ويقول المؤلف بحق: «إن كبار العلماء لا ينكرون الغيب، وإن أناسا لا يزالون معدودين من أكبر العلماء كانوا يؤمنون بما وراء المحسوس، كان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية يصلي ويؤدي فروضه الدينية في مواعيدها بغير انقطاع، وكان جاليليو مكتشف دوران الأرض يؤمن بالله والدين، وكان أينشتين يقول: إنك إذا أردت أن تعرف غاية الحياة فمعنى ذلك أن تكون متدينا، وكثير من خلفاء هؤلاء العلماء في العصر الحاضر يرجعون إلى الغيب كلما أوغلوا في العلم بالمحسوسات.»
ويردد المؤلف قول القائلين: إن الخوف كبير في عصرنا من شطط الإنسان في استخدام معلوماته، ومن الجائز أن يكون حتف النوع الإنساني في هذه الطاقة المخيفة إذا أساء استخدامها في الحروب، ولكن المؤلف يعود فيقول: إن هؤلاء المتشائمين يبالغون في الخوف من عوامل الشر والهدم التي ينطوي عليها طبع الإنسان، ولا يعطون عوامل الخير والبناء حقها من الأمل والثقة، مقاسا على الماضي في أحوال كأحوال العصر الحديث، ولقد كان اختراع النار يكفي للقضاء على عمران الإنسان كله في زمانه، ولكنه عزز هذا العمران وعلمنا أن نخترع أنواعا من النار لم تكن معروفة في عهد أجدادنا الغابرين، وكل ما اخترعناه من أنواع الوقود فهو توسع في استخدام النار، ولكنها قد حسن استخدامها في أوقات، وساء استخدامها في أوقات، وكلها في النهاية قد أضاف إلى العمران، ولم يكن سببا للقضاء عليه، ولا خطر على الإنسان في الغد على هذا الاعتبار، ولكننا لا نقنع بالأمان من الخطر إذا استطعنا أن نتمم أنفسنا، ونحن قادرون على إتمامها إذا عشنا بشخصية متوازنة بين عوامل العقل والعاطفة والضمير.
وهل معنى ذلك أننا سنعرف كل ما في أنفسنا من الخفايا والأسرار؟ لا ريب أننا نزداد علما بتلك الخفايا والأسرار جيلا بعد جيل، إلا أننا لا يلزمنا أن ننتظر طوال الأجيال لنعرف منها كل ما يستطاع؛ لأننا نعرف مطالب العقل والعاطفة والضمير، نعرف التطلع إلى الحقيقة، ونعرف الشوق إلى جمال الطبيعة والفنون، ونعرف كرامة المبادئ الرفيعة والأمثلة العليا في الأخلاق والآداب، ونعرف مطالب الضمير من العقيدة الروحية، وما نعرفه من هذه الجوانب المتعددة في الشخصية فهو حسبنا للموازنة بينها وبين مطالبنا البدنية، وحسبنا في الحذر من مسخ طبيعتنا بالاستسلام إلى جانب منها دون سائر الجوانب، وهو حسبنا للتقدم في طريق التمام.
وعند المؤلف أن هناك غاية أعلى من غاية الموازنة بين جوانب البدن وجوانب العقل والعاطفة والضمير، فإن عباقرة العالم كلهم يتوازنون في جميع الجوانب، ومنهم من تغلب عليه نزعة تغطي على جميع نزعاته، وبها يمتاز على سواد الناس، ويتمكن من خدمتهم بالفتوح الجديدة في ميادين العلوم والفنون والأخلاق ، إلا أن العبقريين يوسعون شخصيتهم بهذه النزعة الغالبة ولا يضيقونها، وأنهم يتمون بها ولا ينقصون، وهم الاستثناء في هذه القاعدة، ولا تخلو قاعدة من استثناء.
وسؤال المبدأ والختام عند المؤلف: ماذا يمكن أن يكون الإنسان غدا؟ وليس جواب المؤلف أنه سيعلو على الإنسانية إلى طبقة السوبر مان التي حلم بها دعاة القرن التاسع عشر، وإنما جوابه أن الإنسان يتمم نفسه غدا فلا يحاول التحليق بجناح واحد، وأن المستقبل لإنسان يعرف حق البدن ولا ينسى حق العاطفة وحق الروح والضمير. •••
والعالم الطبيعي شارلز جالتون داروين - حفيد داروين الكبير - يثب وثبته البعيدة في حساب السنين إلى ما بعد مليون سنة، ولكنه لا يجاوز في وثبته ذلك المدى الذي ذهب إليه زملاؤه من القانعين بالنظر إلى مدى القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين، فيكاد أن يقضي بالأمل في مصير الإنسانية دونهم، ويكاد أن يقول: إن العصر الذهبي يمضي ولا يقبل، وإن التنازع على البقاء خليق أن يعود بالعالم إلى معاركه العنيفة يوم كان العالم المعمور يضيق بساكنيه، ويضن عليهم بالكفاف الذي يكفيهم جميعا، فيتقاتلون أو يدفع بعضهم بعضا إلى الهجرة والابتعاد، وسيأتي اليوم الذي تضيق فيه موارد العالم عن سكانه، ولا يسعهم يومئذ أن يعتصموا بالهجرة لامتلائه بالسكان، وضيق منادح الخلاء في جميع بقاعه، إلا أن يقع ما ليس في الحسبان من أمر الأرزاق والسكان.
ويرى العلامة حفيد صاحب النشوء والتطور أن الناس يتغيرون ويتطورون مع الحضارة، ولكن الإنسان في دخيلته لا يلوح عليه أنه استراح إلى التطور الذي جاءه من قبل الحضارات المتوالية؛ لأنه يكن في طواياه بقايا الأزمنة المتطاولة التي سبقت تلك الحضارات، ويستريح إلى معاودتها كلما وجد بين يديه منفسا للمعاودة، وقد ينكشف منه الحنين إلى الماضي في كثير من عادات الجد واللعب التي تشملها أعماله السلمية، كأنها البديل الحاضر عن سوابقه في العراك والنزاع.
ولا ينسى داروين الحفيد أن الإنسان يتعلم، وأنه أقدر الحيوانات العليا على التعلم والاستفادة من التجارب المتعاقبة، والفرق بينه وبين أنواع الحيوان في
2
هذه الخصلة عظيم لا مثيل له في الفوارق المتعددة بين نوع منها ونوع آخر، إلا أن الحيوان يورث أبناءه تجاربه الطويلة؛ لأنها تتمثل في الغريزة التي تنتقل في لبابها بالوراثة، وليس علم الإنسان المكتسب بالعلم الموروث أو القابل للتوريث.
Bog aan la aqoon