وهنا ترى لزاما علينا أن نعود فنذكر القارئ بتلك الصفة الفريدة في شخصية نيتشه؛ أعني تركيز حياته حول مجموعة من المشاكل الفردية كانت هي قوام هذه الحياة. فهذا الطابع الفكري الخالص لحياة نيتشه جعله يخلط بين المحتوى الثقافي لذهنه، وبين الواقع الفعلي الذي يحيا فيه؛ ومن هنا كانت النظرة اليونانية هي المسيطرة على تفكيره، وكانت حلوله لمشاكل عصره مستمدة من روح العصر اليوناني، برغم التفاوت الهائل بين طبيعة العصرين، والتقدم الكبير الذي أحرزته الإنسانية في ميدان العلاقات بين الطبقات الاجتماعية منذ ذلك الحين. فنظام الرق اليوناني، الذي أنجب تلك العقول النظرية الكبيرة، هو أصلح النظم في نظر نيتشه، وكما دعا أفلاطون وأرسطو إلى توفير الراحة «للأحرار» من الناس حتى يتفرغوا للمهام العقلية الكبيرة، فكذلك يدعو نيتشه إلى نوع من نظام الرق، حتى يمكن أن توجد طبقة أرستقراطية تنهض على أيديها الحضارة الحديثة. وهكذا نجد نيتشه يتجاهل طبيعة التصور الاجتماعي تجاهلا تاما، ويتنكر للنظرة التاريخية التي كان هو ذاته من أكبر من نبهوا إليها. فتفكيره في هذا الصدد هو أشبه بتفكير أهل الكهف، وهو بالفعل من أسرى الكهف العقلي الذي احتبس فيه ذهنه ، حتى غدت المشاكل الثقافية القديمة فيه حية تسعى في عالمنا هذا، وتفرض نفسها على عصرنا الحديث، برغم تنافرها الصارخ معه.
ولو تعمق نيتشه في الأمر قليلا، لأدرك أن الفئة التي تملك زمام الأمور نتيجة لأوضاع اجتماعية معينة ليست هي بالضرورة أصلح الفئات بطبيعتها، ولأدرك أيضا أن رأيه في التمايز الطبيعي بين الطبقات، ودعوته إلى إبقاء الطبقات الدنيا على حالها، إنما يفترض مقدما أن تأثير الطبيعة في هوية مع تأثير الأوضاع الاجتماعية، وهو فرض مخطئ كل الخطأ. وليس لنا أن نذهب بعيدا؛ فنيتشه ذاته يسخر، في مواضع معينة، من أغنياء عصره، وخاصة أصحاب الأعمال منهم، ويؤكد أنهم ليسوا أصلح الناس على الإطلاق، وذلك إذ يقول: «لقد كانت العلاقة بين الجنود وقوادهم دائما أرفع بكثير من علاقة العمال بصاحب العمل ... فهنا يتحكم قانون الحاجة فحسب؛ أي إن المرء يريد أن يعيش، وعليه أن يبيع نفسه؛ غير أنه يحتقر ذلك الذي يستغل هذه الحاجة ويشتري منه العمل. ومما يسترعي الانتباه أن الخضوع لأشخاص أقوياء، يثيرون الخوف والرعب، أي الخضوع لطغاة وقواد جيوش، لا يكون أليما بقدر الخضوع لأشخاص غير معروفين، لا أهمية لهم، كما هو الحال في كل رجال الصناعة الكبار؛ فالعامل لا يرى في صاحب العمل عادة إلا شخصا تافها يتصف بالخديعة والجشع، ويستغل كل حاجاته؛ شخصا لا يهمه على الإطلاق أن يعرف اسمه أو شكله أو خلقه أو طبعه. ومن الجائز أن كل رجال الصناعة وكبار رجال الأعمال في التجارة يفتقرون تماما - حتى الآن - إلى كل صفات «العنصر الرفيع» وسماته التي بدونها لا تكون للشخصية قيمة؛ ولو كان لهم ذلك السمو الذي تضفيه عراقة الأصل على نظراتهم ومحياهم، فربما لم تكن تقوم لاشتراكية الدهماء قائمة؛ ذلك لأن الدهماء يمكنهم أن يتحملوا كل أنواع العبودية، بشرط أن يثبت من يعلو عليهم أنه أرفع منهم بحق، وأنه «ولد» لكي يأمر، وذلك عن طريق صورته الرفيعة! ... غير أن الافتقار إلى الصورة الرفيعة، والتفاهة الوضيعة التي يتصف بها أصحاب المصانع بأيديهم الحمراء السمينة، تثير في ذهن العمال تلك الفكرة؛ وأعني بها أن الاتفاق والحظ وحدهما هما اللذان رفعا الواحد فوق الآخر، فتكون النتيجة أن يقول العامل لنفسه: حسنا، فلنجرب نحن الاتفاق والحظ، ولنلق نحن بالنرد! وهنا تبدأ الاشتراكية.»
10
وبغض النظر عن كل الأفكار غير العلمية التي ينطوي عليها هذا النص، فحسبنا أن نيتشه يعترف فيه بأن مالكي زمام الأمور في عصرنا هذا ليسوا هم أصلح الناس، ولا يمتازون عن أولئك الذين يخضعون لهم في شيء؛ ففي هذه الفكرة وحدها رد نهائي على كل الافتراضات التي حاول نيتشه أن يثبت بها وجود هوية بين التدرج في الأوضاع الاجتماعية الحالية للناس، وبين تدرجهم الطبيعي. وليس مما يهمنا في قليل أو كثير أن تكون تلك صفة يعيبها على عصرنا، أو أنه يلوم أغنياء العصر لأنهم ليسوا من أصحاب «الصورة الرفيعة»، ولأنهم بتفاوتهم قد جعلوا للاشتراكية مبررا، وإنما الذي يهمنا في كل هذا هو أنه قد اعترف بأن هذه هي طبيعة عصرنا؛ وهذا يستتبع حتما القول بأن تغيير الأوضاع الاجتماعية في مثل هذا العصر ليس مستحيلا. وليس أمرا مجافيا للمنطق، ما دامت الطبقات الدنيا قد تكون أصلح من العليا.
وليس معنى هذا أن نيتشه كان مخطئا كل الخطأ حين قال بفكرة التفاوت الطبيعي، وكل ما في الأمر هو أنه قد أخطأ حين أكد أن الاشتراكية تقضي على هذا التفاوت الطبيعي بين الناس؛ فالفهم الصحيح للأمور يثبت لنا وجود نوع من الاشتراكية هو - بعكس ذلك - المقدمة الأولى للكشف عن التدرج الطبيعي؛ ذلك لأن ترك الأمور تسير تبعا لما تقول به فلسفة الحرية المطلقة، يؤدي إلى القضاء على التدرج الحقيقي، أو الطبيعي، بين الناس، وإلى إحلال تدرج آخر تلعب فيه العلاقات الاجتماعية الدور الأكبر، ولا تتحكم فيه المواهب الطبيعية، بل الأوضاع المصطنعة التي خلقها مجتمع «حر» لا توجهه خطة، وإنما تلعب فيه الوراثة والمصادفات، والخديعة في كثير من الأحيان، الدور الأساسي؛ فالوسيلة المثلى للكشف عن التفاوت الطبيعي بين الناس هي أن تتيح لهم جميعا نقطة بداية متساوية، حتى يتسنى لنا تقدير المواهب الرفيعة فيهم على أساس حقيقي، لا على أساس مصطنع، وحتى تكون الطبقات الرفيعة هي الأرفع بطبيعتها، لا بثروتها أو نفوذها، ولا جدال في أن تحقيق هذا التساوي في نقطة البداية يقتضي نوعا من التوجيه والتخطيط والتنظيم الاجتماعي، هو الذي تسعى الاشتراكية إلى تحقيقه. فكفالة تكافؤ الفرص للجميع، حتى يظهر من هو الأصلح بالفعل فيهم، هو الشرط الأول لكشف التدرج الطبيعي بين الأفراد، وهو في نفس الوقت ما لا يمكن أن يتحقق في ظل مجتمع تسوده فلسفة الحرية المطلقة، بل في شكل من أشكال الاشتراكية. وهكذا يتضح أن الهدف الذي سعى إليه نيتشه ذاته يفترض الاشتراكية مقدما، وتلك بلا شك نتيجة كان يمكنه الوصول إليها لو كان قد فكر في مشاكل عصرنا بروح هذا العصر ذاته، لا بروح مجتمع الرق اليوناني! ...
مشكلة المرأة
يلخص رأي نيتشه في المرأة عادة بكلمته المشهورة: «أذاهب أنت إلى المرأة؟ لا تنس إذن سوطك!» ولكن، ينبغي قبل أن نعرض تفاصيل الحملة القاسية التي وجهها نيتشه إلى المرأة، أن ندرك الظروف التي مر بها في علاقاته مع أهم من قابل في حياته من النساء، فقد تلقي هذه الظروف بعض الضوء على تلك الحملة.
وأول ما ينبغي علينا أن نذكره هو أن علاقات نيتشه النسائية كانت محدودة، وذلك حين بلغ سن النضج. أما في طفولته، فيبدو أن البيئة النسائية الخالصة التي عاش فيها بعد وفاة أبيه، والتي كانت تشمل أمه وأخته وجدته وعمتين عانستين، يبدو أن هذه البيئة لم ترقه كثيرا. وبالفعل لا نجد لدى نيتشه تعلقا كبيرا بأمه - على عكس حاله مع أبيه - كما أن علاقته بشقيقته لم تكن دائما على ما يرام، وخاصة بعد زواجها من أحد المتعصبين ضد الجنس السامي.
وفي وسعنا أن نقول: إن فشل نيتشه في علاقاته النسائية كان من أسباب قسوة حملته على المرأة، ولندع جانبا صلته بملفيدا فون ميزنبج
Malwida von Meysenbug ، التي كانت أكبر منه سنا، وترعاه رعاية فيها من روح الأمومة الشيء الكثير؛ لندع جانبا هذه الصلة المحايدة، ولنتحدث عن علاقات أخرى كانت أعمق أثرا في حياته. فحين عرف نيتشه الآنسة «لو سالومي»
Bog aan la aqoon