على أن الحالة في الاتحاد السوفيتي تختلف عن كلتا الحالتين، وتتيح لنا بابا نافعا من أبواب المقارنة بين النظم والإجراءات، ففي الاتحاد السوفيتي ينظم التعليم العام بحيث يوافق حاجة الدولة، وينظر إلى مهمة التعليم نظرة عالية، والشاب الروسي يشجع على الترقي في درجات التعليم إلى أعلى ذروتها، وينال من الامتيازات والوظائف بقدر ما ينال من محصول الدراسة، وينتقل الطالب من درجة إلى درجة في مراحل الدراسة حسب نجاحه في امتحانات المسابقة، وتتكفل الدولة بنفقات التعليم، وقد يمنح بعض الطلاب معونة في أثناء سنواته المدرسية، وتتجه العناية في التعليم العالي إلى العلوم الفنية، كما تتجه إلى الطب والزراعة وصناعة التدريس، ونحو نصف طلاب المعاهد العليا يتفرغون لهذه الدراسات، وستون في المائة منهم متخصصون للدراسة الفنية والعلوم الطبيعية.
فالاتحاد السوفيتي يشعر بمسيس الحاجة إلى التعليم الفني لمتابعة التقدم السريع في سياسة التصنيع، وينجم عن ذلك أن يلاحظ في نظام التعليم أن يجور عدد الفنيين على عدد المتخصصين للمباحث الذهنية، وإذا تخرج الطالب من المدرسة العليا يكون قد أمضى ست سنوات في علم الحياة «البيولوجي»، وخمس سنوات في العلوم الطبيعية، وأربع سنوات في الكيمياء، وأربعا في الرياضيات، يقابل ذلك عندنا أن الطالب الذي يريد أن يتخصص للعلم يمضي سنتين في دراسة علم الحياة، وسنة في العلوم الطبيعية، وسنة في الكيمياء، وثلاث سنوات في الرياضيات. والطالب الروسي في مستوى تعليم الكلية يعتبر من السعداء المجدودين إذا استطاع أن يصل إلى مدرسة فنية؛ لأنه يتمكن بذلك من الارتقاء إلى الطبقة الممتازة في البلاد الروسية اليوم، وفي وسعه بوظيفته العلمية أو الهندسية أن يقتني سيارة، ويسكن في جناح مستقل، ويحصل على مرتب حسن، ويشغل مركزا من مراكز التقدم والنفوذ، وعلى هذا نجد أن الروسيين قد عملوا بكثير من النظم والإجراءات التي بحثناها فيما تقدم، ورأينا أنها مجدية في الاستكثار من المهندسين والعلماء في الولايات المتحدة، فالاتحاد السوفيتي إذن قدوة يحتذى بها فيما يمكن إدراكه إذا روعي في نظام التعليم كله أن يدار لغرض واحد، وهو تخريج أكبر عدد مستطاع من العلماء والمهندسين والأطباء والمدرسين مع التضحية القريبة بالدراسات الأخرى من قبيل العلوم الإنسانية والأشغال والتجارة. وقد كان من نتيجة هذه الخطوة أن الاتحاد السوفيتي يسبق الولايات المتحدة، ويخرج ضعف ما تخرجه من المهندسين والعلماء.
ويلوح لنا من المحتمل أيضا أن هذه الفجوة ستتسع فترة أخرى من الوقت. ويضاف إلى هذا أن جميع المهندسين والعلماء في الاتحاد السوفيتي يعملون في صناعاتهم على حين أن الذين يعملون في صناعاتهم عندنا حوالي ثلثي المهندسين وثلث العلماء، وأن نحو الثلث من الفنيين في الاتحاد السوفيتي نساء، ومعدل النسبة في تخرج المهندسين والعلماء هناك توحي إلينا أن الأمة التي تريد أن تقتدي بالاتحاد السوفيتي، وتتخذ لها خطة كخطته الصارمة في التهوين من شأن الدراسات غير الصناعية سوف تصل إلى نتيجة أكبر من النتيجة التي أشرنا إليها آنفا، ولكن مع تضحية ذات بال بالحرية.
وفي وسعنا عند تقدير الطاقة الفكرية المدخرة في الأمم المتخلفة أن نجري على المنهج الذي توخيناه عند الكلام على الولايات المتحدة؛ لأن توزيع الملكات الذهنية على قدر ما نعلم مشابه لتوزيعها بيننا، ويكاد أن يكون المتوسط من ثلث أبناء الأمة إلى نصفهم قادرين من وجهة الملكات الذهنية على كسب معرفتهم في معاهد التعليم العليا.
وهنالك - كما لا يخفى - عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية يرى معها أنه من البعيد - إن لم يكن من المستحيل - أن تقدر تلك الأمم اليوم على تخريج المتعلمين في الكليات بهذه النسبة، فليس ثمة دلائل على التقدم الذهني ظاهرة في المجتمعات البدائية أو في تلك المجتمعات التي لا بد لها من تركيز جهودها المباشرة لتحصيل ضروراتها من الطعام والمأوى، مما يسمح لنا - نظريا - أن نقدر وجود ودائع من الطاقة الفكرية لم تمس إلى الآن في أرجاء العالم، وبينما تتناقص هذه الودائع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تظل في العالم بجملته ودائع عظيمة منها. فإذا استطاعت الهند بما فيها من سكان يبلغون ثلثمائة وستين مليونا أن تخرج من المهندسين والعلماء عددا يضارع في نسبته أقصى ما نستطيع تخريجه - أي أربعة أمثال عددهم الحاضر - ففي وسعها أن تخرج أربعمائة وخمسمائة ألف كل سنة، وهو عدد يكاد يساوي عدد المتعلمين من حاملي البكالوريا العلمية عندنا في الوقت الحاضر.
وظاهر - من ثم - أن رصيد الطاقة الفكرية العالمية عظيم جدا، وكلما مضت الأمم الأخرى في التصنيع تضاعف العمل الذي يبقى على الطاقة الفكرية أن تنجزه، وقد يتيسر لنا في الولايات المتحدة أن نستورد الخبراء من الخارج، ونعتمد على الاستيراد كوسيلة موقوتة إلى حين، إذ لا بد أن يأتي الزمن الذي يوجب استبقاء هؤلاء الخبراء في البلدان التي نشئوا بين ظهرانيها، ومتى نظرنا إلى الأمد الطويل جاز لنا أن نقدر أن العالم سيعتمد على محصوله من الطاقة الفكرية في أعمال التصنيع، كما نعتمد نحن على طاقتنا الفكرية الآن.
وبعد عرض هذه التقديرات عن مطالب العالم من الطاقة الفكرية استجابة لضرورات التصنيع والتموين، عرج مؤلفو الكتاب على تقدير عوامل النكسة التي قد تعرض لبرامج التنظيم في المجتمعات المصنعة على احتمال وقوع الحرب أو توقعها، وما يستدعيه هذا التوقع من صرف الجهود إلى أعمال الدفاع والتسليم.
قالوا من فصل عنوانه: نظرة إلى الأمد البعيد:
إن المجتمع المصنع أشد استهدافا للخلل والتهدم مما يخطر للكثيرين؛ لاشتماله على شبكة متوشجة من المناجم والمصانع يصل بينها مباشرة - وغير مباشرة - نظام متماسك من المواصلات، مما ينجم عنه شل الحركة في المجتمع كله إذا أصيبت مفاتيحه المحكمة، ويتبع ذلك امتناع وسائل الإصلاح بعد وقوع التعطيل، فلا تتأتى إعادة الشبكة إلى العمل قبل تعريض المجتمع كله للهلاك.
واستطرد المؤلفون من ذلك إلى بيان أثره في البلاد التي لم يتم تصنيعها، فضربوا المثل بإقليم كجزيرة سيلان، وقالوا: «إنها إذا حدث - مثلا - أنها لم تستطع أن تحصل على المادة المطهرة المعروفة بالدي دي تي، فقد يفضي هذا النقص إلى تفشي الوباء، وزيادة الوفيات فجأة زيادة جائحة تمتنع معها أساليب الوقاية السهلة، فيسري الوباء إلى البلاد التي تجاورها، وتأوي مئات الملايين كالهند والصين، وتتعرض هذه البلاد للدمار الجائح كما تعرضت له مجتمعات وافية التصنيع.»
Bog aan la aqoon