي انعقد بمدينة جنيف سنة 1955 هبط التقدير إلى أربعة ملات، والمنظور في الولايات المتحدة أن يساوي في المستقبل من أربعة ملات إلى ستة. وقد درس سابير
Sapir ، وفان هيننج
Van Hyning
حالة الطاقة النووية في اليابان، فتبين لهما أنه من الممكن الحصول على الكيلووات في الساعة بسعر عشرة ملات حوالي سنة 1960، وبسعر سبعة ملات حوالي منتصف سنة 1970 تقارب تكاليفه خمسة ملات، ويقابل هذا السعر ستة أو سبعة ملات لما يستخرج من الفحم حديثا في الولايات المتحدة وثمانية عشر ملا في اليابان، ويرى - من ثم - أن الطاقة النووية قد تنافس الفحم في مستقبل غير بعيد، وأنها وشيكة أن تعم أقطار العالم في حينها.
وتختلف الأحوال في معظم بلاد العالم عما هي عليه في الولايات المتحدة فيما يتعلق بوفرة الوقود، فإذا أضيف إلى هذا الاختلاف بعض العوامل الأخرى، كان للفارق مظهر أدعى إلى الالفتات، وأحد هذه العوامل فرق العملة الأجنبية، فإن البلاد التي تعاني أزمة التوريد، وتتكلف الكثير لمقابلة الواردات من الفحم والبترول بما يساوي قيمتها من محصولاتها، قد ينتهي بها الأمر إلى تفضيل الاعتماد على الطاقة النووية مع ارتفاع سعرها، وهناك عامل آخر من عوامل الاختلاف يرجع إلى اجتهاد كل أمة في تدبير وسائل الكفاية الذاتية، وليس تدبير أمر البترول بالأمر الموثوق به، إذ كان شطر كبير من ينابيع بترول العالم كامنا في الشرق الأوسط حيث تغلب الحساسية لأطوار العلاقات الدولية، وكثير من الأمم تحتمل التكاليف العالية لاستخدام الطاقة النووية، وتفضل ذلك على مورد أرخص منها، ولكنه غير مضمون.
Bog aan la aqoon
ويظهر أن الاتحاد السوفيتي له حالة خاصة فيما يتعلق بلوازم الطاقة الذرية، فإن بلاد الاتحاد - على ما تملكه من مناجم الفحم الغنية - يقع فيها معظم هذه المناجم بين أرجاء سيبريا، وتظل بقيتها مفتقرة إلى الوقود، ولهذا يستورد في كل سنة على ما يظهر نحو خمسة عشر مليون طن من الفحم من قره غنده وقازاقستان إلى روسيا الأوروبية، وهي مسافة تبلغ من ألف وخمسمائة ميل إلى ألفي ميل، وهذا أحد الأسباب التي حملت الحكومة السوفيتية على الاهتمام بتصنيع سيبريا، وهو كذلك أحد الأسباب التي دعت إلى إقامة خمس محطات لتوليد الطاقة النووية في موسكو، ولننجراد، وجبال الأورال، ومن خلاصة ما تقدم يرى جليا أن الطاقة النووية سيكون لها دور هام في بقاع كثيرة من العالم، وبخاصة في أوروبا، وأمريكا الجنوبية، والشرق الجنوبي من آسيا واليابان، وإن ذلك يتم حالما يتهيأ إعداد الأجهزة الصالحة لتوليد الكهرباء بسعر عشرة ملات للكيلووات الواحد في الساعة أو أقل من ذلك، ومن سخرية المصادفات أن الولايات المتحدة التي تملك - على الأرجح - أتم المعدات الفنية لاستخدام الطاقة النووية لا تشعر بالحاجة إليها في الوقت الحاضر، إلا فيما يلزم للمقاصد العسكرية، وأنها عندما تشعر بالحاجة إليها سوف يأتي ذلك على بطء بالقياس إلى الكثير من بلدان العالم.
وكلما قاربت ودائع العالم من البترول أن تنفد - كثر الإقبال على استخراج الوقود السائل من الصفائح الصخرية، ورمال القطران، وتقطير الفحم، ومن حوالي سنة 1975 ينتظر أن تتسع الفجوة بين البترول والفحم باعتبارهما ينابيع أولية لتوليد الطاقة، وينبغي بعد سنة 1980 أن تكون للطاقة النووية نسبتها المحسوسة باعتبارها بديلا للوقود المستخرج من الحفريات في توليد الكهرباء، وقد تبلغ هذه النسبة ثلث المستنفد من الطاقة حوالي نهاية القرن العشرين، فإذا قارب القرن المقبل منتصفه، فالغالب أن يكون المعول على الطاقة النووية في أكثر ما نحتاج إليه مع الاحتفاظ بودائع الفحم لتوليد الوقود السائل، وبعض المواد الكيمية.
ولنسأل الآن: كم من الزمن ننتظر أن تبقى في الكرة الأرضية ذخائرها من عنصر الأورانيوم وعنصر الثوريوم صالحة لتزويد هذا العالم الصناعي بالوقود؟ إن هذين العنصرين هما - كالفحم والبترول - من وقود الحفريات، تكونت كلها مع تكوين العناصر الأرضية، ولا يتكونان الآن من جديد، فمقدار ما نحصل عليه منهما محدود، ولكنهما - على هذا - ينتجان من الطاقة أضعاف ما يحتويه الفحم والبترول، ويرجع ذلك إلى أن العنصرين موجودان في الطبقات السفلى بمقادير وافرة من بقية القشرة الأرضية.
وتحتوي القطعة العادية من الصخر المحبب - الجرانيت - أجزاء عنصر الأورانيوم بنسبة أربعة من المليون، وأجزاء عنصر الثوريوم بنسبة اثني عشر من المليون، إلا أن كلا من العنصرين في الطن المتوسط يحتوي ما يساوي طاقة خمسين طنا من الفحم، ومن الطبيعي أن هذه الطاقة ليست كلها ميسرة للانتفاع بها لما تستلزمه عملية إخراج العنصرين من التكاليف بين كسر الحجارة وسحقها، ونقل صفوتها إلى المعمل الكيمي، ولا حاجة إلى القول بأن هذه العملية لا تجدي شيئا إذا تساوت تكاليف الطاقة اللازمة لها وتكاليف الطاقة التي تستمد بعد ذلك من العنصرين.
على أنه قد تبين أن العنصرين يوجدان في الصخر على نحو يجعل الطاقة اللازمة لاستخلاصها جد قليلة، ويستطاع لهذا أن يستخلص من طن الصخر ما يعادل الطاقة المستمدة من خمسة عشر طنا من الفحم بتكاليف معقولة من الوجهة الاقتصادية ، ومعنى هذا أن الإنسان غير مفتقر إلى استخدام أجود أنواع الأورانيوم والثوريوم لتوليد الكهرباء، إذ يستطيع أن يعول على الموجود منهما في القشرة الأرضية.
ويحتمل على طول المدى أن تتولد الطاقة من تفاعل الحرارة والطاقة النووية، أي من التحام الهيدروجين باعتباره عملا مستقلا عن انشقاق الأورانيوم، ولا يعلم إلى الآن كيف تجري هذه العملية، وإن كان إمكانها حقيقة مسلمة، فإذا تمكن العلم من تذليل المصاعب الفنية، فكل ما على الأرض من البحار مدد صالح للانتفاع به في توليد هذه الطاقة، وقد تكون هذه العملية أكبر كلفة من عملية شق الأورانيوم، إلا أنها حاضرة للانتفاع بها في حينها يوم يحتاج إليها.
ويتضح في الختام أن ذخائر الطاقة التي يعتمد عليها الإنسان موفورة إلى زمن بعيد، وعلينا أن نحول هذه الذخائر من قوة مخزونة إلى قوة فعالة، وأن السؤال عن إمكان هذا التحويل في الوقت المناسب لسؤال حقيقي بالتوجيه والتأمل، إذ يتوقف جوابه على خليط مشتبك من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
1
الفصل الثاني
التعليم
Bog aan la aqoon
أخذ الغربيون اسم المدرسة من كلمة يونانية بمعنى الفراغ؛ لأن طلب العلم كان في الزمن القديم شاغلا من شواغل الفراغ يستطيعه من يستغني عن العمل أو يعجز عنه، فمن علامات الزمن أن تصبح المدرسة مدار العمل كله، لا يستغني عنه أحد في جميع الوظائف الاجتماعية، وتدعو إليه ضرورات المعيشة كما تدعو إليه مطالب الفهم والتهذيب.
لا بد من المصانع لتزويد العالم بمعرفة المعيشة، ولا بد من الخبراء والصناع لإدارة المصانع، ولا بد من المدرسة لتخريج الخبراء والصناع، ويكاد المختصون بتدبير مطالب التعليم الفني في الحاضر والمستقبل أن يشعروا بأن الحاجة أكثر من العدد المطلوب.
يقول مؤلفو كتاب مائة السنة التالية:
تعتبر الولايات المتحدة في الوقت الحاضر أدق المجتمعات تركيبا صناعيا في العالم، إذ تمهد الفرص التي تكاد لا تحصى للتعليم من شتى فروعه مع الحرية في اختيار الوظائف والأغراض الفنية، فإذا درسنا الموارد التي تؤخذ منها القوى الفكرية دراسة نقد وتحليل تسنى لنا أن نلم بمثال حسن لقضايا العرض والطلب في مسألة تدبير المهندسين والعلماء مع الحرية الاقتصادية.
ومنذ سنوات عدة يلاحظ النقص في عدد العلماء والمهندسين، وهو نقص يزداد حرجا، ولا نرى له الآن نهاية قريبة، وبلغ من حرجه أن المنظمات الصناعية تحد من جهود البحث والتحسين لقلة العاملين المدربين.
وتتباين الآراء عن السبب الصحيح لهذا النقص الحاضر، فيرى بعضهم أنه راجع إلى نقص المواليد في سنوات الكساد، وما تلاه من نقص الإقبال على معاهد التعليم العليا حوالي سنة 1950، ويرى آخرون أن كثرة الطلب على الخبراء من جراء النفقات الكبيرة على شئون الدفاع هي التي أدت إلى الشعور بذلك النقص، وسنرى - على أية حال - أن النقص إنما جاء من دقة التركيب الصناعي في الولايات المتحدة، وقصور وسائل التدريب، والتحضير عن مداركة الطلب على حسب الحاجة.
وبعد الإفاضة على هذا النحو في شرح وجوه الحاجة إلى الطاقة الفكرية، وازدياد هذه الحاجة على توالي الأيام عقد مؤلفو الكتاب فصلا بعنوان: «مدى الطاقة الفكرية المدخرة» بدءوه بهذا السؤال: ما هو أقصى ما يتيسر لنا من ذخيرة الطاقة الفكرية؟ ثم أجابوا عنه بما يلي:
إننا نستطيع أن نحصل على ضعفي عدد العلماء والمهندسين إذا أزلنا العوائق التي نتعرض من جرائها لنقص التعليم بين الفئة الصالحة لإتمام تعليم الكليات في العلوم والهندسة، ويتضاعف هذا العدد مرة أخرى إذا فتح باب التعليم الفني للنساء، وأمكن إغراؤهن بالإقبال عليه، وشجعن على هذا الإقبال، وهذه الزيادة المضاعفة تعطينا أربعة أمثال العدد الذي نخرجه الآن من العلماء والمهندسين دون أن نمس بمطالب الصناعات الأخرى، وكذلك يزداد نفع ذوي الكفايات الفنية إذا نحن أحسنا استخدام قواهم كما ينبغي، وشجعناهم على المزيد من الإنتاج والابتكار، فتصبح ذخيرتنا من الطاقة الفكرية ثمانية أضعاف ما نحصل عليه الآن، وقد تقدم أن لاحظنا أن المحصول السنوي وعدد المتخرجين من العلماء والمهندسين يبلغ عشرة أضعافه كل خمسين سنة في الولايات المتحدة منذ سنة 1800، وتساءلنا هل يمكن تكرار ذلك في نصف القرن الباقي منذ اليوم إلى سنة ألفين؟ فنقول: إن تكرار ذلك مرجح ، وإنه فيما يتعلق بالولايات المتحدة يستطاع الوصول إلى عشرة أضعاف ما لدينا من المحصول الفني، وعدد العلماء والمهندسين، وربما كان ذلك هو الختام.
ومن المهم أن ننبه أن هذه النتيجة ميسرة بغير حاجة إلى حمل الطلاب على ترك الدراسات الأخرى التي تساوي هذه الدراسات في اللزوم والفائدة، فليس في تقديرنا أن يزيد عدد الخريجين من العلماء والمهندسين، وأن تتغير نسبتهم المطردة منذ ثلاثين سنة، بل تبقى على حالتها إلى نهاية القرن العشرين.
ومن المهم كذلك أن نذكر أن المدد الذي يتوافر لنا من العلماء والمهندسين لن يظل على ازدياد إلى غير نهاية في المستقبل على نسبة هذه الزيادة فيما مضى، وفي أوروبا - كما في الولايات المتحدة - ينقص مدد الطاقة الفكرية، فيبلغ عدد العلماء والمهندسين في أوروبا الغربية أربعمائة وخمسة وعشرين ألفا من مجموعة السكان الذين يبلغون مائة وأربعة وخمسين مليون نسمة، ويقابل ذلك في الولايات المتحدة سبعمائة وستون ألف مهندس من عدد السكان الذي يبلغ مائة وثمانية وستين مليون نسمة، وينطبق على الحالة في القارة الأوروبية كل ما ينطبق عليها في الولايات المتحدة، مع ملاحظة الفارق بين التعليم الجامعي هناك، والتعليم الجامعي عندنا، ففي الولايات المتحدة يلاحظ أن ثلاثين في المائة من كل طبقة من طبقات السن ينبغي أن يتمموا التعليم في الكلية، على حين أن التعليم العالي في أوروبا مقصور على النخبة القليلة، ولا تزيد نسبة المتممين للتعليم بالكليات على خمسة في المائة، وسيزداد عدد العلماء والمهندسين زيادة كبيرة كلما اتسع نطاق التعليم الحر، وتمكن الطالب من المضي فيه إلى غاية استعداده.
Bog aan la aqoon
على أن الحالة في الاتحاد السوفيتي تختلف عن كلتا الحالتين، وتتيح لنا بابا نافعا من أبواب المقارنة بين النظم والإجراءات، ففي الاتحاد السوفيتي ينظم التعليم العام بحيث يوافق حاجة الدولة، وينظر إلى مهمة التعليم نظرة عالية، والشاب الروسي يشجع على الترقي في درجات التعليم إلى أعلى ذروتها، وينال من الامتيازات والوظائف بقدر ما ينال من محصول الدراسة، وينتقل الطالب من درجة إلى درجة في مراحل الدراسة حسب نجاحه في امتحانات المسابقة، وتتكفل الدولة بنفقات التعليم، وقد يمنح بعض الطلاب معونة في أثناء سنواته المدرسية، وتتجه العناية في التعليم العالي إلى العلوم الفنية، كما تتجه إلى الطب والزراعة وصناعة التدريس، ونحو نصف طلاب المعاهد العليا يتفرغون لهذه الدراسات، وستون في المائة منهم متخصصون للدراسة الفنية والعلوم الطبيعية.
فالاتحاد السوفيتي يشعر بمسيس الحاجة إلى التعليم الفني لمتابعة التقدم السريع في سياسة التصنيع، وينجم عن ذلك أن يلاحظ في نظام التعليم أن يجور عدد الفنيين على عدد المتخصصين للمباحث الذهنية، وإذا تخرج الطالب من المدرسة العليا يكون قد أمضى ست سنوات في علم الحياة «البيولوجي»، وخمس سنوات في العلوم الطبيعية، وأربع سنوات في الكيمياء، وأربعا في الرياضيات، يقابل ذلك عندنا أن الطالب الذي يريد أن يتخصص للعلم يمضي سنتين في دراسة علم الحياة، وسنة في العلوم الطبيعية، وسنة في الكيمياء، وثلاث سنوات في الرياضيات. والطالب الروسي في مستوى تعليم الكلية يعتبر من السعداء المجدودين إذا استطاع أن يصل إلى مدرسة فنية؛ لأنه يتمكن بذلك من الارتقاء إلى الطبقة الممتازة في البلاد الروسية اليوم، وفي وسعه بوظيفته العلمية أو الهندسية أن يقتني سيارة، ويسكن في جناح مستقل، ويحصل على مرتب حسن، ويشغل مركزا من مراكز التقدم والنفوذ، وعلى هذا نجد أن الروسيين قد عملوا بكثير من النظم والإجراءات التي بحثناها فيما تقدم، ورأينا أنها مجدية في الاستكثار من المهندسين والعلماء في الولايات المتحدة، فالاتحاد السوفيتي إذن قدوة يحتذى بها فيما يمكن إدراكه إذا روعي في نظام التعليم كله أن يدار لغرض واحد، وهو تخريج أكبر عدد مستطاع من العلماء والمهندسين والأطباء والمدرسين مع التضحية القريبة بالدراسات الأخرى من قبيل العلوم الإنسانية والأشغال والتجارة. وقد كان من نتيجة هذه الخطوة أن الاتحاد السوفيتي يسبق الولايات المتحدة، ويخرج ضعف ما تخرجه من المهندسين والعلماء.
ويلوح لنا من المحتمل أيضا أن هذه الفجوة ستتسع فترة أخرى من الوقت. ويضاف إلى هذا أن جميع المهندسين والعلماء في الاتحاد السوفيتي يعملون في صناعاتهم على حين أن الذين يعملون في صناعاتهم عندنا حوالي ثلثي المهندسين وثلث العلماء، وأن نحو الثلث من الفنيين في الاتحاد السوفيتي نساء، ومعدل النسبة في تخرج المهندسين والعلماء هناك توحي إلينا أن الأمة التي تريد أن تقتدي بالاتحاد السوفيتي، وتتخذ لها خطة كخطته الصارمة في التهوين من شأن الدراسات غير الصناعية سوف تصل إلى نتيجة أكبر من النتيجة التي أشرنا إليها آنفا، ولكن مع تضحية ذات بال بالحرية.
وفي وسعنا عند تقدير الطاقة الفكرية المدخرة في الأمم المتخلفة أن نجري على المنهج الذي توخيناه عند الكلام على الولايات المتحدة؛ لأن توزيع الملكات الذهنية على قدر ما نعلم مشابه لتوزيعها بيننا، ويكاد أن يكون المتوسط من ثلث أبناء الأمة إلى نصفهم قادرين من وجهة الملكات الذهنية على كسب معرفتهم في معاهد التعليم العليا.
وهنالك - كما لا يخفى - عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية يرى معها أنه من البعيد - إن لم يكن من المستحيل - أن تقدر تلك الأمم اليوم على تخريج المتعلمين في الكليات بهذه النسبة، فليس ثمة دلائل على التقدم الذهني ظاهرة في المجتمعات البدائية أو في تلك المجتمعات التي لا بد لها من تركيز جهودها المباشرة لتحصيل ضروراتها من الطعام والمأوى، مما يسمح لنا - نظريا - أن نقدر وجود ودائع من الطاقة الفكرية لم تمس إلى الآن في أرجاء العالم، وبينما تتناقص هذه الودائع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تظل في العالم بجملته ودائع عظيمة منها. فإذا استطاعت الهند بما فيها من سكان يبلغون ثلثمائة وستين مليونا أن تخرج من المهندسين والعلماء عددا يضارع في نسبته أقصى ما نستطيع تخريجه - أي أربعة أمثال عددهم الحاضر - ففي وسعها أن تخرج أربعمائة وخمسمائة ألف كل سنة، وهو عدد يكاد يساوي عدد المتعلمين من حاملي البكالوريا العلمية عندنا في الوقت الحاضر.
وظاهر - من ثم - أن رصيد الطاقة الفكرية العالمية عظيم جدا، وكلما مضت الأمم الأخرى في التصنيع تضاعف العمل الذي يبقى على الطاقة الفكرية أن تنجزه، وقد يتيسر لنا في الولايات المتحدة أن نستورد الخبراء من الخارج، ونعتمد على الاستيراد كوسيلة موقوتة إلى حين، إذ لا بد أن يأتي الزمن الذي يوجب استبقاء هؤلاء الخبراء في البلدان التي نشئوا بين ظهرانيها، ومتى نظرنا إلى الأمد الطويل جاز لنا أن نقدر أن العالم سيعتمد على محصوله من الطاقة الفكرية في أعمال التصنيع، كما نعتمد نحن على طاقتنا الفكرية الآن.
وبعد عرض هذه التقديرات عن مطالب العالم من الطاقة الفكرية استجابة لضرورات التصنيع والتموين، عرج مؤلفو الكتاب على تقدير عوامل النكسة التي قد تعرض لبرامج التنظيم في المجتمعات المصنعة على احتمال وقوع الحرب أو توقعها، وما يستدعيه هذا التوقع من صرف الجهود إلى أعمال الدفاع والتسليم.
قالوا من فصل عنوانه: نظرة إلى الأمد البعيد:
إن المجتمع المصنع أشد استهدافا للخلل والتهدم مما يخطر للكثيرين؛ لاشتماله على شبكة متوشجة من المناجم والمصانع يصل بينها مباشرة - وغير مباشرة - نظام متماسك من المواصلات، مما ينجم عنه شل الحركة في المجتمع كله إذا أصيبت مفاتيحه المحكمة، ويتبع ذلك امتناع وسائل الإصلاح بعد وقوع التعطيل، فلا تتأتى إعادة الشبكة إلى العمل قبل تعريض المجتمع كله للهلاك.
واستطرد المؤلفون من ذلك إلى بيان أثره في البلاد التي لم يتم تصنيعها، فضربوا المثل بإقليم كجزيرة سيلان، وقالوا: «إنها إذا حدث - مثلا - أنها لم تستطع أن تحصل على المادة المطهرة المعروفة بالدي دي تي، فقد يفضي هذا النقص إلى تفشي الوباء، وزيادة الوفيات فجأة زيادة جائحة تمتنع معها أساليب الوقاية السهلة، فيسري الوباء إلى البلاد التي تجاورها، وتأوي مئات الملايين كالهند والصين، وتتعرض هذه البلاد للدمار الجائح كما تعرضت له مجتمعات وافية التصنيع.»
Bog aan la aqoon
قالوا: وأهم من ذلك أن القدرة على الحرب تزداد بازدياد القدرة على التصنيع، فالأمة التي تملك معدات الحرب لا بد أن تملك نظاما صناعيا واسع النطاق، أو أن تزود بهذه المعدات ممن يملكونها. وكلما امتدت حركة التصنيع زاد عدد الأمم التي تقدر على الحرب، وعلى تزويد نفسها بأسلحتها من المدافع والطائرات والقذائف النووية، وقد رأينا أن اليابان وبلاد الاتحاد السوفيتي كانت بين أحدث الأمم التي دخلت ميدان التصنيع، وآل بها الأمر إلى المواقف الخطرة كلما تهيأت لها معدات القدرة على شن الحروب الحديثة، ترى ماذا عسى أن يحدث إذا تسنى لأمم كالهند والصين أن تملك هذه المعدات؟
ومن جوانب الخطر التي تواجهنا ذلك التلهف المعقول من قبل الشعوب على تحسين أحوالها، فالتصنيع عمل بطيء عند النظر إلى عمر الإنسان، ومدة سنوات خمس أو عشر، تبدو من حيث التصنيع خطوة سريعة جدا من خطى النمو والتقدم، ولكن الإنسان الفرد يحتاج إلى أمد من الزمن كي يشعر بالتحسن في معيشته، ويعود سبب من أسباب ذلك إلى أن الجهود الأولى من محاولات التصنيع ينبغي أن تخصص لإقامة العدد والمعامل التي تستعد للإنتاج بعد ذلك، فتبنى المعامل التي تصنع الآلات والأدوات، ويقصر إنتاج السلع والبضائع المستنفدة على أقله وألزمه، ومعنى ذلك بلغة الاقتصاد أن يكون هناك ادخار ورأس مال متجمع، يترتب عليه تأجيل انتفاع المستنفد بالصناعة إلى حين، ثم يترتب على هذا التأجيل في المدن الناشئة على الخصوص شعور بالقلق يؤدي إلى الاضطراب والعنف، ويشتد هذا القلق مع إبطاء تهيئة المطلوب من الأغذية على حسب الاستعداد الحاضر. وقد رأينا أنه من الممكن في السنين الخمسين التالية زراعة وجه الأرض للحصول على غذاء يكفي سكان الكرة الأرضية المتكاثرين إذا استطعنا تجويد العمل الذي نقوم به الآن، وقد يتسنى لنا تدبير الغذاء في القرن المقبل إذا توخينا في الإنتاج وسائل أفضل من بعض الوسائل غير الاقتصادية التي نتوخاها الآن، ولكن مما يؤسف له أن إنتاج الطعام الكافي لا يمنعه مانع من الوجهة النظرية، في حين أنه من وجهة التنفيذ لا يستطاع سنة بعد سنة حسب الزيادة في عدد الأنفس خلال تلك السنة، وما لم يتيسر لنا إقلال النسل أو التعجيل بالإنتاج فعلينا أن نتوقع من أعمال التصنيع أن أقاليم يجوع سكانها، ويظلون زمنا طويلا في المستقبل جائعين، وثمة خطر آخر نواجهه إذا أفضى قلق الشعوب المتخلفة إلى إقامة الحكومات المستبدة محاكاة للاتحاد السوفيتي؛ أملا في التعجيل بخطوات الادخار والتصنيع وتعميم الزراعة، وقد وقع ذلك فعلا في الصين، وتحاول الهند أن تحقق برامج التصنيع على أساس النظم الديمقراطية في بيئة اقتصادية بعضها على نمط اشتراكي، وبعضها خاضع للولاية الخاصة، فإذا استمر التصنيع واستمرت زيادة السكان وقلت الأطعمة واشتد القلق والتذمر، فلا ندري هل تقوى الديمقراطية هنالك على مقاومة الطوارئ التي خلقتها، ويجوز أن تقضي عليها؟ ففي هذه الأيام التي يتأتى فيها قلب النظام الديمقراطي بين ليلة ونهار، يتعذر التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية؛ لما يتوافر للحكام من ذرائع الإقناع والإخضاع.
فإذا أمكن في الحقبة التالية أن نتجنب الحرب النووية، وأمكن الأقاليم المتخلفة في الوقت الحاضر أن تحقق برامج التصنيع، فقد اقتربنا من الزمن الذي يتم فيه تصنيع العالم، ويستطاع فيه أن نقيم أودنا باستخدام الأردأ فالأردأ من المواد الصالحة، حتى نلجأ أخيرا إلى صخور القشرة الأرضية وإلى غازات الهواء وأمواه البحار، ويومئذ تكون صناعة المناجم قد زالت وخلفتها مصانع كيمية متشبعة الأغراض، تتزود من الصخر والهواء وأمواه البحار، وتفيض منها موارد تشمل الماء العذب والقوى الكهربائية، ومواد الوقود السائل والمعادن، ومتى أفضى الإنسان إلى هذه المرحلة من ثقافته، فقد بلغ إلى الطريق التي لا رجعة فيها، فلا استئناف بعدها للطريق إذا وقع الخلل والانتقاض في نظم التصنيع العالمية، فإن السير على برامج التنظيم إنما سهل الابتداء به، والمضي فيه بما كان في حوزة الإنسان من موارد الحديد والفحم والنحاس والنفط والكبريت، وغيرها من المواد النافعة، وكلها صائرة إلى النفاد بعد حين، ولكن معارفنا النفيسة تتيح لنا أن نستغني عنها ما دامت حضارة التصنيع قائمة، أما إذا وقعت الواقعة واختلف صوت الحضارة، فمن المشكوك فيه أن نقدر بعد ذلك على النهوض فوق طبقة المعيشة الزراعية.
إن المصادر اللازمة لإعادة الانتفاع بالصخر وماء البحر، وإعادة تركيب النظم المتشابكة من برامج التصنيع قد تكون أعظم جدا مما يستطاع السيطرة عليه. وتصور مثلا أن القوة اللازمة لإعادة الشبكة الصناعية لا بد أن تستمد من مصادر نووية، وأن هذه المصادر لا بد أن تقام بوقود غير وقود الفحم والنفط وكل وقود عدا الصخور، ففي هذه الحالة - مع فقدان الطاقة الصالحة - يتعذر الانتفاع ببقايا الحضارة الصناعية، وسيأتي اليوم الذي قد تنسحب فيه المعرفة الفنية، وتجنح إلى الاحتجاب، وقد حدث في القرون الوسطى أن أمناء تلك العصور استخدموا وجهات الرخام الرومانية في المباني الجديدة حقبة من الدهر، بعد نسيان الكثير مما عرفه الرومان من هندسة البناء، وأن الذي يحدث عدا في مثل هذه الحالة لأعظم مما حدث من قبل بكثير.
وكذلك نرى أن مشكلات الغد كثيرة خطيرة، وأننا من الوجهة النظرية قادرون على تدبير حلولها بما نملكه من القدرة الفكرية، ومثال ذلك أن بعض الأخطار يسهل اتقاؤها بإقامة الهيئات الدولية التي يراد بها منع الحروب كهيئة الأمم المتحدة وسائر الهيئات التي تشرف عليها، وغير هذه الأخطار قد يسهل اتقاؤه ببذل الجهد في الإقلال من ظروف التعرض والاستهداف، وغيرها قد يسهل اتقاؤه بالاتفاق بين المجتمعات المصنعة على تمهيد دور الانتقال إلى التصنيع في المجتمعات المتخلفة بأقل ما يستطاع من المشقة، ويتم هذا الانتقال بإعارة رأس المال والإعانة بالخبرة الفنية، كما يتم أيضا بابتداع أساليب مستحدثة في الصناعة والزراعة والتعليم وتحديد النسل، وهي أساليب لم تستخدم في الغرب حتى الآن لقلة الحاجة إليها، ولكنها قد تجدي كبير الجدوى في البلاد التي لا تزال آخذه ببرنامج التطور.
وقد شرعنا منذ خمس وعشرين سنة في جمع المعلومات النافعة للاهتداء إلى أفضل الأساليب لمعونة البلاد المتخلفة على إنتاج طعامها، وأخذنا ندرك بعض العقد والعوائق التي تحد من محاصيل الزراعة، ورأينا أن سير العمل بطيء في مشروعات الزراعة؛ لأنه يستدعي تعليم العدد الكبير من الزراع، وتعديل طرائقهم وأساليب تفكيرهم وآرائهم الثقافية، ومأثوراتهم التقليدية، وهي جميعا مما يعسر تغييره في وقت قريب، وإننا لفي مسيس الحاجة إلى مزيد من الفهم والإحاطة بعوامل نشر الأساليب الزراعية الجديدة، وتشجيع المجتمعات المتخلفة على قبول المعرفة المستحدثة، وكذلك ينبغي النظر في أمر تحديد النسل عند البحث في ترقية الأحوال الاقتصادية، ولعل الصعوبة في تحديد النسل في المجتمعات الزراعية ترجع إلى الآراء والمعتقدات. على أن تحديد النسل عندها يفيد في التطور الاقتصادي، ويعتبر بمثابة الزيادة في محصول الزراعة والصناعة، ومن الواضح أن الشعوب التي تريد المحافظة على نقص نسبة الوفيات ينبغي أن تقابل ذلك بنقص المواليد، ومؤدى ذلك قبول تحديد النسل، وأن تكون الحيطة لاتقاء الجوع والفاقة بمقدار قبوله في أوسع نطاق.
بيد أننا أمعنا النظر وأبعدناه إلى أقصى المدى فيما نترقب للعالم الواسع من الأطوار خلال القرن المقبل، فالمشاكل الكبرى من قبل الصناعة أهون من مشاكل العلاقات بين الناس، ودواعي التفاهم بينهم على التعاون والاتفاق، وأن ينظموا أنفسهم بحيث تنصرف عبقريتهم، وتصورهم إلى المشكلات التي تواجههم، وتتلخص مشكلتهم الكبرى في موالاة قوانا الفكرية بالتوسيع والتوفير والتحسين والتعبئة والتجهيز.
إن العلماء السلوكيين والأخلاقيين أخذوا يكشفون الغطاء عن بعض مبادئ السلوك الإنساني، وسيزدادون بها علما، ويعولون عليها في تربية أطفال أهم وأسلم، وفي تمكين الناشئين من الانتفاع - أتم انتفاع - بملكاتهم ومواهبهم، ولنا أن نأمل الاهتداء إلى آراء خير من آرائنا الحاضرة في إدراك طبائع الإنسان، وأسرار التفكير المنتج، وأسرار التخيل والبصيرة الباطنة، وكلما ازددنا علما بدوافع حركات الجماعات وبواطن السلوك الاجتماعي والسياسي، أعان هذا العلم على توجيه العواطف والأحاسيس إلى العمل البنائي والأهداف الصالحة، وعلى صرفه عن أعمال الهدم والعدوان، والإكثار شيئا فشيئا من عدد الشبان القادرين على الابتكار والإبداع، ولكن هل تتوافق المساعي الموجهة إلى الإصلاح الحيوي والسلامة البدنية، والمساعي الموجهة إلى تنمية الإدراك وسلامة التفكير؟ وهل يتخذ الإنسان الخطوة اللازمة في الوقت اللازم لحسن التصرف في مسائل التصنيع التي تفتأ تتشابك وتتركب على الدوام؟ هل يسوس الإنسان دوافع شعوره قبل أن تهلكه وتقضي عليه؟ ذلك هو محور المشكلات جمعاء.
لقد رأينا أن الإنسان قادر - من حيث المبدأ - إذا أراد أن يعيش عيشة الوفر والإنشاء في نطاق الحرية، وظاهر أن الصعوبات جمة، والأخطار كثيرة، ولكن الأمر الواضح هو ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به لتذليل العقبات، ويبقى علينا أن نرى غدا هل يدرك هذه المشكلات في حينها ليبلغ إلى حظ من السلامة أوفر وأعلى، أو يسمح بضياع حظه الراهن من الحضارة، وذهابه إلى حيث لا نجاة ولا مآب، ومصير المجتمع الصناعي يدور حول السؤال عن اقتدار الإنسان على العيش مع أخيه الإنسان. •••
هذه البحوث التي لخصنا بعضها، وترجمنا بعضها بقليل من التصرف، قد ألمت بمستقبل التعليم فيما يواجه ضرورات التموين والتصنيع، وفيما يواجه ضرورات التفاهم والتعاون بين الأمم خلال الفترة التي تنقضي في تعميم هذا التعليم والترغيب فيه، ويرى الخبراء أن إعداد العالم للمعيشة الحرة الرخية أمر مستطاع ميسر الأسباب إذا صحت عزيمة الإنسان عليه.
Bog aan la aqoon
وليس أوسع من آفاق التعليم وأغراضه عند الكلام على أثره في حاضر العالم ومستقبله، ومن هذه الآفاق الواسعة أفق التعليم فيما يحدثه الآن، وما يحدثه غدا من الأثر السريع في تكوين المجتمع وتأليف طبقاته وهيئاته التي تتولى شئون معيشته ومعاملاته، وهو ذلك التكوين الذي يرتبط بكل مصير قريب نتصوره لسياسة الأمم في داخلها، وسياسة الأمم المشتركة بينها. ومن أهم البحوث التي اطلعنا عليها أخيرا بحث للخبير الاقتصادي الأمريكي الأستاذ بيتر دراكر
Druker
عن تكوين الكثرة الاجتماعية من أصحاب المرتبات، ونتائج هذا التكوين فيما يتعلق بمذاهب الاجتماع، وأطوار الشعوب وخطط السياسة الكبرى. وقد افتتح الأستاذ بحثه مشيرا إلى الزيادة المطردة منذ سنوات ثلاث في عدد أبناء الطبقة المكونة من ذوي المهن الصناعية والفنية والإدارية بين سكان الولايات المتحدة، وقال: «إنه يعني بها الطبقة التي تجملها كلمة الطبقة الوسطى من أصحاب المرتبات.» ثم قال:
منذ ثلاث عشرة سنة - يوم خرجنا من الحرب العالمية الثانية - كان عمال الصناعة لا يزالون أكبر طائفة من طوائف المجتمع الأمريكي، ينتمي إليها واحد من كل أربعة في المجتمع، وكان ذلك ختام فترة بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر حين نشأت عندنا معامل المصنوعات، أما الآن فواحد من كل خمسة ينتمي إلى طائفة أصحاب المرتبات المختصين بالفن والإدارة، ويقرب عددهم من ثلاثة عشر مليونا.
إلى أن قال:
وفي سنة 1975 أي بعد سبع عشرة سنة فحسب نترقب أن يبلغ نتاجنا الصناعي ضعفي نتاجنا في الوقت الحاضر ، وأن يزداد عدد الصناع بيننا بمقدار الثلث، ولكن الطائفة التي تعلو نسبة زيادتها على نسبة الصناع، ونسبة السكان جميعا هي الطبقة الوسطى من أصحاب المرتبات، ومتى تمت دراسة الصبية والبنات الذين يدخلون المدارس الآن، ومضت سبع عشرة سنة، تضاعف عدد أبناء هذه الطبقة ضعفين، ووجب أن تكون نسبتهم نحو الخمسين من جملة القوى الصناعية.
ثم لاحظ الأستاذ دراكر ظواهر الزيادة في أنواع المصنوعات التي صاحبت نمو هذه الطبقة، فقال: إنها تتمثل على الخصوص في زيادة المطبوع والمتداول من الكتب الشعبية، وإن أثر هذه الطبقة ينجلي شيئا فشيئا في ثقافة الأمة، وسياستها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، إلى أن قال بعد الإشارة إلى نظريات كارل ماركس: «إنه قد مضى عليها الآن قرن من الزمان، وأنها كانت تقوم على نظرة جريئة تنبئ عن ظهور الصانع، وعامل المكنة قوة نامية محركة في المجتمع، ومضت بعد ذلك خمس وسبعون سنة كان الصناع وعمال المكنات فيها حقا أكثر الطوائف نموا، وإن لم يبلغوا قط نصاب الكثرة في مجتمع من المجتمعات الصناعية، غير أنهم كانوا على حدة أكثر الطوائف عددا في كل مجتمع منها، مما أكسب الماركسية قوتها ونفاذها باعتبارها عقيدة وفلسفة على الرغم من مواطن ضعفها، واليوم - في الولايات المتحدة وغيرها - تنجم طبقة جديدة، وتسرع في نموها الذي يجعلها أكبر طائفة مستقلة بين مختلف الطوائف، وهؤلاء هم الفنيون أصحاب المرتبات الذين لا هم بأصحاب رءوس الأموال ولا بالصعاليك، ولا هم بالمستغلين ولا بالمستغلين.» •••
وفي بحث آخر يجمل الأستاذ دراكر إحصاءات التعليم بالنسبة إلى هذه الطبقة، فينقل عن إحصاءات مكتب العمل أن حملة الشهادات العليا أصبحوا في السنة الماضية - 1957 - هم الكثرة الغالبة بين المشتغلين بالصناعة في الولايات المتحدة، قال: «إنني لما بدأت العمل منذ نحو ثلاثين سنة كان التعليم الثانوي هو الندرة المستثناة، وكنت أنا يومئذ منفردا وحدي بإتمام هذا التعليم بين الكتبة الشبان في مكتب من مكاتب التصدير، ولم يكن رؤسائي يكتمون عني أن هذا التعليم كان عقبة - لا عدة صالحة - في سبيل الأعمال التجارية، وكان الذهاب إلى الجامعة في ذلك الحين مقصورا على القلة النادرة جدا بين المتعلمين، ولعلها كانت أكثر يومئذ من مثيلاتها في بلاد أوروبا الغربية.» •••
والنتيجة الطبيعية لتعميم التعليم الصناعي على هذه السعة، وبهذه السرعة أن تصبح الكفاءة البدنية أقل الكفاءات المطلوبة لتدبير لوازم المجتمع، وتنظيم معاملاته وعلاقاته، وأن تتوزع الأعمال بين كفاءات كثيرة: فكرية، ونفسية، وذوقية، لا يتأتى حصرها في طائفة واحدة، ولا يتأتي - من ثم - أن تطغى على المجتمع لتسليط مشيئتها عليه دون أن يلحقها شيء من الضرر الذي يلحق سائر الطوائف، وقد يأتي اليوم الذي تناط فيه الجهود الإنسانية بالأعمال التي يغنى فيها الإنسان على تفاوت ملكاته، ولا تؤديها الآلات مستقلة بها أو بإشراف من يديرها، فلا يتولى الفنيون عملا تقوم به المكنات في الوقت الحاضر والمكنات التي تترقى وتبلغ غايتها من الدقة بافتنان المخترعين والمقترحين من نوابغ الفكر والصناعة في المستقبل. وبعض هذه المكنات يقال عنه اليوم: إنه «يفكر» على سبيل المجاز، ويجري العمل فيه على نسق يشبه عمل الدماغ الإنساني في تلقي الإشارة، ونقل التنبيهات، وتنفيذ المقترحات، وكلما استدقت معارف العلماء بالكهربية الدماغية، وروقبت حركات الدماغ أثناء انفعالاته وتوجيهاته لحركات الأعضاء تبين الفارق بين عمله العقلي الخاص بالإنسان وعمله الجسدي من قبيل رد الفعل الذي تستطاع محاكاته في المكنات، وسيكشف الغد عن حدود هذه المكنات في أداء الأعمال التي لم توكل قبل الآن لغير الإنسان العاقل، فليس من المنتظر أن تجمع المكنة بين وظائف الأمر والتنفيذ، ووظائف الابتكار والتقليد، ولكنها ستؤدي - ولا شك - كثيرا من المساعدات الفكرية التي تستنفد الآن جهود الملايين من حذاق المتعلمين.
يقول الدكتور جورج تومسون
Bog aan la aqoon
Dr. Gerorge Thomson
من أصحاب جائزة نوبل في العلوم من فصل بعنوان: الفكر الصناعي والطبيعي في كتاب المستقبل المكشوف
The Foreseeable Future :
من السائغ أن نترقب زمنا تحل فيه المعرفة الحقة بعمل الدماغ محل هذه المعرفة المترددة، وأصعب من ذلك أن نقدر أثر هذه المعرفة في الحياة الإنسانية، وأتكلم عما أعلم فأرى أن قليلا من المعرفة السطحية قد ارتفعت ارتفاعا عظيما بإعجابي وتقديري للإنسانية، فإن هذه المكنة المعقدة التي نملكها جميعا - أو التي هي نحن أن شئت - بما احتوته من دقائق تبلغ عشرة آلاف الملايين، وبما بينها من خيوط الاشتباك في العمل لتفوق كل حد ترتقي إليه أية صنعة نقدر عليها، وتخالف كل ما نعهده من هذه الكائنات التي ندرسها نحن الطبيعيين مخالفة الصور في طلاء الجدران للبلورات الحقيقية.
ثم قال: إن عرفاننا كيف نشعر قد يكون أعظم أثرا في أعمالنا من عرفاننا كيف نفكر ونتصور، وقد يدهشنا كيف يمكن أن نبقي نوازع العصبية الجامحة بعد العلم - من الوجهة الكهربية - بمجراها الذي جرت عليه عند تكوينها.
لننظر إلى الفكاهة مثل هذه النظرة، فإنما النكتة - كما هو ظاهر - مسألة انطلاق تيار أو إفلات مجموعة من الدوافع المتناقضة لنتخذ لها نسقا آخر، فهل تبقى فيها أعجوبتها إذا علمنا بهذا النسق الآخر: ما هو وكيف يكون؟ إنني لأرجو ذلك حقا، فلا ينقص من متعتنا بالمسرحية أو القصة علمنا بأنها مؤلفة، ولعل الأمور التي يجب على الناس أن يكبروا من خطرها هي التي تصاب أشد المصاب من جراء ذلك، فإن المبادئ ليعسر الثبات عليها بعد العلم بأنها أشبه شيء بالدورة الكهربية، وقد ينجم من ثمة ضرر على الخصوص لتلك العقول - غير القليلة - التي يخيل إليها أن الرجوع بأصول الإنسان إلى أصول الإحياء الدنيا يغض من كرامة البشرية، وإنه لمن المهم عند من يحرصون على استبقاء المبادئ - وليس منا من لا يحرص عليها - أن يوطنوا أنفسهم على ما يكون من هذه الحقيقة، وأن يتعلموا كيف يحافظون على ما نشعر الآن أنه جدير بالمحافظة عليه، وإن تبدلت منه الصورة دون الجوهر، وإنه لمن الخطأ أن يرد على الخاطر أن العلم والقيم شيئان مختلفان لا يؤثر أحدهما على الآخر، فإن الكون الذي يحيط بأفكارنا وأحاسيسنا واحد، وليس فيه جزء ينفصل كل الانفصال عن سائر أجزائه. •••
إلى هذا الأمد يمتد الأمل في التعليم والصناعة، وتتعدد الآمال فتتفق ولا تتفق، ولكنها على الحالين لا ينتفي منها الأمل في انتفاع الفكر بالصناعة، وانتفاع الصناعة بالتفكير .
الفصل الثالث
الفضاء
كان السؤال الشائع بين المشغولين بأمر الطيران في مطلع القرن العشرين: هل من الممكن أن يطير في الفضاء جسم أثقل من الهواء؟
Bog aan la aqoon
وكان المرتابون في إمكان ذلك كثيرين، بينهم فئة معدودة من العلماء وخبراء الصناعة، غلب على اعتقادهم وتفكيرهم أن الطيران لا يتأتى بغير وسيلة واحدة، وهي وسيلة المناطيد التي تحملها القباب مملوءة بأنواع من الغاز أخف من الهواء، وما عدا ذلك فهو خرق لقانون الطبيعة كما فهموه.
وتقدم القرن العشرون إلى منتصفه، ثم جاوز منتصفه بسنوات فأصبح السؤال الشائع بعد نيف وخمسين سنة: هل من الممكن أن نستغني عن الهواء في تسيير الطيارات؟
لم يتغير شيء في هذه السنين من قوانين الحركة، ولا من العلم الذي يرصدها ويتولى تطبيقها، وإنما تغير التطبيق فأصبح خبراء العلم نفسه يسألون عن إمكان الاستغناء عن الهواء بعد أن كان السابقون لهم في مدى سنوات يحسبونه «وسطا» لا يصلح للطيران.
وجواب الثقة عن هذا السؤال: نعم! إن تزويد الطائرة بالأجهزة التي تدفعها في فضاء لا هواء فيه ممكن، وإن استخدام الوسائل الكيمية والكهربية يذلل الصعوبة التي كانت قبل الآن عصية على التذليل بغير الدفع الجوي، فليس من المستحيل، ولا من البعيد في الواقع أن تصنع الطيارة التي تجوب الأفلاك العليا فوق جو الأرض وبين آفاق السيارات، ولا تعرف الآن صعوبة فنية تحول دون الرحلة إلى الكواكب إذا استطاعها الإنسان، أما استطاعة الطائرات أن تصمد لتلك الرحلة فليس فيها الآن خلاف.
يقول سير جورج تومسون صاحب جائزة نوبل في الطبيعيات: «ومهما تكن الطريقة المتبعة، فإن تسارع الصاروخ على مهل بعد مجاوزته جو الأرض أمر لا يعرف له مانع، ولا يعارض قاعدة من القواعد الطبيعية، ورد الفعل النووي كفيل بتدبير الطاقة الطرفية، ولا خوف من الإفراط في التسخين مع استخدامه على مهل، في حين أن المواد اللازمة ليست مما يمتنع تدبيره، مع الدفع بهذه السرعة، وقد يحوم هذا الصاروخ في مدار المنظومة الشمسية ويطيف بالسيارات وبالقمر، ويعتمد على الأجنحة عند عودته إلى الأرض لنقص السرعة بمقاومة الطبقات العليا من الجو.»
ويرى هذا العالم المحقق أن اتخاذ المراكز من الأقمار الصناعية لتجديد الاندفاع إلى الآفاق العليا يدخل في نطاق المعلومات الصناعية الميسرة للخبراء في العصر الحاضر، قال: «وهناك مشروع يهتم به فون برون
Von Braun
الذي رسم القمر المسمى بالراند الثاني
V.2
في الولايات المتحدة يرمي به إلى إدارة قمر دائم حول الكرة الأرضية، ويمكن اتخاذه محطة وسطى للسفر إلى السيارات، ويحتاج تركيبه إلى إطلاق أجزاء صغيرة بالصواريخ تتجمع في الفضاء على النحو الذي قدمناه، ويستطاع تزويد هذا القمر بجاذبية مصنوعة إذا تم تركيبه على شكل إطار يدور دورة سريعة تطرد كل شيء في وسطه بالقوة المركزية إلى جداره.»
Bog aan la aqoon
1
وبعد أن شرح الأستاذ تومسون كل ما يرد على خاطر العالم من مصاعب السفر إلى الكواكب قال: «إن الظاهر من هذه العجالة أن صعوبات السفر بين الكواكب كثيرة عدا صعوبة الإفلات من أفق الأرض، ولكن لا يرى أن هناك صعوبة أساسية، ولا يسعنا إلا أن نطمئن على ثقة بأن براعة المهندسين تتغلب عليها خلال الخمسين أو المائة السنة التالية.»
وأحدث ما اطلعنا عليه في هذا الموضوع كتاب عنوانه: «صاروخ إلى القمر» ألفه المهندس النرويجي إريك برجوست، وخبير الطيران والقذائف الأمريكية سبروك هل، وقدم له فون برون مهندس الأقمار الصناعية - المتقدم ذكره - عجل فيه المؤلفان بالموعد المنتظر من خمسين سنة إلى سبع سنوات، وقالا في الفصل الأول منه: «إن الخطوة التالية - بغير ركب إنساني - تحتاج إلى أجهزة من الأقمار الصناعية أفضل وأكبر، ثم إلى أقمار تحمل الحيوانات، ثم إلى أقمار تحمل الحيوانات وتعود بها سالمة إلى الكرة الأرضية، ومتى تم ذلك استطاع الإنسان أن يذهب إلى الفضاء، ولكن الفتح العظيم الذي يقارن بإطلاق القمر الصناعي الأول إنما هو استطاعة الإنسان أن يهبط على سطح القمر، ويرجى أن يتم ذلك - بل قد يتم فعلا - قبل سنة 1965 في أقل من سبع سنوات.»
2
ويقول مهندس الأقمار الصناعية في مقدمته لهذا الكتاب: «إن تحقيق المخترعات الصاروخية المطلوبة لا يعوزه شيء من معرفة المبادئ العلمية والصناعية، وكل ما يحتاج إليه عزيمة ومال.»
والمؤلفان يستهلان كتابهما ببيان الأغراض التي توجب على أبناء العصر الحاضر متابعة النظر في تحقيق رحلات الفضاء، فيذكران في مقدمتها حب الاستطلاع، ويستشهدان بكلام للمهندس الكبير فون برون يقول فيه: «إن سببا من أول أسباب البحث في كل كشف أو ارتياد جديد يتلخص في مجرد التشوف وحب الاستطلاع، وليس من الحكمة ولا من الخبرة الواقعية أن نصر - سلفا - على المسوغات لكل بحث من هذا القبيل على أساس المنفعة العاجلة والنتائج العملية المحتملة، فإن تاريخ الفنون والمعارف الصناعية زاخر بالأمثلة التي تثبت أنها لا تقدر على دراية الإنسان بالأنباء عما تسفر عنه الكشوف والمخترعات.»
ويلي هذا السبب المفروض في جميع البحوث والمحاولات سبب معروف النتيجة يقوم على غريزة حب الحياة، والدفاع عن الذات، ويكفي أن يكون الاختراع صالحا لاستخدامه في هجوم أمة على أمة كي يكون العلم به واجبا لاتخاذ الحيطة والدفاع، ويقول المؤلفان: إن تنظيم البعثات المشتركة لارتياد الفضاء فوق القمر محتمل، بل قريب الاحتمال، ولكن الاتفاق على احتلال القمر بعيد؛ لأن استخدامه في الأغراض الحربية يغري السابقين إليه بالاستئثار واجتناب المشاركة فيه جهد المستطاع.
أما السبب الذي لا شك فيه ولا اختلاف عليه فهو جمع المعلومات، وكشف الحقائق عن أسرار العناصر المادية، وأسرار الضوء والطاقة المغناطيسية والجاذبية، وما إليها من الأسرار التي تتفتح مغاليق الطبيعة أمام من يعلمها، وتزيده عرفانا بحقائق الكون وما فيه ومن فيه من الأحياء العاقلة، إن كان فيه أحياء عاقلة غير الإنسان، وقد يشهد البشر يومئذ شهادة العيان أمورا من خفايا الغيب ظلت آلاف السنين حيرة للأفكار، ومسبحا لشوارد الظن والخيال.
الفصل الرابع
حكم العالم
Bog aan la aqoon
يتفق الراسخون في علوم الاجتماع - من أصدقاء السلم والإنسانية - على رأي واحد في أنظمة الحكم التي تصلح للعالم بعد القرن العشرين، قوامه أن يمتنع طغيان الدول القوية على السياسة العالمية، وأن يكون تدبير مصالحه موكولا إلى هيئة دولية، لا يضيع فيها صوت أمة من الأمم، ولا تنسى فيها مصالح المتخلفين والمستضعفين.
ويكتب الجلة من ذوي الخبرة والنية الصالحة عن هذا الرأي كأنه المخلص الوحيد من شواجر النزاع والصدام بين الأقوياء، وبينهم وبين الضعفاء، فإذا جعلوه أملا مرموقا فهم لا يجعلونه كذلك؛ لأنهم على ثقة بينة من بلوغه وإمكانه، وإنما يتعلقون به لأنه المخلص الوحيد من أخطار الحكم في المستقبل، فينبغي أن يكون الأمل الوحيد؛ لأنه المخلص الوحيد.
وهؤلاء الثقات المتعلقون بهذا الرجاء يقاربونه على منهجين: منهج أقرب إلى الفلسفة العلمية، ومنهج آخر أقرب إلى السياسة والإحصاء، ولعلهم على هذين المنهجين يتمثلون على أحسن الوجوه في كاتبين من أبرز كتاب العصر في هذه الموضوعات، وهما الفيلسوف الرياضي برتراند رسل، والمؤرخ الاجتماعي هانس كون، وكلاهما معدود اليوم في طليعة الكتاب العالميين.
آراء برتراند رسل في الحكم العالمي ومصير الإنسانية مبسوطة في كتبه الكثيرة، ملخصه في آخر ما صدر منها عند منتصف القرن العشرين، وهو الكتاب الذي سماه: «آمال جديدة لدنيا متغيرة»،
1
وجمع رءوس موضوعاته في بضعة أسطر يقول فيها: «إن الحياة في العصر الذري معنية بوسائل العلاج الثلاث من المشكلات التي طالما ابتلي بها نوع الإنسان، وهي مشكلة النزاع بين الإنسان والطبيعة ومشكلة النزاع بين الإنسان وسائر الناس، ومشكلة النزاع بينه وبين نفسه، والمشكلة الأولى من شأن العلم، والثانية من شأن السياسة، والثالثة من شأن الدين والدراسات النفسية.»
وعنده أن الفقر لم يعد في عصر الصناعة الحديثة ضربة لازمة، ولا محنة محتومة على الأكثرين من بني الإنسان، وإنما يعود الإخفاق في علاج مشكلته إلى رسيس من العقائد والعادات البالية، لا موضع لها من الحياة الحديثة، وإن هذه الحياة الحديثة قد أبطلت الحاجة إلى المزاحمة على الأرزاق، وجعلتها أقل ما يكون لزوما لمن كانوا يتزاحمون عليها، وأن المخاوف الرثة التي خامرت النفوس دهرا طويلا لا ضرورة لها الآن، وأن الإنسان العصري في وسعه أن يزيل وساوس الخوف والقنوط.
واستطرد إلى الفريضة التي يتطلبها تحقيق هذه الغاية فيما تتولاه أنظمة الحكم، فقال: «ينبغي أن تكون هناك هيئة عالمية تشرف على تدبير الأغذية والخامات، وأن يكون في وسعها منع الأساليب الزراعية التي استنفدت التربة في أفريقيا الشمالية والولايات المتحدة، فلا يسمح للزراع بالاستكثار من الثراء بتبديد موارد الرزق التي تعول عليها الأجيال المقبلة.»
ثم قال عن النزاع بين الإنسان وسائر الناس: «إن الخطر الأول هو خطر التهديد بالحرب، فلا قرار لشيء من الأشياء مع بقاء الناس على خوف من نشوب القتال، ولا سيما القتال بآلاته الحديثة، وما من وسيلة تعصم الإنسان من هذا البلاء أنجع من تزويد العالم بقوة عالمية واحدة تملك المحاجزة بين الدول، ولا ضرر من قيام الجيوش المحلية التي تحفظ الأمن في بلادها بالوسائل الميسرة للشرطة، ولكن الأسلحة الوبيلة جميعا ينبغي أن تعهد إلى القوة العالمية التي لا تنفرد بها دولة واحدة.»
ثم يعرض الفيلسوف لمسألة التعليم فيقول أنها ينبغي أن تقوم على مبادئ عالمية، وأن يمتنع التعليم الذي يغري بالعدوان، وينفخ في جذوة البغضاء والنقمة بين الشعوب «وينبغي أن نتدرج إلى تعميم التجارة الحرة، وأن تباح حرية السياحة على النحو الذي كان شائعا قبل الحرب العالمية الأولى، وأن تتبادل الأمم طلابها لكيلا يتعرض الكثيرون في شبابهم لآفة التحجر على العادات والتقاليد.»
Bog aan la aqoon