ولا نذكر هنا فلسفة المصريين الأقدمين فيما يرجع إلى النظرة المجردة والنظرة المادية، فإنهم لم يفصلوا بين النظرتين ولم ينظروا إلى الوجود كله إلا على اعتباره وجودا واحدا تمتزج فيه الروح والجسد ، ولا يلزم من اختلافهما أن ينفصلا عنصرين متناقضين، فلا تنفرد الروح بالبقاء، ولا يمتنع على الجسد أن يبقى ملازما لها أو منفصلا عنها إلى حين. •••
ثم انقضى عصر الفلسفات القديمة واتخذت التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة مناهج شتى في العصور الوسطى بين الفلاسفة المستقلين والفلاسفة المفسرين لأصحاب الآراء الخالية، فانقسم هؤلاء جميعا إلى قسمين متناقضين: قسم الواقعيين، وقسم الاسميين، وأطلق «الواقعيون» على الذين يحصرون الوجود في الأفراد المحسوسة، وأطلق «الاسميون» على الذين يقولون بوجود النوع مستقلا عن الفرد بكيان غير محسوس.
فالواقعيون يقولون بوجود هذه الشجرة وتلك الشجرة وكل شجرة يرونها، أو يلمسونها ويحسونها على نحو من الإحساس الجسداني، ولكنهم يرون أن «الشجر» كلمة تقال لتدل على جنس الأشجار في جملتها، واسم لا وجود له في الخارج غير وجود مسمياته المتفرقة.
وعلى نقيض هؤلاء «الاسميون» الذين يقولون بأن «النوع» هو الموجود الحقيقي، وإن الأفراد المحسوسة إنما هي محاكاة ظاهرية تحاول أن تمثل ذلك الوجود العام على صورة من صور الوجود الخاصة التي تدركها الحواس.
وجاء بعد الواقعيين والاسميين أناس مثلهم في هذه التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة، ولكن على أسلوب آخر: هؤلاء هم الحسيون العقليون يقابلهم المثاليون المنطقيون، فلا وجود عند الحسيين العقليين لتلك الأمثلة العليا والحقائق الغيبية التي يؤمن بها المثاليون المنطقيون، ويستدلون عليها ببراهين المنطق وأدلة القياس، وإنما الوجود الحق للمادة التي يحدها المكان والزمان، ويثبتها العيان، وما يؤيده من حواس الإنسان.
ثم جاءت المادية الحديثة قبيل القرن العشرين فأنكرت جميع المجردات، ولم تثبت شيئا غير الأجسام كيفما كانت في تراكيبها التي تدركها الحواس أو تكشفها أدوات الرصد والتحليل.
وسمي العصر الحديث - بين أسمائه الكثيرة - باسم العصر المادي أو عصر الماديات على إطلاقها، وجعلوا الماديات على كل شيء يطلبه الجسد، ويستمتع به الحس، ولا يتجرد عن «الجسدية» على حال من الأحوال.
ولقد حسب الكثيرون أن هذه «المادية» خليقة أن تقضي على نظرة التجريد قضاءها المبرم الذي لا رجعة لها بعده، وأن الذي بقي من نظرات التجريد - بعد فلسفة الواقعيين وفلسفة العقليين - وشيك أن يذهب ذهابه الأخير في إبان عصر المادة الحديث، فكلما استغرق الباحث في النظرة المادية فهو مبتعد بحكم الضرورة عن نظرات التجريد، ابتعاد النقيض من النقيض.
وغير هذا هو الذي حدث ويحدث مع توالي الكشوف عن أسرار المادة وعناصر الأجسام ومآل هذه العناصر في النهاية ونشأتها قبل أن تتعدد وتبلغ العشرات.
فلم يعرف الناس نظرة التجريد كما عرفوها في هذا «الزمن» الغارق في ماديته كما يقال.
Bog aan la aqoon