يسير النيل للقيام بمغامرة رابعة، ولا يبصر النيل خصمه، ولكنه يشعر بنتائج اعتدائه فيزيد همه، وهنالك ما يضغطه، وهنالك ضغط أشد هولا من جميع ما حدث من عهد سقوطه الأعظم وسيره في المناقع أيام شبابه، وهنالك ضغط أدعى إلى الهلع مما في الشلالات أيام كهولته، وما فتئ مستواه يرتفع من غير أن يتلقى ماء مطر، والنهر يعلو حتى مسافة 350 كيلومترا من مجراه الفوقاني قبل أسوان، بيد أن هذا ليس الفيضان الأكبر الذي تسفر عنه أمطار الصيف النازلة على جبال الحبشة فتصب في النيل الأزرق، وتقف النيل قوى حافلة بالأسرار.
ولو كان النيل ذا ذاكرة لقال في نفسه إنه لم يحدث منذ ألوف السنين من حياته أن غمر البلاد في الشتاء خلافا لما اتفق له منذ ثلاثين عاما، وأكثر من ذلك إلغازا هو أن مياهه ترتفع وقت الحصاد وتهبط في الصيف وقت الفيضان.
والآثار الدالة على سرعة هذا التحول في الشتاء كثيرة، ومنها انتصاب شعاف
1
النخل في النهر من غير أن تنبت النخيل فيه، ويمس حيزوم
2
الباخرة جدرا فيحولها إلى غبار كما لو كانت مدينة إيس
3
قد بلعت هنا . ولكن تلك الجدر ليست سوى أكواخ ترابية أقامها فلاحون فترجع إلى الذي جهزها بالمادة، ترجع إلى أبيها النيل، ويبرز رأس الناعورة من بين الأمواج، وتكون جزيرات عندما تسقط النخل ويتراكم الطين هنالك، وهي ليست من نوع الجزر العائمة في المناقع. والأمر هو أن الجزر القديمة تبرز في الزمن الراهن، فيعود أهلها إليها بالزوارق، وينمل الأولاد في رءوس النخيل البارزة من الماء والمستورة بالثمار، وإن ظلت شبه غارقة تسعة أشهر من شهور السنة.
وينتصب على التلال المتصلة بالضفاف الجديدة بيوت من طين لازب، ومن حجر في بعض الأحيان، لظهور الغرانيت ثانية هنا، وتبدو هذه البيوت - تحت طلائها الكلسي الجديد - متجهمة كالحصون في ألواح النحاس القديمة، ولا ترى لهذه البيوت نوافذ، ولا تضيء الشمس وجوهها، وتشعر شرفاتها الغريبة بأنها مهجورة، وتذكرنا بالنماذج التي وضعها مهندس لتغيير المنظر.
Bog aan la aqoon