يتفق الراسخون في علوم الاجتماع - من أصدقاء السلم والإنسانية - على رأي واحد في أنظمة الحكم التي تصلح للعالم بعد القرن العشرين، قوامه أن يمتنع طغيان الدول القوية على السياسة العالمية، وأن يكون تدبير مصالحه موكولا إلى هيئة دولية، لا يضيع فيها صوت أمة من الأمم، ولا تنسى فيها مصالح المتخلفين والمستضعفين.
ويكتب الجلة من ذوي الخبرة والنية الصالحة عن هذا الرأي كأنه المخلص الوحيد من شواجر النزاع والصدام بين الأقوياء، وبينهم وبين الضعفاء، فإذا جعلوه أملا مرموقا فهم لا يجعلونه كذلك؛ لأنهم على ثقة بينة من بلوغه وإمكانه، وإنما يتعلقون به لأنه المخلص الوحيد من أخطار الحكم في المستقبل، فينبغي أن يكون الأمل الوحيد؛ لأنه المخلص الوحيد.
وهؤلاء الثقات المتعلقون بهذا الرجاء يقاربونه على منهجين: منهج أقرب إلى الفلسفة العلمية، ومنهج آخر أقرب إلى السياسة والإحصاء، ولعلهم على هذين المنهجين يتمثلون على أحسن الوجوه في كاتبين من أبرز كتاب العصر في هذه الموضوعات، وهما الفيلسوف الرياضي برتراند رسل، والمؤرخ الاجتماعي هانس كون، وكلاهما معدود اليوم في طليعة الكتاب العالميين.
آراء برتراند رسل في الحكم العالمي ومصير الإنسانية مبسوطة في كتبه الكثيرة، ملخصه في آخر ما صدر منها عند منتصف القرن العشرين، وهو الكتاب الذي سماه: «آمال جديدة لدنيا متغيرة»،
1
وجمع رءوس موضوعاته في بضعة أسطر يقول فيها: «إن الحياة في العصر الذري معنية بوسائل العلاج الثلاث من المشكلات التي طالما ابتلي بها نوع الإنسان، وهي مشكلة النزاع بين الإنسان والطبيعة ومشكلة النزاع بين الإنسان وسائر الناس، ومشكلة النزاع بينه وبين نفسه، والمشكلة الأولى من شأن العلم، والثانية من شأن السياسة، والثالثة من شأن الدين والدراسات النفسية.»
وعنده أن الفقر لم يعد في عصر الصناعة الحديثة ضربة لازمة، ولا محنة محتومة على الأكثرين من بني الإنسان، وإنما يعود الإخفاق في علاج مشكلته إلى رسيس من العقائد والعادات البالية، لا موضع لها من الحياة الحديثة، وإن هذه الحياة الحديثة قد أبطلت الحاجة إلى المزاحمة على الأرزاق، وجعلتها أقل ما يكون لزوما لمن كانوا يتزاحمون عليها، وأن المخاوف الرثة التي خامرت النفوس دهرا طويلا لا ضرورة لها الآن، وأن الإنسان العصري في وسعه أن يزيل وساوس الخوف والقنوط.
واستطرد إلى الفريضة التي يتطلبها تحقيق هذه الغاية فيما تتولاه أنظمة الحكم، فقال: «ينبغي أن تكون هناك هيئة عالمية تشرف على تدبير الأغذية والخامات، وأن يكون في وسعها منع الأساليب الزراعية التي استنفدت التربة في أفريقيا الشمالية والولايات المتحدة، فلا يسمح للزراع بالاستكثار من الثراء بتبديد موارد الرزق التي تعول عليها الأجيال المقبلة.»
ثم قال عن النزاع بين الإنسان وسائر الناس: «إن الخطر الأول هو خطر التهديد بالحرب، فلا قرار لشيء من الأشياء مع بقاء الناس على خوف من نشوب القتال، ولا سيما القتال بآلاته الحديثة، وما من وسيلة تعصم الإنسان من هذا البلاء أنجع من تزويد العالم بقوة عالمية واحدة تملك المحاجزة بين الدول، ولا ضرر من قيام الجيوش المحلية التي تحفظ الأمن في بلادها بالوسائل الميسرة للشرطة، ولكن الأسلحة الوبيلة جميعا ينبغي أن تعهد إلى القوة العالمية التي لا تنفرد بها دولة واحدة.»
ثم يعرض الفيلسوف لمسألة التعليم فيقول أنها ينبغي أن تقوم على مبادئ عالمية، وأن يمتنع التعليم الذي يغري بالعدوان، وينفخ في جذوة البغضاء والنقمة بين الشعوب «وينبغي أن نتدرج إلى تعميم التجارة الحرة، وأن تباح حرية السياحة على النحو الذي كان شائعا قبل الحرب العالمية الأولى، وأن تتبادل الأمم طلابها لكيلا يتعرض الكثيرون في شبابهم لآفة التحجر على العادات والتقاليد.»
Bog aan la aqoon