أجل، لقد انقطعت السمفونية اللبنانية بانقطاع خيط تلك الدودة، وحرمنا لبس الحرير، بعد موت التوت في جبالنا. ماذا بقي يا حضرة الوزارة، شرفي زورينا في العمر - لا في السنة - مرة، فهذي قريتي التي كان التوت يزنرها ويكللها. ففي بطاحها توت، وفي أوديتها توت، وعلى جبينها توت، وعلى عبري نهرها الشتوي توت، وحول بيوتها توت، أما اليوم فلم يبق فيها إلا بضع عشرات. كانت تصدر ثلاثة آلاف أقة شرانق، واليوم لا يمكنها أن تصدر إلا أقات معدودات، هذا إذا كان عندنا بعد، من يربي هذه الدودة الذهبية.
أقول هذا لأن الفلاح صار مثل الراهب، ولولا الراهب ما عمرت جبال لبنان، ولكن الزمان تغير، وتغير معه الفلاح، والراهب صار يؤثر سكنى القرى والدساكر والمدن بعدما كان ناسكا يعتصم برءوس الجبال، ولا يخرج من ديره إلا متلثما بأسكيمه كالمرأة الزميتة المحافظة. وكذلك شباب الضيعة اليوم، فإنهم يؤثرون المدن، ويفضلون رشق وردة، في عروات بالطاتهم، على شك المنجل والمجز في زنارهم، وعلى سوق بقرهم وحميرهم إلى ميادين العمل الحر. إنهم يفضلون الاستخدام ولو أكلوا من كيسهم، ولهذا انبشمت المدن وضاقت العاصمة، وخوت القرى من كل شيء إلا العاجزين.
وعلى كل فالكحل خير من العمى، سلمت يد وزارة الزراعة، ولعلي أعيش حتى أسمع الفلاح اللبناني يغني موالنا القديم: بغال محملي، وجراس بتعن.
ولكن الحمولة اليوم غيرها بالأمس. كانت على ظهور البغال ذات الأجراس التي جعلت من اللبناني العامي شاعرا ملهما، وصارت اليوم في سيارات الشحن التي لا تمهل أحد ليستلهمها شعرا؛ لأنها:
تمشي وعزرائيل من خلفها
مشمر الأردان للقبض
إن القلة لم تدرك بلادنا إلا عندما ذهب التوت، وخلت الديار من تلك الدودة، يا للعجب! اللبناني فلاح، والتفاحة «مدام صالون» لا بد من معاملتها حسب الإتيكيت، ومع ذلك أجلت التوتة عن ديارها وتربعت هي فيها.
فالتوتة لا تطلب أدوية وعقاقير تستعمل في إبانها، والتفاحة، إذا فات الفوت، نخرت الديدان جذعها وأفسدت ثمارها. التوتة لبنانية جبلية حقا لا تحتاج إلا الفلاحة، وعند الضرورة تستغني عن السماد. قضبانها للوقود تغني عن الكاز لإشعال المدفأة، وقشرها يسد مسد خيوط القنب، ولعله أفضل منها في مواضع. وهذا القشر يصلح علفا للبقر.
وورق التوت موسمان: موسم الربيع؛ لتربية دود الحرير، وموسم الخريف «التشارين» علف أيضا للبقر والخرفان وغيرها. وما يسمونه «الجزة» يغني عن الكرسنة، فيخلط بها التبن فتقبل على أكله البقر كما يقبل بعضنا على الملوخيا ... وقد نسيت نصيب الناس من هذه الشجرة المباركة، فثمرها أشهى من ثمر الفريز وأكثر سكرا وأطيب نكهة.
الخلاصة: هذا الموسم لا يضايق المواسم الأخرى ... وهذه الشجرة المباركة خشبها أصلب وأجمل من الجوز الذي نباهي بقشره. الخلاصة: كل ما فيها ينفع ولا يذهب شيء منها هباء.
Bog aan la aqoon