Nuur iyo Balanbaalis
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Noocyada
و«حنين مبارك» من أهم قصائد الديوان، بل لعلهما في رأي معظم النقاد من أروع شعره على الإطلاق وأكثره دلالة على شخصيته وفكره. ولا يقتصر موضوع الحب على هذه الكتب والقصائد وحدها، بل يتغلغل أيضا في قصائد الحكم والأمثال، فما يعبر مرة عن القلب بصورة طبيعية مباشرة يعبر مرة أخرى عن الأشياء عن طريق التأمل العقلي المتزن. وفي كل الأحوال تتفتح شخصية الشاعر وتمتد في كل اتجاه كأنها قد أصبحت دائرة كبرى تضم وجوده كشاعر كما تضم نظرته إلى الكون (وبخاصة في الكتب الثلاثة الأولى من الديوان، وهي: المغني وحافظ والعشق) وتصوره في علاقاته وصراعاته، مع غيره من الناس ومن صغار الشعراء (من الكتاب الرابع إلى السادس، أي كتب التفكير والضيق والحكم) سواء في صورتها السلبية وهو يقاوم ظواهر الطغيان (الكتاب السابع من تيمور والشتاء) أو في صورتها الإيجابية وهو يتحقق بنعمة الحب والرضا والسعادة (من الكتاب الثامن إلى التاسع، أي كتابي زليخا والساقي)، وتأتي الكتب الثلاثة الأخيرة فتكتمل الملامح الدينية التي تكسو الديوان كله. فالعالم يرمز لله، و«الله» حاضر في جميع العناصر، وعبادة الطبيعة عند الفرس الأقدمين وعقيدة التوحيد عند المسلمين وإيمانهم بالآخرة ينطقان بلغة رمزية واحدة تعبر عن وحدة التجربة الدينية الأولى، أو عن دين أصلي ينشر فروعه وأوراقه كتعريشة الكروم فوق بيت العالم، وهكذا تتلاقى الأرض مع السماء، والوثنية مع الرسالات السماوية، والإنسان مع العالم، والحب والشباب المتجدد مع الدين، والعقل والإحساس بالتفوق والتعاظم مع الميل إلى الدعابة الماكرة، تجد هذه الموضوعات المتفرقة في قصائد متفرقة، وقد تجدها مجتمعة في قصيدة بذاتها (مثل قصيدتي الهجرة والحنين المبارك اللتين ورد ذكرهما أكثر من مرة) ويصبح الديوان دائرة واحدة ووحدة دائرية، تعكس كل قصيدة منها سائر القصائد على صفحة مرآتها، وتكشف للمنتبه عن المعنى الكامن للأشياء
22
كأنها (مونادة) ليبنتز الوحيدة الحبيسة بين جدرانها، ومع ذلك فهي أشبه بمرآة تعكس العالم كله من وجهة نظرها وبقدر وضوح إدراكها. فلو عرفت مونادة واحدة - أي لو عرفت أي كائن فرد مستقل من بين جميع الكائنات الفردية المستقلة معرفة تامة - لأمكنك أن تصل منها إلى معرفة كل ماضيه وحاضره ومستقبله، ولو تذوقت قصيدة واحدة من قصائد الديوان لعرفت الديوان كله، ومن يدري؟ ربما أحسست بروح الكون كما جربه هذا الشاعر وحاول أن يكشف عن معناه وسره، وأن يملأ بالفعل والوعي والإبداع كل لحظة من لحظات الزمن الذي أتيح له فيه. •••
لا شك أن الديوان الشرقي تعبير ذاتي عن جوته في كهولته وشيخوخته، وهو يكشف بمضمونه ولغته عن شخصية صاحبه وينفذ إلى صميم جدرانه، ولكننا نخطئ خطأ كبيرا لو تصورنا بعد هذا التتبع التاريخي أنه مجرد سيرة شعرية ذاتية لحياته. فليس حاتم هو جوته، ولا مريانة هي زليخا. صحيح أنه يرتبط بمادته الشرقية ارتباطا يوشك أن يكون في بعض الأحيان حرفيا، ويتأثر بشعر حافظ الشيرازي - توءم الروح - في بعض المواضع إلى حد التقليد، ولكن الديوان عمل فني قبل كل شيء، يشكل عالمه الأسطوري بنفسه، ويستخدم الموضوعات الشرقية لتكون بمثابة أقنعة يخفي الشاعر فيها نفسه كما يكشف عنها في وقت واحد، ويأخذ المضمون لكي يتصرف فيه بحريته الفنية وقدرته على التشكيل.
إن العنصر الشرقي يعبر عن عنصر عام يجمع بين الشرق والغرب، والروح الشرقي يتجاوب مع منطقة روحية مماثلة في باطن الشاعر نفسه. لقد وجد في الشرق كنوزا رأى أن من حقه استغلالها فراح يستخدمها ببساطة كأنها شيء بديهي أو جزء حي لا يتجزأ من كيانه الشعري. ربما تعجب قارئه الغربي من الأسماء الشرقية، وربما سأل نفسه من هو المتنبي أو المجنون، ومن هي ليلى أو بثينة، ومن هو شهاب الدين (السهروردي) الذي خلع ثيابه في عرفات ليدخل الحرم،
23
وغيرها وغيرها من الأسماء التي ربما لا يعرفها غير المختصين بالآداب الشرقية، ولم يعرفها الشاعر نفسه إلا قبل العكوف على العمل في ديوانه بزمن قصير. ولكنه سيفطن أثناء قراءته إلى أنه أمام شاعر غربي يتجول في ربوع الشرق ويتقمص في الوقت نفسه شخصية شاعر شرقي. إنه يسهر في خيمته مع الساقي في ليلة صيف، ولكنه يتحدث عن هسبيروس (نجمة المساء) وأورورا (الفجر) ويذكر إجلال المسلمين للقرآن الكريم لكي ينحى باللائمة على صغار الأدباء في عصره ممن فقدوا كل إحساس بالاحترام والخشوع والتوقير. ويصف نعيم الفردوس وحوريات الجنة لكي يتمنى أن يحدثهن بلغته الألمانية ... إلخ. فالمادة الشرقية مجرد مناسبة لا قيمة لها في ذاتها، والمهم هو الشكل الفني الذي يعطيه لها، واللعب الحر الذي يجعله يتصرف فيها. إن الشاعر يعرف أنه يلعب وهو يريد أيضا أن يستمتع بهذا اللعب.
ومن هنا كان الوعي والوضوح اللذان يغمران قصائد الديوان، ويحدثان التوازن بين المادة والشكل، بين مرح الشيخوخة ونزواتها الفاضحة ولوعة الحب وجراحه التي لم تعد تليق بمن في سنه. وفي مقابل هذا الوعي الناصع نجد النشوة التي تسري في جميع كتب الديوان، فهي نشوة السكر، والعشق، والشعر، والإيمان العميق بالله. ولكنها نشوة لا تعمي الحس، بل تضيء الرؤية. أضف إلى هذا كله المرح السامي والدعابة الساحرة، التي لا تبلغ أبدا حد التهكم الجارح (حتى في الفردوس تغلبه النكتة! راجع قصيدة سماح ضمن كتاب الفردوس) والخفة التي يتناول بها أصعب مشكلات الحياة وأسمى أسرار الدين، فيسقط عليها نور العقل وبسمة الحكمة.
أما العاطفة الجريحة والشكوى المرة من قدره في الحب، فنجدها في القصائد قليلة (مثل عزاء سيئ و«صدى» بالإضافة إلى القصائد المنسوبة لحبيبته مريانة) تخلو تماما من المرح والتحرر الروحي اللذين يشيعان في الديوان، على نحو ما تخلو منها قصائد قليلة ترين عليها الجدية والقتامة (مثل «وصية الديانة الفارسية القديمة» و«حنين مبارك» و«عودة اللقاء») غير أن الرغبة في اللعب الحر، والميل إلى الخفة والمرح، هما اللذان يسيطران على الروح العامة للديوان، لأنه يكشف في كل قصائده عن «الاستقطاب» الكامن في كل حياة، عن جدل الحب الذي يقوم على الوجود وعدم الوجود، وجدل العقل الذي يقوم على المعرفة والعلم بحدود هذه المعرفة، وكأنما هي جميعا أبعاد من قوس الأنا الشاعرة التي تحيط بكل شيء إحاطة قبة الفلك بالأرض وما عليها، فالشاعر يتجلى في شعره، ولكنه في الوقت نفسه يرتفع فوقهن ليرى نفسه وقصيدته في الوقت نفسه. وقد كان من شأن هذا الوعي الواضح، العابث، المتفوق، العميق في آن واحد أن يحدد أسلوب الشعر وشكله وإيقاعه. فهو خفيف، متدفق، يكاد يقتصر على مقطوعات قصيرة من أربعة أبيات، تعرض لغة حافلة بالصور المتنوعة - كصندوق الدنيا! - مستمدة من عصور أدبية مختلفة، ومن لغة الشرق وتشبيهاته (حيات الشعر، وجه القمر، احتراق الشمعة ... إلخ) وفي قصائد متعددة متنوعة الأغراض، تجمع بين الحكم الموجزة والأنغام الفخمة، والصور الزاهية الألوان، والنوادر العجيبة، والروح الصوفية العميقة، ولهذا يحتاج الديوان، كما يحتاج الشعر عموما، إلى مشاركة القارئ وصبره، كما يتطلب تجربة روحية تعينه على الإحساس بتجربته.
إنه قبل كل شيء كتاب تعيش معه وتحياه، وتردد ألحانه وتتناغم معها، لأنه كتب للناضجين والمحبين.
Bog aan la aqoon