Nuur iyo Balanbaalis
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Noocyada
24
ومن أسف أن أي ترجمة في أية لغة لن تعينك على هذا؛ لأن أقصى ما يمكنها أن تعطيه هو الظل العابر والطيف الزائل. ولو استطاعت ترجمتي لقصائد الديوان أن تنقل إليك شيئا من هذا الظل وهذا الطيف، فستشعر بالحرية التي كانت وراء خلقه، وستشعر أيضا بعذاب الحب ومتعته، وستجد حبيبك فيه-إن كنت تحب! قد تسألني الآن: لم تكتب عن هذا الديوان؟ لم لم تنقله كله ما دمت تؤكد ضرورة قراءته كله؟
ولماذا تقتصر على بعض القصائد القليلة (وقد بلغ مجموعها ثلاثمائة وخمسا وثلاثين لم تختر منها إلا نيفا وخمسين). ثم لماذا تنقل هذا الشعر بعد أن قلت أكثر من مرة إن الشعر لا يترجم؟!
25
وجوابي على هذا أنني وجدت نفسي أهيم في رحلة مع هذا الديوان، كما فعل صاحبه في رحاب الشرق. امتدت يدي إليه في أثناء البحث عن قارب النجاة وسط بحار الهموم التي تغرقنا ليل نهار، وفي لحظات البحث عن الذات وسط عالم لا ينجح إلا في إبعادنا عن أنفسنا. عشت معه ليالي وحدة طويلة. ودون أن أشعر وجدت بعض قصائده تفرض نفسها علي فأنظمها شعرا بجانب الأصل (مع أني طلقت الشعر وطلقني منذ سنين!) ومعظمها يلح علي أن أنقله نثرا سلسا بسيطا حتى يوحي بعبير الشرق وأنفاسه، وكنت منذ سنين - لا تقل عن عشر - قد شغلت باهتمام جوته بالأدب العربي وبالإسلام، فأعدت النظر فيما كتبت وأضفت إليه. أما في السنوات الأخيرة، فتشغلني حالة الركود التي أصابت الأدب وقوة الإبداع عندنا، كما تشغل كل المخلصين المشفقين عليه - بحيث خيل إلي في ساعات الاكتئاب أنه يرقد مسجى على فراش السأم والأدباء من حوله يرتلون أغنيات الرثاء لكي يعينوه على آلام الاحتضار، وفكرت - لنفسي دائما - ولكي أطرد عني الصورة الموحشة التي أرجو ألا تعدي أحدا غيري ! أنه قد يحتاج إليه إلى نبع ملهم. ورأيت أن الديوان الشرقي نموذج عالمي رائع على الاستلهام وتجديد شباب الخلق وربيع الإبداع. سألت نفسي - وما زلت أتابع هذه المناجاة التي لا تلزم أحدا! - ماذا لو قدمت هذا النموذج وأغريت البعض منا بالتجربة؟ ألا يمكن أن يكون الانفتاح الحقيقي على التراث العالمي علاجا لبعض همومنا الأدبية كما نرجو الآن للانفتاح الاقتصادي والثقافي والعلمي؟
صحيح أن المحاولات السابقة كما قلت كثيرة، وقد نجح أقلها وأخفق أكثرها. ولكن يبدو أن مبدأ الاستلهام نفسه لا عيب فيه، ما دامت كل الآداب والشعوب قد أخذت به في كل البلاد والعصور، وما دام الأثر الفني الخالد يستقبل في مختلف الآداب بل عند مختلف الأفراد بطرق مختلفة، تحكمها ظروف العصر وهموم الأديب وصدقه مع نفسه وواقعه. ماذا لو أقبلنا على استغلال هذه الكنوز كما استغل شاعر الألمان أكبر كنوز الشرق، ولم يجد ما يمنعه من أن «يركب براق محمد ويحلق في السموات الفسيحة، ويحتفل بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي.»
26
صحيح أن لهذه التجربة شروطا تحتمها كل تجربة فنية: الضرورة التي تدفع الكاتب إلى تناول موضوع سبقه إلى غيره، والصدق الذي يجعله أصيلا في تناوله لا مقلدا، ومعبرا عن صميم ذاته لا مزيفا من هواة الاستعراض الذين ابتليت بهم حياتنا العربية في كل مجال. إنها ليست دعوة للآخرين، بقدر ما هي محاولة تقديم نموذج. ويبقى للأديب والفنان بعد ذلك حريته التي لا يكون بغيرها أدب ولا فن. فليس حتما أن يبعد في رحلة إلى الشرق كما فعل جوته، ولا أن يمد عينه إلى الغرب أو الشمال أو الجنوب. ربما تكون الكنوز تحت قدميه، في تراثه الشعبي أو «الرسمي»، في تاريخه القديم أو الحديث، وفي واقعه البائس حوله وتحت بصره وقدميه. ألا يمكن أن تحمل التجربة أملا في ري النبع الذي غاض، وبعث الدماء في الجسد المريض، أو تخليصه على أقل تقدير من المسكنات الرخيصة؟
ونأتي إلى سؤال عن نقل الديوان فأقول: وما الداعي إلى هذا ؟ إن القلب ليتمزق وهو يحاول نقل الشعر من جسده الذي ولد فيه - أي من نظام اللغة والصور والإيقاع والنغم الحي - إلى جسد آخر غريب عنه. ولا بد أن تكون لدى الإنسان قدرة شيطان ملهم أو براعة ساحر لينجح كل النجاح في هذا، وهو محال. ويكفي أن يقتصر الجهد على إظهار القارئ على معنى هذا الشعر - أو حتى ظل المعنى - وإيقاظ حنينه إلى لقاء الأصل الأول إذا استطاع. والأمر في النهاية لا يخرج عن أداء واجب ثقافي وإنساني تقوم به كل الآداب في كل العصور مهما تفاوتت حظوظها من التوفيق. أضف إلى هذا أن الديوان الشرقي قد نقل بالفعل إلى العربية. وقد تعهد بهذا العمل الشاق رائد كبير لا يخشى المحال. فقد ظهرت ترجمته منذ سنوات بقلم أستاذنا الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي. ومع أن حب الحقيقة يضطرني إلى القول بإنها مزدحمة بالأخطاء - التي لا شك في أنها جاءت نتيجة التسرع وعدم الرفق بالشعر! - فإن حب الحقيقة أيضا يدفعني إلى الإشادة بهذه المحاولة والإعجاب بما تنطوي عليه من جهد وصبر وطاقة فذة تجلت في التعليقات الوافية والشروح المستفيضة التي لا غنى عن الرجوع إليها. وبجانب هذه الترجمة التي أعترف بفضلها أود أن أسجل واجب الشكر والعرفان للكتاب الممتع الذي أحبه القراء وما برحوا يقبلون على قراءته منذ ظهوره قبل أكثر من عشر سنوات، وهو كتاب «الشرق والإسلام في أدب جوته» للمرحوم الشاعر عبد الرحمن صدقي الذي استحق عليه جائزة الدولة في الأدب. وهو يقدم لوحة بديعة عن حياة جوته وشعره و«هجرته» إلى الشرق. كما يتخلله عدد كبير من قصائد الديوان وغيرها من القصائد المعبرة عن الشاعر في تجارب حبة المختلفة، ترجمت جميعها ترجمة رصينة بليغة (وإن كانت هذه البلاغة قد كلفت صاحبها البعد عن الأصل).
لقد كانت محاولتي أكثر تواضعا؛ فهي لم تخرج عن تقديم نموذج للاستلهام الأصيل وإثارة القضية نفسها أمام القراء وأصحاب المواهب الشابة. ولهذا اكتفيت بتقديم كل ما هو ضروري للإلمام بهذه التجربة الفريدة التي عاشها جوته وفي لقائه مع أدب الشرق وروحه، كما رويت قصة الديوان الشرقي نفسه التي لم تكن مجرد نهم إلى المعرفة والاطلاع على عالم غريب، بل كانت بحثا عن الذات وتجديدا لمنابع الخلق والإبداع، وشهادة على معجزة الحب التي مكنته من هذه «الهجرة الشرقية» إلى الكنوز الدفينة في صدره. وقد توخيت أن يكون هذا كله في حدود كتاب صغير قصدت منه إلى الإمتاع وإثارة الفكر والخيال أكثر من سرد الحقائق والمعلومات. ولهذا عدلت عن التعليقات المستفيضة، التي يجدها القارئ في طبعات الديوان المختلفة في لغته الأصلية أو في ترجماته العديدة ومن بينها الترجمة العربية، واكتفيت ببعض الإشارات الموجزة التي أرجو أن تنجح في وضع القصائد المختارة في سياق تفكير الشاعر ورؤيته وسائر إنتاجه.
Bog aan la aqoon