244

Nil Hayat Nahr

النيل: حياة نهر

Noocyada

ومن شأن ذلك التطور أن يعين مصير مصر والسودان في نهاية القرن العشرين، ولم يجلب الفاتح المصري في القرن التاسع عشر شيئا إلى السوداني؛ ولذا لا يوحي المصري إلى السوداني بأقل احترام، وكان لأهل شمال ذلك القطر الكبير ما له من اعتقاد يصل المؤمن بالله وبالقدر وبأدب الدولة أحسن مما يصل الإيمان النصراني الأبيض به، وإليك كيف يعبر عن مشاعر السودانيين نحو البيض هرولد مكمايكل الذي هو من أعلم الناس بالسودانيين: «لهؤلاء البيض الأفذاذ نيات طيبة لا ريب، ولكنهم ذوو تصور هزيل حول الدين، وينم كثير من عاداتهم على نقص في الذوق السليم.»

وكان هذا الشعب المباع المعبد قد ثار بطفرة من النفرة فخدعه زعماؤه وداسوه بأقدامهم، ثم استولت عليه كتائب من البيض فانتقل بغتة من الظلمات إلى نور الغرب. وكان السودانيون في أوائل هذا القرن، ومنذ مدة أقل من خمسين سنة، ينقلون في أوروبة زمرا زمرا مع أسرهم من حديقة حيوانات إلى حديقة حيوانات فيزربون كضواري قطرهم عرضا لرقص بلادهم وللصيد في ديارهم ترويحا للبيض. واليوم ترى حفيدهم جالسا أمام مجهر في معهد المباحث بالخرطوم ليدقق في جراثيم النيل!

أجل، ليس الاثنا عشر ألف سوداني الذين يعرفون القراءة غير جزء صغير من سودانيين بلغ عددهم حديثا ستة ملايين، بيد أن معرفة هذه الأقلية تنتشر بأسرع مما في القرون الوسطى، في زمن الرهبان الذين كان قليل منهم أعلى من معاصريهم، ولم يعانون سلطان الفلاحين الذين يبطئون في التطور مثلهم؟ أو تجد في القاهرة مدرسة لأبناء الفلاحين فيها من وسائل التسلية ما في كلية غوردون القائمة على ضفاف النيل والقريبة من قصر الحاكم فيخرج منها وقت الظهر خمسمائة طالب لابس جلبابا أبيض فيتنزهون اثنين اثنين زاهين في حدائق الخرطوم كفرسان برسيفال؟

4

وأنشأ البيض مدارس بلغت من العدد ألفا وخمسمائة لثلاثين ألف طالب، ومن هذه المدارس كليات يتدرب فيها ضباط وموظفو بريد وأطباء، ويزيد عدد المصريين بسرعة، وسيكون جميع الوادي الأدنى مزروعا حوالي سنة 1950 فلا يكفي لإطعام سكانه، وسيسفر ذلك عن هجرة ما يفيض من الفلاحين نحو مجرى النيل الأعلى طلبا لأراض جيدة في السودان الذي يعد هريا

5

تابعا لهم، وكان الفلاحون قد ساروا على هذا الدرب بعد طرد ملوك إثيوبية فيما مضى.

ويضاف جميع ذلك إلى الشعور القومي الذي يقتبسه أصحاب الجلود الملونة من البيض فيدل على تحولات عنيفة تعنى إنكلترة بتعديلها. ومن قول اللورد لوغارد الذي هو آخر أفريقي عظيم: «يمكننا أن نري الزنوج في جيلين أو ثلاثة أجيال حقيقة أمرنا، ثم يدعوننا إلى الرحيل، وسنضطر إلى ترك البلاد لأصحابها مع جعلهم يشعرون بأننا في الحقل التجاري أصدقاء أكثر أمانة من البيض الآخرين.» ويذهب المريشال ليوتي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول: «الطبيب هو ذريعة الاستعمار الوحيدة.» وهذا هو رأي اثنين من رواد دور الفتح.

وسهلت جهود إنكلترة في السودان بفتوح العلم الحديث، وزادت بعد محاربة المهدي أهمية الخط الحديدي، الذي يقطع منعطف النيل فيختصر مسافة 350 كيلومترا، فينقلكم هذا الخط من القاهرة إلى الخرطوم في مائة ساعة، وتنقلكم الطائرة بين هذين المصرين في أربع عشرة ساعة، وينقلكم الخط الحديدي بين العطبرة والبحر الأحمر في سبع وعشرين ساعة، ويصدر في كل سنة من بور سودان، حيث أعيد بناء المرفأ القديم غير الصالح، ثلاثة ملايين طن تبلغ قيمتها خمسة ملايين جنيه، وهذا هو طريق البحر الأحمر المؤدي إلى داخل أفريقية، والذي يبحث عنه منذ القديم، وتسير في كل أسبوع سفن نحو النيل الأعلى، وحفرت آبار على طول طريق القوافل، وأنشئت مستودعات لزيت الطائرات، وتوزع حبوب في سني المجاعات، وينتج الصمغ العربي بمقادير أكبر مما في الماضي فيوجب ذلك ابتياع كثير من الحلويات.

وينال الملح بما يحدث على ساحل البحر الأحمر من تبخر، ويكون صديق الإنسان الطبيب مستعدا، ويحمى الناس من الرق الذي لم يبق له أثر في غير حدود الحبشة لما هي عليه من طول يتعذر معه رقابتها، وليس جميع ذلك من فضائل عصرنا، ولكنه من عمل الحكومة القائمة في السودان، ويظهر مصداق هذا عند مقابلة السودان بالمستعمرات الأخرى، حتى الزيغان

Bog aan la aqoon