على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راقه أن يكون طبيبا، وعمرو رأى أن يكون تاجرا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له: لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرا؟! وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبا؟! كلا؛ فكل له حريته يفعل ما يشاء ولا ضرر ولا ضرار، وهل يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترفون هذه المهنة؛ لأنه كان يكتسب ربح بلد بأكمله، فجاءه هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟! على أن ذلك لو جاز قوة لما صح أن يجوز شرعا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءا كبيرا من أعمالنا، فهل نقتل الوقت في الكسل أم نبحث عن عمل يشغلنا؟! لا غرو وأننا نفعل الثاني.
ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم أن نشغل النصف الآخر بما تميل له نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم، لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات! كلا؛ ولكن إذا وجدت منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن فإن الحرية الشخصية تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، قد يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل، وقد يجعلون ذلك حجة علينا، ولكن من النساء من لم تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات زوجها أو طلقها ولم تجد عائلا يقوم بأولادها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها، وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل هؤلاء من القيام بما يرينه صالحا لأنفسهن قائما بمعاشهن؟! على أن الحمل والولادة إذا كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضا، وأي رجل قوي لم يمرض ولم ينقطع عن عمله وقتا ما؟
يقول الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري! أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟! ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به كتاب؟! نعم؛ إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكن اشتغال بعضنا بالعلوم لا يخل بذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريا، بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظاما متبعا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام، كالبرابرة مثلا، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم ويتجشم نساؤهم مشقة الزرع والقلع حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها، وها نحن نرى نساء الفلاحين والصعايدة يساعدن الرجال في حرث الأرض وزرعها وبعضهن يقمن بأكثر أشغال الفلاحة كالتسميد والدراس وحمل المحاصيل ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي ورفع المياه بما يسمونه بالقطوة، وغير ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضياع (العزب)، ورأت أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء أصحاء.
فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها، وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسا، أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟! هل ترتبن في أن المرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال أننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه.
حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأمريكا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير؛ ذلك نتيجة استعمالهم لها وقد توارثوه أيضا وهم في حاجة إليه لتسمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم، كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير، فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد أما نحن فلا، ولم يكذب من قال إن الوظيفة تكون العضو، هؤلاء العميان يعتمدون كثيرا على حاسة السمع، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استعبدنا الرجال قرونا طوالا حتى خيم على عقولنا الصدأ وعلى أجسامنا الضعف يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم أجساما وعقولا؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ وأنه لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلا، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد، أوليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان الأول إلى الآن؟! ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين والرومان؟
نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كولمب لما تعذر علي أنا أيضا أن أكتشف أمريكا، وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة، ولكن كان منهن النابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي: فيما سمح لهن بممارسته، وبعضهن فقن الرجال في الفروسية والشجاعة، كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر بن الخطاب وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من أسر الروم، وجان دارك التي قادت جيش الفرنسيس، بعد هزيمته أمام الإنكليز، فشجعتهم على استمرار القتال وأصلت محاربي وطنها حربا عوانا، ولن أضرب مثلا بالنساء اللاتي تولين الملك فأحسن سياسته، ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابيلا ملكة إسبانيا، وإليزابيث ملكة إنكلترا، وكليوباتره، وشجرة الدر امرأة الملك الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا إنه دبره لهن الوزراء وهم رجال! على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين، كالملكة فيكتوريا مثلا أو وولهمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.
إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصار على هذا وذاك مثبط للهمة ورجوع للوراء في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا عن الاستمرار على الدرس الكثير فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا فليقروا عيونا ولينعموا بالأمان، فما يتخوفون منه بعيد، وإذا فرض أن اشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تقلد وظيفة أو تشتغل خارجا، وإنما تفعله لإطفاء شوق النفس للعلم أو الشهرة ولما تفعله، فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة ولا بتقلد الوظائف الحكومية أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟! أظن ذلك مستحيلا، على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها، ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهن ساعات وهي تسمعه ولا تتحرك؟! فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضا تحضير القضايا أو الاشتغال بالتحرير والقراءة؟!
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا، إننا لسنا محلا لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟! تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
قال قائلهم: لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع؛ لأنهن لن يحتجن إلى أكثر منها، فمن أين له أننا نودع نقودنا في مصرف، أو نبيع وثيقة (كمبيالة)، أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟! إنه إذا ادعى بذلك تفضيل الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضا قلنا: لم تصح هذه الفراسة فقد أظهر الواقع غير ذلك، أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة على لغة في التعلم، فذلك ما لا أفهمه لأني أعتبر اللغات كلها نافعة، ولو وجدت من يعلمني البربرية أو الصينية لتعلمتها، إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها ملأى بذلك، أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال فيجب أن نشكر للدكتور عبد العزيز نظمي بك اهتمامه بهما وحثه عليهما.
أيتها السيدات، العلم منور للعقل على أي حال سواء عمل به أو لم يعمل، فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسباحة ولكن نعلم مواقع البلاد وأبعادها؟! إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته ولكنه لا يشتغل به في صناعته، كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها، ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم: إذا كنتم لن تتملكوا في تلك الأمم فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها؟! نسمع في هذه الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة، وأن حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما يهيئنا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار، لو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقي قاطرات، وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق الزهور فقط، أم التي تعرفهما أيضا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق زوجها المريض بالسكر، أو جسمها السمين الذي تريد تضميره؟ وهل وجود أصص (قصارى) الزرع في حجرتها ليلا صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضر بهما؟ فهذه تعرف تدبير المنزل وتلك تعرفه، ولكن تعلم واحدة علم النبات تحفظ لها صحتها وصحة عيالها من التلف، فضلا عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟!» إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له تأثير خاص في الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم، فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لتكون الصلة شديدة بينه وبينها؛ فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه.
Bog aan la aqoon