ومضى المأذون يلقي الخطبة: الحمد لله الذي أحل النكاح وحرم السفاح. واستمر في محفوظاته، واستمر محجوب في تأملاته. وقال لنفسه: ولكن البك حرم النكاح وأحل السفاح! وجاراه هو على اعتقاده، فوقع على عقد نكاح في الواقع هو عقد سفاح! وصارا زوجين أمام الله والناس! ... واسترق الشاب إلى عروسه نظرة فرأى عينيها محمرتين تنذران بالدموع، فقال لنفسه ساخرا: أول الغيث قطر. وتبودلت التهاني، ودارت أكواب الشربات. كان زواجا غريبا، شعر كل من شارك فيه بأنه يؤدي واجبا ثقيلا يود الفراغ منه في أقصر وقت. ارتاح الوالدان دون أن يستخفهما فرح أو سرور، وغرق العروسان في وجوم وتفكر، وغلبهما شعور بالقلق والخجل. قد عجبت إحسان في أول الأمر، حين علمت أنه يراد تزويجها، وتساءلت حيرى: أين الذي يرضى بعروس مثلها؟ ثم ذكرت والدها المحترم، فلم تستبعد شيئا؟ والدها الذي تعامى عن سقوطها، والذي وصاها بعشيقها ولم يوصها بزوجها، فلماذا لا يوجد أناس على شاكلته؟ وقد وجد بالفعل واحد، وها هو يجلس إلى جانبها كزوجها، وإنها لتذكره، وتذكر كيف صدت هواه حين كانت تملك الصد عن هواه. وخالطها شعور نحوه بالاحتقار، ولكنها لم تتماد فيه، وقالت لنفسها ممتعضة: ألست مثله أو أضل سبيلا؟! كلانا باع نفسه للجاه والمال.
أجل، صارا زوجين ...
27
وقعت التجربة إذن، وتلقتها فلسفته بساعدين شديدتين، إلا أن نفسه لم تخل من قلق، بيد أن هذا القلق لم يقعده عن العمل، بل على العكس جعله أشد رغبة فيه، فلم ينس غرضه لحظة واحدة، ولم يضع ثانية بلا نشاط، وكأنما وجد في العمل ملهاة عن وساوسه. راح يعد مسوغات تعيينه، وكانت أعجبها شأنا شهادة بأنه «حسن السير والسلوك»، ووقع عليها الإخشيدي وزميل له؛ مما جعل محجوب يقول ساخرا: «من يشهد للعروس؟»
وتسلم عشرين جنيها ليستعين بها على إصلاح شأنه، فأخذ الأوراق ذاهلا؛ لأنه لم يكن رأى شيئا كهذا من قبل، وجعل يعبث بها باهتمام، ويتفرس فيها بغرابة وإنكار. هذا ثمن القرنين اللذين يحلي بهما رأسه، كل قرن بعشرة جنيهات! ورأى على إحدى الورقات صورة الفلاح، فجرت على فمه ابتسامة خفيفة، وذكر أباه طريح الفراش، المهدد بالجوع، وتساءل: لماذا لم يصوروا أحد الباشوات ... أو العلم التركي؟! وقال لنفسه ساخرا: إن هذه الصورة شبيهة بإمضائه على عقد الزواج. ومضى بجيبه المنتفخ إلى الخياط، وابتاع قماشا لبدلتين، فأدرك الرجل أن الطالب صار موظفا، ولم يكن فصل له سوى بدلة واحدة في مدى أربع سنوات الدراسة، ثم ذهب إلى الموسكي، واشترى بيجامتين، وقمصانا، وفانلات وجوارب، وحذاء وطربوشا، كما ينبغي لعروس! وحزم ثيابه الجديدة في حقيبة كبيرة وقد تورد وجهه سرورا وحياة، وألقى على حجرته الصغيرة نظرة شامتة، وذكر ليالي فبراير البشعة، ودكان الفول بميدان الجيزة. تبا لهاتيك الأيام السود! لن تعود أبدا مهما كان الثمن! ... ينبغي أن يتورد هذا الإهاب الشاحب، وأن يمتلئ ما بين هذا الجلد وهذا العظم ، وأن يصفو هذا الذكاء الجبار، وأن يهلك شبح الجوع المقيت. إن النعامة لكي تعيش جعلت رقبتها كالثعبان طولا، والأسد لكي يعيش جعل قبضته كالقنبلة فتكا، والحرباء لكي تعيش اصطنعت كل لون، وهذا ما فعله هو على اختلاف الوسائل! أجل، وليكن طموحه لا نهائيا، وطمعه لا حد له؛ فقد غرم ثمنا باهظا، ويجب أن يكون الجزاء كالعمل. وتفكر مليا، ثم وصى نفسه قائلا: الحذر! ليفعل ما يشاء، ولكن لا يجوز أن يقول إلا ما يشاء الناس. وقد فطن إلى هذه الحقيقة منذ البدء؛ فإذا امتدح الفضيلة بكلمة أو كلمتين لم يعدم من يسبغ عليه لقب الفاضل، أما إذا صارحها العداء فسينقلب عليه الناس جميعا، وعلى رأسهم الملوثون. وليكن له أسوة في الإخشيدي الذي يرى في كل حفلة خيرية! ... بل لماذا لا يفكر جديا في الاشتراك في بعض الجمعيات الخيرية؟! ثم ذكر زواجه! وعاد يتساءل: كيف هان علي طه على إحسان؟ كيف زلت قدمها؟! وما عسى أن يفعل علي إذا علم غدا أن إحسان صارت زوجه؟ سيسقط في يده، ويتشتت ذهنه حيرة، ولا يصدق أنه - محجوب - كان سبب شقائه؛ فإذا لم يجد بدا من التسليم بهذه الحقيقة الغريبة اتهمه حاقدا ثائرا بكل خسة ودناءة وغدر ذميم. ليكن، فليتهمه كيف شاء، وليحقد عليه ما وسعه الحقد. بيد أنه ذكر دينه الذي لم يقضه؛ الخمسين قرشا، فصدق عزمه على ردها إليه في يومه، وكره أن يواجهه بنفسه لشعوره بذنبه، فأرسلها بالبريد، وارتاح لذلك أيما ارتياح، وشعر بأنه قطع آخر خيط يربطه بعلي طه، وأنه لا يجوز له بعد الآن أن يعبأ بما يتوهمه الآخر أو بما يحسه أو بما قد يفعله. ودعا البواب وكلفه بيع أثاث حجرته، ووعده بالتنازل عن ثلث ثمنه نظير أن يحتفظ له بما قد يصله من خطابات باسمه. وكان يفكر وقت ذاك في والديه، ولعلها كانت أول مرة يذكرهما بلا سخط أو تذمر أو غضب، وقد بات في نيته أن يرسل لوالده جنيهين كل شهر، بل يزيدهما إلى ثلاثة إن أمكن.
أما غدا، فصباحا يذهب إلى الوزارة، ومساء يأخذ عروسه إلى عشها الجديد.
28
واستيقظ مبكرا، ومضى إلى الوزارة، وانتظر الإخشيدي في حجرته، وجاء المدير عند تمام التاسعة، فتصافحا بمودة ظاهرة، وشربا القهوة معا. وقال له الإخشيدي وهو يهيئ مكتبه: لا شيء يصدق! أتعلم أن أكثرية طلبات الإعفاء من المصروفات مقدمة من ذوي اليسار؟
ولم يكن محجوب - في ذلك الوقت على الأقل - ليهتم بأمثال هذه الأمور، ولكنه لم ير بدا من التظاهر بالدهشة، وقال: شيء لا يصدق حقا! ... وكيف يسوغون التماساتهم؟
وقال الإخشيدي: لا حاجة ماسة إلى التسويغ، حسب أحدهم أن يقهقه ضاحكا، وأن يقول لقاسم بك: «ألا يكفينا هبوط أسعار القطن؟» ثم مزاح فمداعبة فموافقة!
Bog aan la aqoon