وعلى أثر الهجمة الأولى من هجمات هذا «الجقرنوت» الحديث سرت في العالم دعوة خفيفة، أو رفيعة، كادت تغطي شيئا فشيئا على ضجيج «المكنة» الصاخبة التي ملتها الأسماع، وأعارتها ما أعارته من صغواتها على كره منها، وكانت تلك الدعوة التي سرت خفيفة تارة، ورفيعة تارة أخرى، هي دعوة العودة إلى الطبيعة أو دعوة السلام مع الله كما سماها بعض أقطابها الأولين، وتقاس هذه الدعوة في الزمان، كما تقاس في المكان، فينكشف لنا مدى اتساعها ونشاط الأذهان لقبوها حيثما تنقلب الصناعة الكبرى في خطواتها، كأنما تطاردها في مسيرها على حسب انتشارها وشيوعها، واحتدام مشاكلها وأخطارها.
فمن شعراء البحيرة في إنجلترا بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، إلى هنري ثورو
Thoreau
في أمريكا الشمالية من أوائل القرن التاسع عشر إلى ما بعد منتصفه، ثم تنتقل إلى شرق القارة الأوروبية في روسيا، فينادي بها رسولها تولستوي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتبلغ الهند فتعود إليها مع الجقرنوت الحديث، وترتفع بها عقيدة قديسها وزعيمها مهاتما غاندي، أكبر رسلها في العالم الحديث، وآخر من حارب «المكنة» الضخمة ليعود بالناس إلى آلات البداءة التي يكاد أن يصنعها الصانع بغير حاجة إلى معمل ولا أداة.
وتلاقى المصلحون الأخلاقيون، والمصلحون الاقتصاديون في هذه الدعوة إلى الطبيعة فنشأت مدرسة «الطبيعيين»، وقال المؤمنون بمذهبها: إن الأرض ينبوع كل خير ومنبت كل عمل، وإن الأرض تعطي ولا تعقب عطاءها بالشر والعداوة، ولكن الصناعة التي تنفصل من الأرض تأخذ منه أضعاف ما تعطيه، وتسوي بينه وبين الآلة الصماء في التقدير والتقويم، ولكنها لا تعفيه من الألم والضغينة إعفاءها للآلة الصماء. •••
وعلى هذا النمط قضى عقل الإنسان قضاءه في الآلة منذ خرج بها من عداد العجماوات، وامتاز بها بين عامة الأحياء، وهو لا يدري بهذه المزية، فلو كان في مقدور نوع الإنسان أن يدبر لنفسه على مدى القرون، لما ارتضى الآلة تدبيرا له يقدر له منافعه ونتائجه قبل عشرات الألوف من السنين، ويثابر على رضاه مستزيدا من خطاه شاعرا باقترابه في كل خطوة من هدف مرسوم يريده، ويصبر على عثراته؛ لعلمه بما وراءها من نهاية مطلوبة وأمنية مبتغاة.
كلا، إن نوع الإنسان كان خليقا أن يحكم على الآلة في كل مرحلة من مراحل تاريخها كأنها - على أحسن ما تكون - ضرورة مكروهة يلجئه إليها ما هو أكره منها، ويعتمد عليها لأنه مسوق إليها، يرميها من يده قبل استخدامها لو استطاع، ولا يصبر عليها - كما هو شأنه معها - إلى أن يلقيها من يده بعد الفراغ منها. •••
وجملة القول: إن تاريخ الآلة عند الإنسان ينتهي إلى تاريخ شيء محتقر أو مكروه، ولكننا إذا نظرنا إليها نظرا يحيط بالنوع الإنساني منذ نشأته إلى هذه السنوات الأخيرة، وما سيليها من السنوات اللاحقة، فقد يسفر هذا النظر عن حقيقتين يقل الخلاف عليهما، وهما: «أولا» إن الآلة صاحبت تقدم الإنسان فردا وجماعة، وكانت مقياسا لدرجات الحضارة عند أممه عصرا بعد عصر وفي جميع العصور، فهي على الجملة مقياس الفارق بينه وبين الحيوان الأعجم في أعلى أنواعه وأقربها إليه .
والحقيقة الثانية أن منافع الآلة غير المقصودة لا تقل عن منافعها المقصودة التي تدخل في تدبير الفرد أو الجماعة، فما من آلة قديمة أو حديثة تنحصر منافعها في حدود الغاية التي تستخدم لها وتخترع من أجلها، وما من حكمة إنسانية يمكن أن تنحصر فيها تلك المنافع، أو يمكن أن تستوعب مقدماتها ونتائجها من النظرة الأولى.
كانت الآلة الأولى صخرة أو فرعا من فروع الشجر وسيلة لإصابة الصيد أو اتقاء السباع الضارية، وهذه هي فائدتها التي تدركها حكمة الإنسان، ويعمل على طلبها.
Bog aan la aqoon