إن المشي والنزهة ليكسبان علما وتجربة، فضلا عما يؤثران به في الصحة وتنقية الدم وما يخلفانه من النشاط في الأعضاء لمساعدتهما الجسم على إخراج فضلاته المحترقة، فكم في الطريق من مثار للرحمة ومن نافع لتعليم الأطفال. وليست الفضيلة دروسا تلقى على الآذان وتحفظ باللسان، وإنما هي فواعل تؤثر في النفس فتكسبها صدق العزيمة على رد هجمات السوء، وتحبب إليها الحسن من الخصال، وكم في المتنزهات من دروس صامتة لجمال الكون، وتسبيح الخالق والإيمان بما أنزله، وكم فيها من شياطين للشعر والموسيقى النفسية توحي للنفس ما توحي من جمال وحكمة.
إننا في مصر ولكنا لا نعرفها، أرأيت أغرب من مبصر أعمى؟! إن الأهرام على قيد فلتة العيار من القاهرة، ولكن كثيرات منا لم يزرنها، والآثار تخبرنا عنها السائحات الأجنبيات فنبدي جهلا مزريا، ونعجب مما يقصص علينا، وتاريخنا مبعثر في الأرض من قديم وحديث ولا من تلم به حيا من غير الكتب الجامدة الخالية من الروح، ألم يأن لنا أن نطلب الحرية قليلا فقد طلبتها أرجلنا التي كاد يصيبها الكسح من طول الجلوس، وأعيننا لم تر من بدائع الكون شيئا؟! خصصوا لنا متنزهات - إن شئتم - لا يدخلها غير النساء وخليق بالمحافظين والمديرين أن يجيبوا هذا الطلب كل في مديريته، ووفروا قليلا مما تصرفونه على الزخارف الكاذبة لبناء أو استئجار بيوت فسيحة الأفنية ليتروض فيها نساؤكم وأطفالكم بالمشي ليس إلا، أما نصيحتي للسيدات فهي أن يتركن الزيارات جانبا وينزهن أنفسهن في الخلوات القريبة مع آبائهن أو بعولتهن؛ ليستفدن صحة وعلما وجمالا.
خطبة في نادي حزب الأمة
وبحضور مئات من السيدات
أيتها السيدات
أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن، وتجذل بما به تجذلن، وأحيي فيكن كرم النفس لتفضلكن بتلبية الدعوة لسماع خطبتي، إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن والإنسان يخطئ ويصيب، فمن رأت في خطبتي رأيا مخالفا لما تعتقد أو أحبت المناقشة في نقطة فلتتفضل بإبداء ما يعن لها بعد انتهاء كلامي.
أيتها السيدات، ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه، ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها، فقد عمت الشكوى منا وكثرت كذلك شكوانا من الرجال، فأي الفريقين محق في دعواه؟! وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد التذمر والشكوى؟! لا أظن مريضا طاوع أنينه فشفاه، ويقول المثل العربي: لا دخان بلا نار، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: إن الآراء التي يظهر لنا أنها خطأ لا يمكن أن تكون خطأ محضا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب، إذن نحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها، كلنا متظلمون وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم، فهم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء المسئولية زادنا اختلافا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر فيه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم يخلق الله الرجل والمرأة ليباغضا ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون إذ في ائتلافهما بقاؤه، ولو انفرد الرجل في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.
تدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح للبقاء في الدنيا: النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره، عارضتها بقولي: ولأجل من نتجشم تلك الصعاب ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟! وإذا قلنا: النساء؛ لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء، لقلت: ومن أين يأتي النشء ولا أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولن نتوسع في الافتراضات والمتوهمات، فقد كان الله قادرا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على خلق مثله، ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو مثال سيدنا عيسى عليه السلام، فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم أو الشمس والماء للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء فإن اللبن بالتحليل يحتوي الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدرج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل جسم حي نام، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة - على لطافتها وصغر حجمها - تحتوي شكلين مختلفين من العروق أحدهما لقاح للآخر، كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع وسلط عليه الريح تسفيه إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريا نبت ونما وصار شجرا، فنظام التوالد مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونباتات لا شك فيه البتة، وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون واحدا أو يفرق قليلا جدا، وهذا دليل على أن الله خلق رجلا لكل امرأة، هذا بقطع النظر عن الحروب وغيرها، مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق. إذن، فمحاولة الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب، لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولا في نقط الخلاف.
يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها، فليت شعري! ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا؟! كانت المرأة في العهد السابق تغزل الخيط وتنسج ثيابا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل فأبطلوا عملها من هذا القبيل، وكانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحا بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزا، فاستنبطوا ما سمونه (الطابونة)، واستخدموا فيها الرجال فأراحونا من ذلك العمل الكثير ولكنهم عطلوا لنا عملا، وكانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها، فابتكروا لنا آلة للخياطة، يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون لرجالنا وأولادنا، وكنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير فتنظف الرياش والأثاث، وكانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن، أو لبيوت سادتهن فاخترع الرجال القصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب، فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله، وتذهب لتملأ من النهر وقد يكون بعيدا؟! أو هل يعقل أن متمدينة ترى خبز (الطابونة) نظيفا طريا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له أو وحيدة لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بل إنهن يستعضن عن الرحا بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.
ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال كثيرا من أعمالنا، أو أقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح ضروريا لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم فإن الجزاء الحق من جنس العمل.
Bog aan la aqoon