ثم جعل كعادته يتهكم من أحوال البلد وتصرفات كبار الموظفين وصغارهم، فلم يسلم من لسانه سوى قاسم بك، ولعل ذلك إلى حين ... والتفت إلى محجوب قائلا: لا تنس أن عملك يحتاج إلى لباقة وحسن تصريف للأمور. (ثم غلبه طبعه في التهوين من شأن الغير وأعمالهم فقال) ... هو سهل في ذاته، بل هو لعب، لا يحتاج بطبيعة الحال إلى فلسفة أو علم، ولكن إلى لباقة ...
فقال محجوب باهتمام: أرجو أن أنتفع بإرشادك ... - يسرني أن أجد مساعدا مخلصا لي؛ ولذلك احتفظت لك بهذه الوظيفة على كثرة المتقاتلين عليها؛ ولذلك أيضا ينبغي أن نكون يدا واحدة لأن أعداءنا كثيرون. لا يغرنك ما تلقى من بشاشة؛ فالعادة أن الموظفين يقبلون على صاحب السلطان ما أقبلت الدنيا عليه، فإذا أفل نجمه فأكرمهم من يدبر عنه دون أن ينشب فيه أظفاره؛ فلنكن يدا واحدة.
وتحدث الإخشيدي طويلا على غير عادته، وفكر محجوب طويلا فيما يدعو إليه الآخر من أن يكونا يدا واحدة، فقال مخاطبا صاحبه في سره: وقعت في شر منك، وساقك الحظ إلى مساعد من طينتك، يفهم الخلاص كما تفهمه، ولكل شيء آفة من جنسه، وليست منزلتي عند البك دون منزلتك؛ فإذا كنت مهرجه أو قواده فأنا زوج عشيقته.
وجاء الساعي الضخم، وأعلن حضور قاسم بك، فنهض الإخشيدي واصطحب محجوب إلى حجرته، وصافحهما البك بسرور، وهنأ الشاب على تسلمه العمل، وقال له برقة: أرجو لك التوفيق، والمستقبل الباهر ...
ومضى الإخشيدي يعرض عليه بعض الأوراق، أما محجوب فوقف انتباهه عند «المستقبل الباهر». يقولون: «يا بخت من كان النقيب خاله.» والنقيب أقرب إليه من خاله! واختلس من البك نظرات ليملأ عينيه من الرجل الذي صاد إحسان، وأفقدها رشدها. نظر إليه بغرابة كأنما ينقب عن سره السحري، أيوجد في محاسنه؟ أم جاهه؟ أم في مكان اكتشفته إحسان لحسن حظها أم لسوء حظها؟! أعجب بهؤلاء الرجال ذوي السلطان، إنهم يأتون الكبائر باستهانة، ويتجاهلون ما يسميه السذج ورطة أو مشكلة، ويخلقون الحل اليسير للأمر في غمضة عين، وكان هو الحل اليسير! ... كيف غوت إحسان؟ سيظل متحيرا حتى يعرف الحقيقة. ليس علي طه دون البك جمالا، وهو يفوقه بشبابه، فكيف غوت؟ ... ولو كانت تزوجته لقال آثرته لماله، ولكنها ... رباه ... تبا لهؤلاء الرجال الأقوياء، إنهم لا يعرفون المستحيل. أم تكون إحسان خدعة كبرى جازت على المصلح الاجتماعي الأحمق، وما هي إلا ... لا بد أن يعرف الحقيقة.
وغادرا حجرة البك، وسار به الإخشيدي إلى حجرة «السكرتير الخاص»، وقد قام ببابها ساع طاعن في السن، وكانت حجرة مستطيلة اصطفت على جانبيها المقاعد الجلدية، وتصدرها مكتب كبير. قال الإخشيدي: أستودعك الله، سأبلغ المستخدمين أنك تسلمت عملك اليوم.
وكان الإخشيدي يقول لنفسه: أما كان الأحكم أن يلحق الشاب بوظيفة بعيدة عن المكتب؟ فليس مما يرتاح إليه أن يوجد في نفس المكتب شخص له هذه العلاقة الوثيقة بالبك! ولكن ماذا كان بيده أن يفعل؟ كانت الحالة حرجة، والبك مضطربا خائفا، والوظيفة خالية، ولو لم يعثر على محجوب لربما كان هو الزوج! ولعل الأيام تثبت أن الشاب أهل لصنيعه!
وترك محجوب وحده في الحجرة، استخفه سرور عجيب كاد يرقص له، وجلس على الكرسي المتحرك ضاحك الثغر، ووضع يده على سماعة التليفون، ولم يكن استعمل التليفون قط! وجعل يحرك الكرسي ذات اليمين وذات الشمال. موظف خطير بغير شك، وغدا يمتلئ بطنه باللحوم والفواكه. تبا للفلاسفة الذين يقولون: إن السعادة في البساطة. أليست أمراض البطنة بخير من عذاب الجوع؟
واليوم والغد، أما الماضي فسحقا له ... •••
ولبث ساعة وحيدا حتى ضاق بوحدته، ورغب أن يفعل شيئا أيا كان، فضغط على زر الجرس، وفتح الباب، وجاء الساعي العجوز وقال بأدب: «أفندم يا سعادة البك.» وتورد وجهه! ووقعت الرتبة الجديدة من أذنيه موقعا موسيقيا مطربا، وإن تظاهر بعدم المبالاة، ثم قال باقتضاب: «قهوة.» وما كاد الباب يغلق مرة أخرى حتى رن جرس التليفون، فرنت أوتار قلبه، ورفع السماعة بقلق ووضعها على أذنه، ثم قال بصوت هياب: أفندم. - سكرتير قاسم بك فهمي؟ - نعم يا فندم. - البك موجود؟ - نعم يا فندم. - دعني أكلمه ... قل له محمد رشاد.
Bog aan la aqoon